آية الله الشهيد مرتضى مطهري
*علم العرفان
يُعدّ هذا العلم من العلوم التي نشأت في حضن الثقافة الإسلامية ونمت وتكاملت في ربوعها، والعرفاء أنشأوا فرقة إجتماعية في عالم الإسلام لها صفات وخصائص خاصة خلافاً لسائر الطبقات الفكرية الأخرى من قبيل الفقهاء والحكماء وغيرهم والعرفاء لا ينظر إليهم على أنهم مذهب تشعب عن الإسلام وهم أيضاً لا يدّعون مثل هذا الأمر فهم حاضرون في كافة الفرق والمذاهب الإسلامية في نفس الوقت الذي يعتبرون جماعة متمايزة متصلة ومترابطة اجتماعياً ذلك أن المكونات العامة لأفكارهم ومعتقداتهم وحتى آدابهم الخاصة في المعاشرات واللباس وأحياناً في المظهر أعطت صفة خاصة للعرفاء. وبالتأكيد ظهر دائماً وما يزال- وخاصة بين الشيعة- عرفاء لا يتميزون بالظاهر عن الآخرين في شيء وهم في نفس الوقت من عمق أهل السير والسلوك العرفاني، وفي الحقيقة أن العرفاء الحقيقيين هم من أهل هذه الطبقة، لا أولئك الذين اخترعوا من تلقاء أنفسهم مئات الآداب وابتدعوا ما شاؤوا من البدع.
* أقسام العرفان
إذا نظرنا إلى العرفان كبناء علمي وثقافي وجدناه ينقسم إلى قسمين:
1- القسم العملي وهو عبارة عن ذلك الجانب الذي يبين العلاقات والواجبات المفروضة على الإنسان مع نفسه ومع العالم ومع الله ويوضحها ويسمى هذا القسم من العرفان "بالسير والسلوك" وفيه يوضَّح للسالك كيف يجب أن يبدأ ومن أين يسلك للوصول إلى قمة الإنسانية المنيعة وهي "التوحيد" وما هي المنازل والمراحل التي ينبغي أن يطويها بالترتيب وماذا يجري عليه من أحوال أثناء الطريق وبالتأكيد ينبغي للسالك أن يعبر هذه المنازل تحت إشراف ومراقبة إنسان كامل وناضج قد قطع هذا الطريق واطَّلع على رسومه ومعالمه.
2- القسم النظري ويرتبط بتفسير الوجود أي معرفة الله والعالم والإنسان.
المسألة الأولى التي ينبغي طرحها هنا هي: هل أن العرفان الإسلامي هو من قبيل الفقه والأصول والتفسير والحديث؟ أي أنه من العلوم التي استنبط المسلمون أصولها وأبنيتها وموادها الأصلية من الإسلام، ثم اكتشفوا لها قواعدَ وضوابطَ وأصولاً أم أنه من قبيل الطب والرياضيات التي وجدت لنفسها طريقاً إلى عالم الإسلام من الخارج ثم وفي ظل الثقافة الإسلامية نمت وتكاملت على يد المسلمين، أم أن هناك شقاً آخر في القضية؟ العرفاء يختارون الشق الأول وليسوا مستعدين أبدً وبأي شكل من الأشكال أن يختاروا شقاً آخر. إلاّ أن لبعض المستشرقين نظرية يصرّون فيها على أن الأفكار العرفانية اللطيفة والعميقة قد دخلت جميعاً من خارج العالم الإسلامية إليه. فيقولون أحياناً إن جذوره مسيحية وأن الأفكار العرفانية قد نشأت نتيجة ارتباط المسلمين بالرهبان المسيحيين، وأحياناً يعتبرونها ردة فعل إيرانية ضد الإسلام والعرب. وقد عدّها بعضهم حصيلة الفلسفة الأفلاطونية الجديدة. واتجه البعض الآخر إلى اعتبارها من نتاج الأفكار البوذية، كما سعى مخالفو العرفان في العالم الإسلامي وما زالوا لأجل تثبيت نظريتهم في اعتبار كل من العرفان والتصوف غريبين عن الإسلام والقول بأن جذورهما غير إسلامية. النظرية الثالثة تقول بأن العرفان قد استوحى أصوله الأولى من الإسلام، ثم بيّن لهذه الأصول قواعد وضوابط، هذا بالإضافة إلى استفادته من التطورات والتحولات الخارجية، خاصة الأفكار الكلامية الفلسفية.
* نظريات وآراء
يدّعي أنصار النظرية الأولى- وتقريباً أصحاب النظرية الثانية- أن الإسلام دين بسيط لا تكلّف فيه وعمومي الفهم وهو خال من كل أشكال السر والغموض وصعوبة الفهم. فالأساس الاعتقادي للإسلام عبارة عن التوحيد. فالتوحيد في الإسلام يشبه المنزل. وبنَّاؤه موجود في الإسلام يشبه المنزل. وبنَّاؤه موجود ومتمايز عن غيره. فالعالم له صانع منفصل عنه. وأساس رابطة الإنسان مع متاع الدنيا بنظر الإسلام هو الزهد. والزهد هو الإعراض عن متاع الدنيا الفانية لأجل الوصول إلى النعيم الخالد في الآخرة. وإذا تجاوزنا هذه النقطة نصل إلى سلسلة من التعاليم البسيطة التي يتكفل (علم الفقه) ببيانها. وينظر هذه الطائفة فإن ما قاله العرفاء وتحدثوا به حول التوحيد هو غير التوحيد الإسلامي لأن التوحيد العرفاني عبارة عن وحدة الوجود وأنه لا يوجد شيء غير الله وشؤونه وأسمائه وصفاته وتجلياته. أما السير والسلوك العرفاني فهو أمر آخر غير الزهد الإسلامي حيث تطرح في السير والسلوك سلسلة من المعاني والمفاهيم من قبيل العشق وحب الله، الفَناء في الله، تجلي الله على قلب العارف وهذا ما لا وجود له في الزهد الإسلامي.
ثم يقولون إن الطريقة العرفانية هي خلاف الشريعة الإسلامية، لأن فيها من الآداب والمسائل التي لا علم للفقه بها. وترى هذه الجماعة أن خيرة أصحاب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله الذين ينسب العرفاء والمتصوفة أنفسهم إليهم ويعدونهم أئمة لهم لم يكونوا أكثر من زهّاد لم يطلِّعوا على شيء من السير والسلوك العرفاني أو التوحيد الذي يعتقدون به. فقد كانوا رجالاً معرضين عن متاع الدنيا ومتوجهين إلى عالم الآخرة، والأصل الحاكم على أرواحهم هو الخوف والرجاء: الخوف من عذاب جهنم ورجاء ثواب الجنة، وفقط. والحقيقة أن آراء هذه الطائفة ليست قابلة للتأييد أبداً، فالأصول الإسلامية الأولى والتعاليم الأصلية أغنى بكثير مما افترضه هؤلاء لجهلهم أو تعمُّدهم . فليس التوحيد الإسلامي بهذه البساطة وعدم المضمون كما تحدثوا عنه، ولا المعنويات الإنسانية منحصرة في الإسلام بالزهد الجاف، ولا أن خيرة أصحاب الرسول الأكرم قد كانوا على ما وصفوهم به وكذلك الآداب الإسلامية فهي ليست محدودة بأعمال الجوارح والأعضاء. وسوف نبين هنا بعض المطالب التي تظهر بصورة إجمالية إن التعاليم الأصيلة للإسلام قد استطاعت أن تكون ملهماً لسلسلة من المعارف العميقة في مود العرفان النظري أو العملي.
* القرآن ملهم المعنويات العظيمة
القرآن الكريم في باب التوحيد لا يصور الله والخلقة أبداً بشكل المنزل والبنّاء. القرآن يعرّف الله بعنوان خالق العلم وفي نفس الوقت يقول أن ذاته المقدسة موجودة في كل مكان ومع كل شيء: ﴿أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ البقرة/115. ومن البديهي أن مثل هذه الآيات تدعو الأذهان إلى توحيد أرفع وأسمى من توحيد العوام. فقد جاء في رواية في كتاب الكافي: أن الله تعالى كان يعلم أنه سيأتي قوم في آخر الزمان متعمقون في التوحيد ولهذا أنزل سورة التوحيد ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾. وفي مورد السير والسلوك وطي مراحل قرب الحق حتى آخر المنازل يكفي أن نلاحظ الآيات المتعلقة "بلقاء الله" و"رضوان الله"، والآيات المرتبطة بالتوحيد والإلهام وخطاب الملائكة مع غير الأنبياء- كالسيدة مريم عليها السلام- وخاصة آيات المعراج للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله. ونجد في القرآن الكريم أيضاً تلك الآيات التي تتحدث عن النفس الأمارة، النفس اللّوامة والنفس المطمئنة، وتلك التي تتحدث عن العلم الأفاضي واللدني والهداية بكل مراتبها التي تحصل نتيجة المجاهدة. ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ العنكبوت/69.
ففي القرآن ذكرت تزكية النفس بعنوان أنها العامل الوحيد للفلاح والفوز: ﴿قد أفْلَحَ مَنْ زَكّاها وقَدْ خَابَ مَنْ دسَاها﴾ الشمس /9- 10. وفي الكتاب الشريف تكرر الحديث عن الحب الإلهي الذي هو فوق كل العلاقات الإنسانية. وذكر تسبيح وتحميد جميع ذرات العالم وإن كنا لا نفقه هذا التسبيح والتحميد. أما الإنسان فهو في فطره نفخة إلهية. لقد كانت هذه الآيات وغيرها كافية لتكون ملهماً للمعنويات العظيمة والواسعة في مورد الله والعالم والإنسان، وبالأخص في مورد علاقة الإنسان بالله.
* الأفكار والمعاني الروحية:
إضافة إلى أن الروايات والخطب والأدعية والاحتجاجات الإسلامية والتراجم التي تحكي عن أحوال العظام ممن تخرجوا من مدرسة الإسلام كل هذه تشير إلى أن ما كان في صدر الإسلام لم يكن مجرد الزهد المتحجّر أو العبادة لأجل الأجر والثواب. فإننا نقف في الروايات والخطب والأدعية والاحتجاجات على معانٍ عظيمة جداً وهي في غاية السمو والرفعة، أما تراجم أحوال شخصيات مرحلة صدر الإسلام فإنها تحكي عن سلسلة من الواردات الروحية والمكاشفات القلبية والحالات المعنوية. وهذه حياة وحالات وكلمات ومناجاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله الزاهرة بالعشق والسمو المعنوي والإلهي والمليئة بالإشارات العرفانية. فأدعيته صلى الله عليه وآله تنبض بالمعاني والإشارات التي يستند إليها العرفاء ويستشهدون بها.
وأمير المؤمنين عليه السلام الذي يتفق أغلب أهل العرفان والتصوف على أن سلسلاتهم ترجع إليه عليه السلام وتبدأ منه، فإن كلماته أعظم ملهم في عالم المعنويات والمعرفة. ونشير هنا إلى نص ورد في نهج البلاغة: في الخطبة 220 يقول عليه السلام: "وإن الله سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب تسمع به بعد الوفرة وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة، وما برج لله عزت آلاؤه في البرهة بعد البرهة وفي أزمان الفترات عباد ناجاهم في فكرهم وكلَّمهم في ذوات عقولهم". وإذا نظرنا إلى الأدعية الإسلامية، وخاصة الأدعية الشيعية التي هي كنوز المعارف، مكن قبيل دعاء كميل ودعاء أبي حمزة الثمالي والمناجاة الشعبانية وأدعية الصحيفة السجادية لأطلعنا على أعلى الأفكار المعنوية والمسائل الروحية. فمع وجود كل هذه المصادر هل نبقى بحاجة إلى أن نبحث عن مصدر خارجي؟!
* اعترافات الغربيين:
المستشرقون يبحثون عن مصدر ومنبع آخر غير الإسلام الهم وحرك عالم المعنويات في العرفان غافلين أو متغافلين عن هذا البحر العظيم. أيمكننا أن ننكر كل هذه المصادر لنؤيد بعض الفرضيات التي قدمها أولئك المستشرقون وأتباعهم الشرقيون؟! ولحسن الحظ فقد جاء أخيراً أفراد أمثال نيكولسون الإنكليزي وماسينيون الفرنسي من الذين كانت لهم مطالعات واسعة في العرفان الإسلامي في العرفان الإسلامي وهم مورد قبول الجميع ليعترفوا بصراحة أن المصدر الأصلي للعرفان الإسلامي هو القرآن والسنَّة. يقول نيكلسون: إن أصول الوحدة في التصرف قد ذكرت في القرآن أكثر من أي مكان آخر. وكما يقول النبي أن الله تعالى قال: "لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها".