قصة الهجرة لإمامنا الخميني العظيم، هي قصة طويلة وشيقة
ومليئة بالمعاناة والقهر والصبر والتحمل، صفات تصنع من المهاجر في سبيل اللَّه
شخصيةً مختلفة ومتميزة وتصوغ إنساناً متفرّداً بصفات العظمة، فكأنما لا سبيل إلى
تكوُّن تلك الشخصيات النادرة والنفوس العالية إلا عبر طي مسيرة الهجرة والغربة
وتحمل مرارتهما وصعابهما.
ولعمري فإن هجرة الإمام الأولى هي نفس ولادته في عصر غير
عصره، وجيل غير جيله، ولادة إنسان لم يخلق بوعي جيله بل بوعي الأجيال الآتية،
لتتحول فرادة الشخصية لديه إلى غربة وهجرة قسريتان لازمتاه منذ الولادة وحتى
الشهادة... وإذ بالمحطة التالية في هجرته هي خسارته لأبيه وهو في الخامسة من عمره
ليفتقد حنان وعطف الأبوة، وتشاء الأقدار بعد عشرٍ من السنين أن يفتقد عاطفة الأم
والعمة دفعة واحدة لتتكرس الغربة وليتواصل طريق الهجرة نحو مستقبل واعد ومجيد،
مستقبل لا يرفع أهله بغير العلم وطلبه الذي هو فريضة على كل مسلم ومسلمة، فإذا
بالهجرة التالية هي مغادرة مسقط الرأس وذكريات الصبا في خمين نحو أراك القريبة
ومنها إلى قم البعيدة نسبياً حيث آية اللَّه الحائري يؤسس هناك حوزة للعلوم الدينية
كانت المنطلق الأساس لكل مهاجر يريد العروج نحو الملكوت الأعلى، عروج العقل والروح
والعلم والإيمان.
* المهاجر من بيت النفس
في قم المقدسة عُرف الإمام بالطالب والأستاذ الذي جاء الحوزة بعد أن ربى نفسه على
فضائل الأخلاق ومعالي القيم، فكان الطالب الأستاذ، والأستاذ المربي، وكان الإمام
كذلك لأنه هاجر إلى اللَّه بنفسه وكله قبل أن يهاجر إلى الحوزة بجسمه وعقله، وهو
المهاجر إلى اللَّه منذ نعومة أظفاره، وكيف لا يكون المجاهد مهاجراً، وكيف لا يكون
الخميني الفتى مجاهداً حتى من قبل أن يبلغ الحلم، وهو يرابط في خنادق الجهاد
والدفاع في خمين إلى جنب الرجال المدافعين عنها مقابل المستبدين من الباشوات
والاقطاعيين الذين قتلوا بالأمس القريب أباه الذي كان يجاهدهم هو الآخر دفاعاً عن
الأرض والعرض والمال والكرامة، أوليس من يقتل في سبيل أرضه أو عرضه أو ماله فهو
شهيد...
أوليس من يدافع عن كل ذلك في سبيل اللَّه هو مجاهد بل مهاجر قد خرج من بيت
النفس كما كان يحلو للإمام أن يفسر قوله تعالى:
﴿ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى
اللَّه ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على اللَّه﴾، فالخروج من الدار والوطن
في سبيل اللَّه هجرة مباركة ومقصودة في الآية ولكن الأعمق والأعظم هو الهجرة من بيت
النفس وتطليق الدنيا والاتصال باللَّه وحده، أن بيت النفس هو الأولى بالمهاجرة عنه
وهي الهجرة إلى اللَّه الحكم العدل والحق المطلق. إن هجرة الإمام المبكرة لبيت
النفس حفظته من الشرور في كل مراحل حياته، فلم يقع في فخ الاغترار بالأتباع
والمصفقين والمادحين وهو الأستاذ والفاضل بل والمرجع الذي يشار إليه بالبنان في
الحوزة، ولم يعنِ الإمام شيئاً أن تصطف بعد ذلك الملايين لاستقباله والهتاف بحياته،
فلم تكن جميع المقامات المادية والمعنوية والعلمية والسياسية تثير في نفس الإمام
المهاجر أثراً من علو أو رفعه أو تفوق إذ ليس في الدار من ديَّار غير صاحبها
وبارئها، فقد نظفت وطهرت من كل ما سوى اللَّه ليحلّ فيها فقط نور العزة وتصبح بيتاً
للحق من غير شريك.
* المهاجر داخل الوطن
لقد عاش الإمام مهاجراً حتى في أعز أوطانه المستجدة على قلبه، قم المقدسة، حيث طوى
فيها عقوداً من عمره الشريف طالباً وعالماً، مدرّساً وناشطاً وثائراً رافضاً للظلم،
وكانت هجرته تتمثل في غربته عن مجتمعه أو قل غربة مجتمعه عنه، وهو يرى أكثر الناس
بمن فيهم العلماء وعليِّة القوم بعيدون جداً عن ما ينبغي وما يجب فعله وقوله. غير
أنه كان الغريب الذي لا تبعده غربته وهجرته وبالتالي فرادته وتميزه عن مجتمعه وشعبه
ومحيطه مهما كانت قسوتهم وهجرهم ونأَيهم مريراً، فلم يدفعه كل ذلك إلى العزلة بل
كان يزداد منهم تقرباً ومحبة بفضل صبره وتفانيه وإيثاره، فمحبة الخلق من محبة
اللَّه وهم عياله، والهجرة إليه تعالى لا تتحقق إلا بعد الهجرة إليهم وفيهم ومنهم،
وما زاد من الغربة في زمن الإمام هو اختناق المجتمع في ذلك العصر بحكم جاهل وظالم
وهو حكم الملك رضا خان، حيث وصف الإمام أوضاع ذلك العصر بالبيتين التاليين:
أين نتوجه للشكوى من جور رضا خان
وقد حبست الأنفاس في الصدور
كيف نصرخ ولم يبق من الأنفاس
ما يمكِّننا من الصراخ!
إن المسيرة الطويلة لهجرة الإمام وما صاحبها من صبر وتحمل وإيثار من جهة ومحبة
الخلق التي هي محبة للحق، وإن أداروا ظهورهم للحق ردحاً من الزمن، من جهة ثانية بنى
للإمام رصيداً كبيراً من المصداقية والمحبة في قلوب ملايين الإيرانيين، ما ساعد
بقوة في إعلان الإمام عن اعتراضاته الشديدة والمتكررة للملك محمد رضا خان الظالم بل
ومناجزته ومقارعته وصولاً إلى الثورة العارمة، حيث ما كان لأحد أنْ يجرؤ على ذلك
سوى المهاجر العنيد والقائم للَّه روح اللَّه الموسوي الخميني، فهكذا مواجهة لا
يمكن لخطواتها الأولى أن تنطلق إلا بتوطين النفس على الشهادة وهذا التوطين لا يتأتى
لغير مهاجر...
كان رد الملك الظالم في البداية سجن الإمام في زنزانة من زنازين
الوطن المقيد والأسير للباطل، ظنوا بجهلهم بأن جنبات الزنزانة المظلمة يمكن أن
تنعكس على قلب الإمام النوراني وأن قضبانها المضلّعة يمكن أن تكسر أجنحة الطائر
المحلّقة، ولما عجزوا عن قهر الإمام أعادوه إلى حضن شعبه الذي انتفض ثأراً وكرامة
وعاد الإمام من جديد ليقرع الملك بألفاظ أشد عليه من سابقتها ومواقف حق أين منها
السيوف القاطعة تفضح الملك وتكشف عن خدمته لأسياده أميركا وإسرائيل فكان القرار
بالإبعاد إلى تركيا حيث ظن الملك ومستشاروه وأسياده الأجانب أنهم بذلك يحطمون
كبرياء الإمام ويسحقون معنوياته فيحولون بينه وبين ما يريد في اللَّه، فإذا بالإمام
يحول هذه الهجرة القسرية من بيت الدنيا ودار الوطن إلى فرصة للتهيؤ والتعبؤ من أجل
متابعة المسير.
* في بلاد الهجرة
وتحت ضغط الشارع الهادر باسم الحرية للإمام في كل قرية ومدينة في إيران يُنقل
الإمام من تركيا إلى العراق ظناً منهم بأن المهاجر التَّعِبْ يأوي ليستريح أخيراً
في أفياء الحضرة العلوية فيتخلص منه الظالمون، ولكن هيهات أن يسكت الخميني أو
يستكين مقابل الظلم ولو بقي وحيداً، وهو الذي تعلم الإباء والثورة من جده علي بن
أبي طالب عليه السلام، فإذا بعراق علي والحسين يضاعف من وهج العزم الثوري في قلب
الإمام، ويصير بقاؤه في العراق خطراً على الملك الأول بالصفة والملك الآخر بالسلوك،
فيصدر قرار الإبعاد أو الالتزام بشروط السلطة، أن يلزم الصمت والهدوء!! ويكون جواب
الحفيد كجواب الجد الشهيد:
"هيهات منا الذلة، ولا واللَّه لا أعطيكم بيدي إعطاء
الذليل"، وإذا بمسيرة الهجرة هذه المرة تنفتح على المجهول، أقفلت حدود الكويت أمامه
وباقي الدول الإسلامية شأنها شأن الكويت لو يمم الإمام وجهه شطرها، فجميع هذه الدول
أسيرة للسيد الأميركي، وأخيراً كان المقصد فرنسا التي كادت رغم تحررها من سلطة
السيد الكوني أن تتراجع عن استضافة السيد الإمام الذي قال عندما سمع بذلك: واللَّه
لو أني بقيت أتنقل "مهاجراً" من مطار إلى مطار لما تركت أمر مقارعة الملك الظالم.
ومن فرنسا بلد الهجرة استمر الإمام قدس سره بثورته وبتحريك الجماهير وقيادتها حتى
أينعت ثمارها وحان القطاف فعاد إلى بلده الذي يحب. لقد كتب اللَّه تعالى لعبده
الصالح أن يعود بعد أربعة عشرة عاماً من هجرة الجسد القسرية إلى أرض الوطن الأسير
ليحرره بعد أن ملأه ثورة وشهادة وعزاً وكرامة ولتتحول إيرانُ بفضل هذا الثائر
المهاجر إلى حضن للثوار. وبعد عمر من الهجرة في الوطن والغربة يمم الإمام وجهه
شطر الآخرة لتكون الهجرة الأخيرة بالقلب الهاديء والضمير المطمئن والنفس الوادعة،
فسلام عليه من مهاجر وأكرِم بها من هجرة.