تحقيق: إيفا علوية ناصر الدين
كثيرة هي الأشياء التي يتميزن بها عن الأخريات وأبرزها
قدرتهن على التحدي ومواجهة المصاعب. عندما تتحدث إليهن تشعر انه مخطئء تماماً من
يقول أن المرأة كائن ضعيف فكيف تكون المرأة التي تقدِّم أولادها في سبيل ربها ضعيفة؟
وهل تنطبق هذه الصفة على المرأة التي أمضت بضع سنين من حياتها في الأسر صامدة من
أجل قضية تؤمن بها؟ وماذا عن زوجات الجرحى والشهداء والأسرى؟ إنهن نساء أرتدين
العظمة جلباباً وأثبتن أن المرأة تستطيع أن تكون في أعلى درجات الحضارة والرقي.
إن أكثر ما تتميز به الأمهات هو العاطفة التي تربطهن بأولادهن، هذه العاطفة التي
يشتعل بها قلب الأم تدفعها دائماً لتأمين سبل الراحة والهناء لهم وليس هناك أحبُّ
إلى قلبها من أن تشعر بسعادتهم حتى ولو على حساب سعادتها.
هذا ما دفع والدة الشهيدين محمد وعمار حمود إلى عدم الوقوف في وجه اختيارهما
الانضمام إلى صفوف المقاومة وتشجيعهما على المسير في درب الجهاد ولذلك فهي تقول:
"إن معرفتي بطبيعة عملهما وعدم ممانعتي كان يريحهم كثيراً فقد كنت أُوضِّب لهم
الأغراض قبل ذهابهم. أنا أحب كل شيء يحبه أولادي ولو كان على حساب سعادتي وراحتي
وقد واكبتهم في هذا الطريق لأنني مقتنعة به أولاً ولأنهم أحبوه واختاروه".
وتكمل والدة الشهيدين مبتسمة: "عندما كنا في القرية جعلني الشهيد محمد أشارك في
المقاومة من دون علمي فقد كان يعطيني قلماً وورقة ويطلب مني أن أسجل له الأوقات
التي تمر فيها دوريات العدو على الطريق وقد كنت أظن أن حبّه للاستطلاع يدفعه لذلك
لكنه فيما بعد أخبرني أنني كنت أساعده في عمله".
إن الصورة التي قد تتبادر إلى الذهن عند الحديث عن أم فقدت ولدين من أولادها هي
صورة أم ضعيفة منكسرة ليس لها عزاء إلا الدموع والبكاء لكن هذه النظرة تتغير فوراً
عند رؤية والدة الشهيدين محمد وعمار حمود، فهي تحتفظ برباطة الجأش هذه ليس لأنها
جامدة القلب بل على العكس ومَنْ أكثر منها رهافة في الشعور وهي التي علمت باستشهاد
ولديها قبل إخبارها بذلك "ولدي محمد كان يتحدث دائماً معي عن الشهادة وكان يطلب مني
أن لا أتفاجأ إذا جاءني نبأ استشهاده. ويوم استشهاده سمعت عن مواجهة في الريحان ولم
يُعلن عن سقوط شهداء ومع أنني لا أعلم أين يعمل محمد بالضبط لكنني أحسست وكأن قلبي
يخبرني باستشهاده. أخبرت ولدي عمّار بذلك فقال لي أنه بعيد من هناك وطلب مني أن
أدعو له وطوال الليل لم أنم وأنا جالسة على الشرفة وعند الصباح جاءنا عمّار ليخبرنا
أن أخاه محمد قد رحل شهيداً. أما عمّار، فقد كنا في شهر رمضان عندما ذهب اخر مرة
ويومها دخلت عليه وهو يتهيأ للذهاب وبعدما سلَّم علي طلب مني أن أدعو له وخرج لكنه
ما لبث أن عاد مسرعاً وقبّلني فتبعته وبكيت وقبل أن يغادر سألني إذا كان عندي وصية
لأخيه الشهيد محمد وعندما سمعت بالعملية الاستشهادية قلت لهم هذا عمّار ولم أتفاجأ
عندما جاؤوني بالخبر لأنني في قلبي كنت أعلم بذلك".
لا تنظر هذه الوالدة إلى تضحيتها نظرة ندم أبداً وهي ترفض أن نقيسها في ميزان الربح
والخسارة الدنيوي ولذلك فهي تتحدث عن فقدان ولديها وشعورها بغيابهما لكنها تفكر
بشيء آخر: "فقدان الولد ليس سهلاً ولا أنكر أنني تأثرت بغيابهما، أحياناً أكون
جالسة لوحدي فأفكر بهما وأتخايلهما منذ كانا صغيرين وأتذكر كيف كبُرا وصورتهما لا
تذهب عن بالي أبداً ولكن عندما أشعر بفراقهما وأشعر بالخسارة أفكر فوراً أنني ربحت
في الآخرة فأنا قدّمت ولدين من أولادي مواساة للزهراء عليها السلام. ونحن مهما
قدَّمنا لن نصل إلى درجة أهل البيت عليهم السلام ". من المؤكد أن هناك شيئاً خاصاً
يهوِّن على هذه الأم فراق ولديها ويعزِّيها وهذا الأمر هو "عندما أشتاق للشهيدين
محمد وعمّار أفكر بكربلاء وأتصور نفسي واقفة هناك فيهون عليّ الفراق لأنني عندما
أفكر بما أصاب زينب عليها السلام من مصائب يهون عليّ كل شيء وأقول أنا لم أقدم
شيئاً. وهناك أمر آخر هو أنني ضمنت سعادة أولادي في الآخرة فالأم ماذا يسعدها أكثر
من أن ترى أولادها سعداء وأن تؤمِّن لهم حياة هنيئة في الدنيا فكيف إذا ضمنت لهم
هذه الحياة في الآخرة. أنا لن أكون أرحم من الله عليهم".
وبعد استشهاد ولديها ما هو الطلب الذي طلبت من سيد المقاومة أن يلبيه لها؟ تجيب
والدة الشهيدين" "أن لا يحرم إخوة الشهيدين من متابعة طريق المقاومة فقد علمت أن
العائلة التي تقدم شهيدين يِحرم الأخوة الباقين من العمل المقاوم وقد طلبت ذلك لأن
الإنسان المؤمن لا يتوانى عن تقديم أي شيء في سبيل الخط والعقيدة التي يؤمن بها".
هذه الصورة الراقية التي تقدمها أمهات الشهداء بتضحيتهن وصبرهن تتبعها صور ومواقف
تقدمها نساء أخريات يختلفن في ظروف الحياة ويشتركْنَ في رفضهن لفكرة أن الحياة قست
عليهن لأنهن مقتنعات أن ما عانوه ليس إلا تجربة مررْن بها وقد زادتهن قوة وصبراً
وعزيمة. وهؤلاء النساء هم زوجات الشهداء والجرحى والأسرى اللواتي يختلفن في التجارب
لكنهن يتساوين في التضحية. إن جهاد زوجة الشهيد التي فقدت زوجها وحضنت أطفالها ليس
بعيداً عن جهاد زوجة الأسير التي ما زالت تعاني القلق والألم وهي تعايش عذاب زوجها
في المعتقل ولا تستطيع فعل أي شيء. وأيضاً زوجة الجريح التي وهبت حياتها إلى إنسان
هو بأمسّ الحاجة إلى أمثالها تشاركه في جرحه وتخفف عنه آلامه وعذابه.
إن التضحية والجهاد كانا عنواناً لما فعلته أم حسين زوجة الجريح حسن وهبي حين اتفقت
معه على الزواج ورضيت أن تقاسمه الحياة بحلوها ومرّها. تتحدث الأخت أم حسين عن
قرارها بالزواج فتقول:
"قبل زواجي كنت أقول في نفسي إذا تقدم لخطبتي أخ مجاهد أو
أسير أو جريح سأكون سعيدة بالقبول به زوجاً وعندما حصل وخطبني أبو حسين لم أتردد في
القبول، فقد أحببت أن أشاركه في جرحه وأنسيه آلامه وقد خطوت هذه الخطوة واتخذت
قراري بالرغم من معارضة البعض من الأهل والأقارب. أنا قدّمت حياتي كلها من أجله حتى
أؤمِّن له حياة عادية مثل بقية الشباب وقد كان قبل الزواج يعيش حياة منعزلة إلى حد
ما لكن بعدما تزوجنا أراه يضحك ويواجه الحياة بإصرار أكبر".
وعن السبب الذي دفعها إلى اتخاذ هذا القرار الذي لا تجرؤ على اتخاذه إلاّ فتاة
تميزها قوة الإرادة وعمق الإيمان تقول أم حسين: "من المهم أن يجاهد الإنسان في سبيل
الله بحسب قدرته فهو لن يأخذ معه شيئاً من هذه الدنيا. عندما اتخذت هذا القرار لم
يكن للدنيا عندي أي حساب ولم أفكر بالأمور الدنيوية التي لا تنفع في الآخرة وأكثر
ما فكرت به أن هذا العمل سيحشرني مع أهل البيت عليهم السلام يوم القيامة ولذلك فإن
ما أدعو الله به دائماً هو أن يكتب لي الأجر ويضاعف لي الحسنات ويحشرني مع السيدة
الزهراء عليها السلام والسيدة زينب عليها السلام وتعوض لي صبري وجهادي" لقد فكرت
هذه الأخت بالحصول على السعادة في الآخرة ولم تنظر إلى مغريات هذه الدنيا لكن
بالرغم من ذلك فقد حصلت على حصتها من السعادة:
"الحمد لله أنا سعيدة جداً في حياتي.
لقد مرَّ على زواجنا أربع سنوات وأنجبنا أربعة أطفال من بينهم ثلاث توائم وبعدما
أنجبت هؤلاء الأطفال نسيت كل التعب فقد كانوا أفضل هدية يعطيني إياها الله سبحانه
وتعالى ونعمة كبيرة وهبني إياها عز وجل". من الطبيعي أن هذه الأخت التي تشعر
بالسعادة في الحياة التي أقدمت عليها واختارتها أن لا تشعر بالندم على هذا
الاختيار: "لم اندم ولو للحظة على اختياري هذا. بعض الأخوات يتزوجن من رجل عادي ومن
ثم يندمن على اختيارهن وأي فتاة يمكن أن تتزوج شاب عادي ولا تشعر بالسعادة معه.
زوجي يعطيني كل الحب والعاطفة ويمدني بالقوة والعزيمة وهناك أمر مؤكد وهو أن الجريح
يحب زوجته أكثر من أي شخص آخر لأنه يرى كيف تسعى وتضحي من اجل إسعاده وتقف دائماً
إلى جانبه".
ومن هذا القلب الكبير الذي كان على قدر هذه التضحية والجهاد واتسع ليضم في أعماقه
هذه المجموعة من المشاعر المتداخلة من الألم والإيثار والسعادة من هذا القلب هناك
كلمة تريد أم حسين أن تعبر عنها وهي: "أتمنى على كل أهل تقوم ابنتهم باختيار هذا
الطريق أن لا يقفوا في وجه اختيارها فهي اتخذت هذا القرار لأنها ترى سعادتها فيه
وعليهم أن لا ينظروا إلى هذا الموضوع بعين الخجل بل أن يتطلعوا إلى الأجر والثواب
لأنه أذا امتنع الجميع عن القبول بهذا الأمر لن يكون هناك زوجة جريح ولا زوجة شهيد
وبالتالي لن يكون هناك شهداء ولا تضحيات يحتاج إليها المجتمع".
نموذج آخر من النماذج النسائية المتميزة بالإرادة الصلبة وبالقدرة الكبيرة على
المواجهة والصمود والتحدي وأكثر من استطاعت إثبات أن المرأة تستطيع أن تحوِّل ضعفها
إلى قوة هي الأسيرة التي عانت عذاب الأسر والحرمان من الحرية وحملت قيودها رمزاً
لتحمُّل المصاعب وعنواناً لقدرة المرأة على الوقوف والاستمرار متخطية كل ضعف أو
وهن. واحدة من هؤلاء الأخوات هي الأسيرة المحررة مريم نصار والتي أمضت أربع سنوات
من حياتها في معتقل الخيام بجريمة أي بشرف التعامل مع المقاومة. عن أصعب مرحلة
عاشتها في المعتقل تقول مريم:
"كانت تعذَّب الأسيرات من دون مراعاة لوضعها بأنها
فتاة فقد كنا نتلقى نفس التعذيب الذي يُمارس على الأسرى الرجال، كل الوسائل من ضرب
وتعذيب بالكهرباء وخلع الحجاب والتهديد بتعذيب الأهل إضافة إلى التعذيب النفسي
الرهيب كالتهديد بالاغتصاب ويكفي شعورنا بالبعد عن الأهل والانقطاع عن العالم
الخارجي فقد كان المعتقل بالنسبة إلينا مقبرة للأحياء". وهذا العذاب والألم الذي
كانت تعانيه الأسيرات كان يزيدهن "رفضاً وإصراراً فبالرغم من التضييق والضغط
الموجود كنا نضحك ونتحدث ونؤدي الأمور العبادية من صلاة وصوم وحتى في عاشوراء كنا
نحاول إقامة مجلس عزاء مما حفظته بعض الأخوات عن واقعة الطف وكنا نحاول دائماً
إيجاد أجواء تنسينا عذابنا وآلامنا".
وبعدما أمضت هذه السنوات التي من المفترض أن تكون أصعب سنوات عمرها ترفض مريم أن
تعتبر هذه المرحلة الأقسى في حياتها بل هي بالنسبة لها: "أفضل سنوات حياتي بالرغم
مما تضمنته من ألم ومعاناة فهذه التجربة كانت مدرسة، والمعتقل كان عالم بحد ذاته
ففيه تكونت لدي كثير من الأمور فوجودي هناك أدّى بي إلى معرفة نفسي ومعرفة الله عز
وجل ومعرفة الناس إضافة إلى معرفة كيفية التعامل مع المجتمع. ووجودي هناك أعطاني
القوة والعزيمة والصبر وقد زادت ثقتي بنفسي أكثر وزادت قدرتي على تحمُّل مصاعب
الحياة"، ولذلك فإنه ليس غريباً أن تشعر مريم بعد كل ذلك بـ: "الإعتزاز والافتخار
فكلمة أسيرة تعني لي الفخر وهي اكبر وسام شرف لي وأنا أشعر أنني مرتاحة نفسياً
لأنني قدمت شيئاً في هذه الدنيا ولذلك فأنا أدعو الله تعالى أن يكتب لي الأجر وأن
يكتبني من المظلومين وليس من الظالمين. أكثر ما يسعدني هو شعوري بأنني واسيت السيدة
زينب عليها السلام في أسرها فقد كانت هي القدوة التي دفعتنا على التحمل وزادتنا
إصراراً وتحدياً". وهذا الإصرار والاستمرار بالخط الذي آمنتْ به وتحملتْ التضحية من
أجله لم ينته بإنتهاء التجربة التي مرَّتْ بها لأن مريم تعتبر أن الطريق ما زال في
بدايته وأنه بالإضافة إلى الدور الذي لعبته الأسيرات داخل المعتقل هناك: "دور يلازم
المعتقل بعد الإفراج عنه وهو دور إعلامي وتبليغي. فالأسير عنده مهمة إطلاع كل
العالم على همجية العدو ولذلك فأننا نسعى لإيصال وشرح معاناة الأسيرات وهذه تعتبر
رسالة بالنسبة إلينا ولذلك فإن أي واحدة من الأسيرات المحررات لا تفكر بالجلوس
جانباً بل هنَّ في حركة دائمة وما زلْن مستعدات للعطاء والتضحية وجاهزات لأي عمل
يخدم المسيرة في سبيل الله". هذه مقتطفات من مواقف بعض النساء المجاهدات اللواتي
يساهمن في تركيز الصورة الحقيقية لدور المرأة الفعال واثبات وجودها كركيزة أساسية
لبناء مجتمع مميز فيه نساء مميزات.