تحقيق: هداية طه
ما إن انتهت سمر (27 عاماً) من عرض درس الرياضيات لتلاميذ صفّها والذي حضره المدير وبعض الزملاء والزميلات لها في المدرسة حتى أبدى المدير إعجابه به مثنياً على المجهود الذي بذلته في تحضيره. فسمر، وللمرة الأولى، ابتكرت طريقة جديدة في شرحها للمعلومات؛ عبر استعانتها ببرنامج إلكتروني جديد يتيح لها توضيح الأشكال الهندسية بطريقة لافتة ومميّزة. بيد أنها، وبعد فترة وجيزة، تفاجأت بامتعاض بعض الزميلات لها من النجاح الذي حقّقته حتى وصل الأمر بإحداهن إلى مخاطبتها بالقول: "تفلسفتي كتير بالدرس"!
*الغيرة سمة إنسانية
ما جرى مع سمر ليس محض قصةٍ عابرة، إنّما قد يصادف أياً من العاملين، وإن بطرق مختلفة. والواضح أنّ هذه القصة تعكس ظاهرة تنتشر في ميادين الحياة كافة، وهي الغيرة.
واقعاً، الغيرة سمة من سمات الغرائز الراسخة في نفس الإنسان، إلّا أنّها، وكما يؤكّد العديد من علماء النفس، قد تتحول إلى مرض يلامس حدّ الخطورة، ويكون له تداعيات سلبيّة على الفرد وعلى الآخرين في المجتمع، وطبعاً إن لم يتمّ علاجه. وتختلف دوافع الغيرة باختلاف الظروف التي تلازم الفرد "الغيور"، فثمة غيرة تحصل في ميدان العمل لتوفّر أرض خصبة للمنافسة، وهذا ما تشير إليه فرح (25 عاماً)، وهي معدّة برامج في إحدى القنوات التلفزيونية فتقول: "في المجال الإعلامي تَبرز الغيرة، بشكل أكبر، لأنّ العامل فيه يكون غالباً تحت الأضواء. وهذه المهنة أيضاً ملازمة للشهرة. وتضيف: لقد واجهت مشاكل كان سببها الغيرة، إذ إنني، وفي العديد من الأحيان، كنت أتعرّض لنقد لاذع من بعضهم حيث يجب أن أتلقّى تشجيعاً أو إطراءً على عملي.
*غيرة مؤذية
وإذا كانت الشّهرة والأضواء دافعاً لتأجيج الغيرة في نفوس البعض، فإنّ عدم القدرة على الفصل بين المشاكل الشخصيّة وبيئة العمل يرتبط أيضاً بشكل ما بتنامي الغيرة لدى البعض الآخر؛ حسين (30 عاماً) موظف في شركة، وواحد من الذين واجهتهم مشاكل بسبب ذلك يقول: "كان هناك خلاف على موضوع شخصي بيني وبين أحد الزملاء في العمل، وذات مرّة وشَى بي إلى المدير ونقل صورة مضخّمة عن الخطأ الذي اقترفته أثناء عملي، عن غير قصد".
هناء (33 عاماً)، تلفت إلى أنّ الغيرة قد تنشأ لدى البعض عندما لا يستطيعون أن يكونوا مثل الأشخاص الذين ينتقلون من نجاح إلى آخر في عملهم. وتروي هناء ما حدث معها أثناء عملها في معمل خياطة ملابس: "لقد كنت الأسرع في عملي وكنت أستطيع أن أنتج أضعاف ما يُنتجه غيري، وغالباً ما كنت أحصل على مكافآت بسبب جدارتي في العمل. بيد أنّ هذا النجاح لم يرق لإحدى الزميلات الغيورة التي عملت على تأليف قصّة عني غير صحيحة سبّبت طردي من العمل". وتضيف هناء: "أحياناً تدفع الغيرة غير المنطقية إلى الحقد والظلم وهذا أمر غير محمود شرعاً وأخلاقاً".
*في إطار العمل الوظيفي
ما أتينا على ذكره سابقاً يعكس بعض أسباب تنامي الغيرة بين الزملاء. ولكن، ثمة أسباب أخرى وعديدة للغيرة أيضاً، تَبرز في إطار العمل الوظيفي، يشير إليها الدكتور محمد رضا فضل الله (المتخصص في الإرشاد التربوي)، فيقول: إن هذه الغيرة تحصل حينما يشعر أحدهم بحقّه في امتياز معيّن، وخوفه من فقدانه، دون حق بنظره.
بيد أنّ فضل الله يؤكّد أنّ عجز الموظف عن الأداء المطلوب نتيجة قصور أو كسل أو سوء تربية يؤدّي إلى صراع دائم مع الرئيس والزملاء. وبالتالي، إلى حَسَد مقيت يجعل مِن حياته جحيماً لا يُطاق.
ويلفت فضل الله، في هذا الإطار، إلى أنّ بعض تصرّفات ربّ العمل قد يؤجّج الغيرة لدى بعض الموظفين، أيضاً، فيقول: "يعمد ربّ العمل أحياناً إلى مقارنة قدُرات موظّف بقدرات آخر، مادحاً لأحدهم وناقداً للآخر. كما أنه قد يُظهر اهتماماً بأحدهم دون غيره، من خلال إعطائه تقديمات وتسهيلات استثنائيّة".
*فرق بين الغيرة والتنافس الإيجابي
وإذ يشدّد د. فضل الله على أنّه ليس غريباً أنْ يحبّ الإنسان ذاته، ويسعى لمحبّة الآخرين له أو يناضل من أجل الاحتفاظ بهذه المحبة والإفادة منها، فإنه أيضاً يؤكّد على ضرورة التمييز بين الغيرة والتنافس الإيجابي: "الغيرة تؤجج الثورة والغضب، وتخلق شعوراً داخلياً مؤلماً بالفشل، والعجز، وعدم الثّقة. أما التنافس الإيجابي، فهو يمثّل السلوك الذي يدفع لبذل الجهد من أجل النجاح والتفوّق، يقول فضل الله.
ومن مظاهر التنافس الإيجابي، كما يقدّمها فضل الله، أنّ الإنسان يتواضع ويُظهر محبته للآخر فيما لو نجح هذا الآخر أو تفوّق عليه، فيبادر إلى تهنئته ويعتزّ بإنجازه، أيّاً كان هذا الإنسان.
ويضرب فضل الله أمثلة عديدة على التنافس الإيجابي، الذي يحصل في بعض المواقف: "في إطار المباريات الرياضيّة أو الانتخابات النيابيّة أو الرئاسيّة يتقدّم مَن يخسر إلى تهنئة مَن يفوز"، ويضيف: "السبب الأساسي لتنمية هذه الروح الرياضيّة، والمنافسة الإيجابية في نفوس الأفراد هو التربية الإنسانيّة الدينيّة التي تغرس التواضع والواقعية في عمق الإنسان. بحيث يسعى إلى فهم الآخر وتقدير ميزاته وإنجازاته".
في سياق متصل، لا يغفل فضل الله أن بإمكان مؤسسة العمل أن تعتمد آليّة للحدّ من انتشار الغيرة بين الزملاء، ويعتبر أنها يجب أن تنطلق من رأس الهرم قائلاً: "الرئيس أو المدير بما يحمل من كفاءات علميّة، وقدرات إدارية، وعلاقات إنسانيّة وأخلاق فاضلة، يستطيع أن يُثير أجواء آمنة في عالم المؤسسة بما يثير من محبة وثقة العاملين ملتزماً جانب العدالة في المعاملة، والمساواة في الحقوق والواجبات. ويضيف: "من الضروري أيضاً أن يعتمد ربّ العمل معيار التقوى، والخدمة، والصلاح والتفوّق أساساً في التفاضل بين الموظفين، بحيث يشعر الواحد منهم أنه أمام أب يحبّه، ويرعى مصالحه".
*الغيرة من منظور الشرع
وللشرع نظرته الخاصة تجاه موضوع الغيرة. إذ إنّ الغيرة إحساس تختلط فيه المرارة بالحسد. وهذا الإحساس، إذا كان في حدوده الطبيعيّة فهو عادي، أما خطورته فهي عندما يتحوّل إلى مرض، كما يقول سماحة الشيخ علي طه، ويضيف: "هذا الإحساس هو كراهية شراكة الغير في التودّد إلى مَن يحبّ أو القيام بما يحبّ من أعمال أو نشاطات أو أدوار".
على خطّ مواز، يشير الشيخ طه إلى الغيرة التي تنتشر بين الزملاء في العمل: "فثمّة غيرةٌ سلبيّة هنا تتمحور حول الأنا وحب الذات فقط، والعمل للنجاح الشخصي وتمنّي الفشل للآخرين بدلاً من أن يسعى الجميع لتطوير العمل، والتنافس الإيجابي، وزيادة النشاط لتحقيق نتائج أفضل. هذه الغيرة السلبيّة التي تدفع صاحبها إلى عرقلة أعمال العاملين حتى لا ينجحوا أو يقصّروا في أعمالهم من أجل احتكار التفوّق والنجاح. وهذه التصرّفات لا يقرّها الشرع الحنيف، بل يحاسب عليها، في حال تحوّلت إلى أمر مؤذ للأشخاص أو للعمل".
*حتى لا تكوينا نار الغيرة
وأخيراً، يقدم الشيخ طه نصائح عديدة حتى لا تكوينا نار الغيرة ويزداد اشتعالها، وتمسي أكثر خطورة على حياتنا وأعمالنا وعلاقاتنا، ويأتي في طليعة هذه التوصيات:
- على المستوى النظري، التمعّن في الآيات والروايات التي تعالج هذه الحالة وتعمد للتمييز بين الغيرة الإيجابية والغيرة السلبية.
- أما على المستوى العملي، فتأتي المصارحة في بداية القائمة، لمعالجة هذه الحالة من حالات الغيرة العادية، حتى لا تتحوّل إلى غيرة شبه مرضيّة أو مرضيّة.
ويختم سماحته بالقول: "ودائماً الدواء الناجع لهذا النوع من الغيرة متوفّر في صيدليّة "التدين، والتقوى، والأخلاق الإيمانية". أما إذا كان سبب الغيرة مرضاً نفسيّاً، فالدواء عند الأطباء المختصين بهذا المجال.