الشيخ علي خازم
"ولئن كان مجداً لمالك أن يكون أكبر أشياخ الشافعي، أو مجداً للشافعي أن يكون أكبر أساتذة ابن حنبل، أو مجداً للتلميذين أن يتلمّذا لشيخيهما هذين. إنّ التلمذة للإمام الصادق عليه السلام قد سربلت بالمجد فقه المذاهب الأربعة لأهل السنّة. أمّا الإمام الصادق عليه السلام فمجده لا يقبل الزيادة ولا النقصان. فالإمام مبلّغ للناس كافّة، علمَ جدّه عليه السلام ، والإمامة مرتبته. وتلمذة أئمّة السنّة له تشوُّفٌ [تشرُّف] منهم لمقاربة صاحب المرتبة"، الجنديّ(1).
* إجماع على فضل الإمام الصادق عليه السلام
بهذه الكلمات، يقرّر المستشار د. عبد الحليم الجنديّ، ببلاغته الأدبيّة، حكمه كفقيه قانونيّ، ولا يريد من هذا الحكم غمط حقّ أحد من أئمّة المذاهب الإسلاميّة، وهو صاحب المؤلّفات التي قدّمت كلّاً منهم بروح حريصة على إبراز روح طلب الحقّ، والتواضع للعلم، والشهادة للحقّ في تقديم الإسلام الجامع.
قال الشيخ محمّد أبو زهرة: "ما أجمع علماء الإسلام على اختلاف طوائفهم كما أجمعوا على فضل الإمام الصادق وعلمه، فأئمّة السنّة الذين عاصروه، تلقّوا عنه وأخذوا؛ أخذ عنه مالك بن أنس (رض)، وأخذت عنه طبقة(2) مالك: كسفيان بن عيينة وسفيان الثوريّ وغيرهما كثير، وأخذ عنه أبو حنيفة مع تقاربهما في السنّ، واعتبره أعلم الناس؛ لأنّه أعلم الناس باختلاف الناس. وقد تلقّى عليه رواة الحديث طائفة كبيرة من التابعين، منهم يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وأيوب السختيانيّ، وأبان بن تغلب، وأبو عمرو بن العلاء، وغيرهم من أئمّة التابعين في الفقه والحديث. وذلك فوق الذين روَوا عنه من تابعي التابعين، ومن جاء بعدهم، والأئمّة المجتهدين الذين أشرنا إلى بعضهم"(3). وبعيداً عن إثبات التلمذة بمعناها الأكاديميّ، فإنّ القارئ المتتبّع لسيرة الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام في عصره ومع معاصريه من فرق ومذاهب وحركات وأعلام، لا يجد مبالغةً في عدد تلامذته عليه السلام ؛ كأن يكون من تتلمذ في مجالسه تسعمائة في رواية، أو أربعة آلاف في رواية أخرى، سواء من شيعته أو من غيرهم، بما يعمّ حتّى أرباب الدعوات والحركات الرافضة للإسلام، إذا لاحظنا مجالستهم له أو مجالسته لهم وحواراتهم المنتجة.
* الإمام الصادق عليه السلام والمذاهب
نقرأ في ما أثبته غير الشيعة له عليه السلام مع رؤسائهم، تدخُّله كلّما رأى ضرورة لتصويب الاتّجاهات. ومن ذلك:
1- المعتزلة: المعتزلة هي أشهر الفرق، على أنّ لها موقفها السياسيّ، وقد كتب كبارها في الفقه وأصوله، لكنّها لم تحظَ بالانتشار والاستمرار فيهما بقدر اشتهارها بمواقفها الكلاميّة والسياسيّة. وممّن عاصر الإمام الصادق عليه السلام وكان له معه حواران شهيران في مسألة (الكبائر) وفي (الخروج على الخليفة) شيخهم عمرو بن عبيد (80هـ- 143هـ). وقد سبقتها أقوال القدريّة ومن أعلامهم غيلان الدمشقيّ (ت106هـ)، والمرجئة ومن أعلامهم الجهم بن صفوان الترمذيّ (و78هـ- ت128هـ).
2- مذاهب أخرى: الزيديّة والمالكيّة والحنفيّة هي المذاهب التي يمكن الكلام عن حضور أئمّتها في حياة الإمام الصادق عليه السلام ، واستمرّت بعده فيما انحسر غيرها؛ كمذهب الأوزاعيّ، والليث بن سعد، لأسباب عديدة، أمّا الشافعيّ وتلميذه أحمد بن حنبل، فقد تأخّرا عنه، لكنّهما تأثّرا بالإمام مالك، وكانت لهما مواقف تُظهر تقديرهما له.
يمكن استقراء منهج الإمام الصادق عليه السلام في توجيه الذين كانوا يعتقدون بفضله وعلمه دون إمامته باصطلاحنا في محاوراتهم معه، وخلاصة منهجه عليه السلام كانت الردّ إلى القرآن الكريم، والصحيح من سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ومقارنة أقوال الفقهاء.
* منهجه عليه السلام مع الزيديّة والمعتزلة
ذكر المؤرّخون أنّ محمّد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، وكان إماماً لدى الزيديّة ثانياً بعد يحيى بن زيد، وقد ذكر الشهرستانيّ أنّ يحيى أوصى إليه، كان مرشّح أبيه (عبد الله بن الحسن) ومرشّح المعتزلة للخلافة بعد قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك إثر فسقه وفساده عام 126هـ، وقد جرى عرض الأمر على الإمام الصادق عليه السلام من الطرفين في مجلسين مستقلّين:
1- المجلس الأوّل: خاصّ ببني هاشم، دُعي إليه الإمام عليه السلام، حيث جمع عبد الله بن الحسن بني هاشم، وألقى فيهم خطبة، ودعاهم إلى ابنه، نقلها وما دار في المجلس أبو الفرج الأصفهانيّ في كتابه(4).
2- المجلس الثاني: عندما قدم عليه جماعة من المعتزلة، فيهم عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وحفص بن سالم، وأناس من رؤسائهم(5)، ونظراً إلى ضيق المساحة أترك للقارئ مراجعتها مكتفياً بإيراد بيانه عليه السلام للكبائر في جوابه لشيخ المعتزلة عمرو بن عبيد المعتزليّ: "دخل عمرو بن عبيد على الصادق عليه السلام وقرأ: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ (النساء: 31)، وقال: أحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب الله، فقال عليه السلام : (نعم يا عمرو)، ثمّ فصّل له أنّ الكبائر الشرك بالله: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ (النساء: 48)، واليأس: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ﴾ (يوسف: 87)، وعقوق الوالدين؛ لأنّ العاقّ جبّار شقيّ: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ (مريم: 32)، وقتل النفس: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا﴾ (النساء: 93)، وقذف المحصنات وأكل مال اليتيم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ (النساء: 10)، والفرار من الزحف: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ (الأنفال: 16)، وأكل الربا: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ (البقرة: 275)، والسحر: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ (البقرة: 102)، والزنا: ﴿وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾ (الفرقان: 68)، واليمين الغَموس(5): ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا﴾ (آل عمران: 77)، والغُلول(6): ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ﴾ (آل عمران: 161)، ومنع الزكاة: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ (التوبة: 35)، وشهادة الزور وكتمان الشهادة: ﴿وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ (البقرة: 283)، ونقض العهد وقطيعة الرحم: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ الله﴾ (البقرة: 27)، وقول الزور: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾، والجرأة على الله: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللهِ﴾ (الأعراف: 99)، وكفران النعمة: ﴿وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (إبراهيم: 7)، وبخس الكيل والوزن: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾ (المطفّفين: 1)، واللواط: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ﴾ (النجم: 32).
قال: فخرج عمرو وله صراخ من بكائه وهو يقول: هلك من سلب تراثكم ونازعكم في الفضل والعلم"(7).
* مع أبي حنيفة
ذكر أبو القاسم البغّار في مسند أبي حنيفة: "قال الحسن بن زياد: سمعت أبا حنيفة وقد سُئل من أفقَه من رأيت؟ قال: جعفر بن محمّد، لمّا أقدمه المنصور بعث إليّ، فقال: يا أبا حنيفة، إنّ الناس قد فُتِنوا بجعفر بن محمّد فهيّئ له من مسائلك الشداد، فهيّأت له أربعين مسألة، ثمّ بعث إليّ أبو جعفر (المنصور) وهو بالحيرة فأتيته. فدخلت عليه، وجعفر [الإمام الصادق عليه السلام ] جالس عن يمينه، فلمّا بصرت به، دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر (المنصور)، فسلّمت عليه، فأومأ إليّ فجلست، ثمّ التفتّ إليه، فقال المنصور: يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة، قال: (نعم أعرفه)، ثمّ التفت إليّ، فقال: يا أبا حنيفة، ألقِ على أبي عبد الله من مسائلك، فجعلت ألقي عليه فيجيبني فيقول: (أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربّما تابعنا وربّما تابعهم، وربّما خالفنا جميعاً، حتّى أتيت على الأربعين مسألة فما أخلّ منها بشيء)، ثمّ قال أبو حنيفة: أليس أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟"(8).
* تربيته عليه السلام لأصحابه في الحوار
في ختام أحد مجالسه عليه السلام ، وبعدما استمع إلى حوار بعض أصحابه مع شامي مخالف:
".. التفت أبو عبد الله عليه السلام إلى (حمران)، فقال: تجري الكلام على الأثر فتصيب (أي على الأخبار المأثورة عن النبيّ وأئمّة الهدى (صلوات الله عليهم) فتصيب الحقّ).
والتفت إلى هشام بن سالم، فقال: تريد الأثر ولا تعرفه، ثمّ التفت إلى الأحول، فقال: قيّاس روّاغ، تكسر باطلاً بباطل إلّا أنّ باطلك أظهر.
ثمّ التفت إلى قيس بن الماصر، فقال: تتكلّم وأقرب ما تكون من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبعد ما تكون منه، تمزج الحقّ مع الباطل وقليل الحقّ يكفي عن كثير الباطل، أنت والأحول قفّازان حاذقان.
قال الراوي: فظننت والله أنّه يقول لهشام قريباً ممّا قال لهما.
ثمّ قال: يا هشام، لا تكاد تقع، تلوي رجليك إذا هممت بالأرض طرت، مثلك فليكلّم الناس، فاتّقِ الزلّة، والشفاعة من ورائها إن شاء الله.."(9).
1- الإمام جعفر الصادق عليه السلام ، عبد الحليم الجندي، طبعة دار المعارف، ص147، ومن طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميّة، القاهرة، 1397 ه- 1977م، ص163.
2- الطبقة: هي مجموعة رواة اشتركوا في السنّ والإسناد.
3- الإمام الصادق عليه السلام حياته وعصره– آراؤه وفقهه، محمّد أبو زهرة، ص66.
4- مقاتل الطالبيّين، أبو الفرج الأصفهانيّ، ص171- 172.
5- اليمين الغموس: الكاذبة؛ فإنّها تغمس صاحبها في الإثم.
6- الغلول: الخيانة، وأكثر ما يُستعمل في الخيانة في الغنيمة.
7- الاحتجاج، الطبرسي، ص197.
8- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج3، ص375.
9- سير أعلام النبلاء، الذهبيّ، ج9، ص543، عن مسند أبي حنيفة لأبي القاسم البغّار.
10- الكافي، الكليني، ج1، ص173.
بيروت
عباس منزر
2023-05-16 23:01:11
بارك الله بالعلماء المحققين واالمهتمين بالال الطيبين تحياتي لفضيله الشيخ الحبيب