الشهيد علي محمّد هزيمة (حيدر)
أحمد بزّي
في التاسع من آذار 2015م، متوتِّرةٌ هي إلى الحدِّ الذي يجعلُها ترتجِف، كما لو أنَّ برد تشرينَ زارَ آذارَها. توضأتْ، وبعضُ وضوئها دمعُ حبّها. صلَّت صلاة فجرها، وآخِرُ تسليمِها دَعوات؛ دعواتٌ لأولادها. ثلاثةٌ منهم في الجبهة. ثلاثةٌ منهم، لكنّها خصّتْ "علِيّاً" بدَعوة. مرّتْ ساعةٌ خريفيَّةٌ حتى أشرقتِ الشَّمس، ثمّ حلَّ الضُّحى خريفيّاً أيضاً، وكذا الزَّوال. ولمّا مالتِ الشمسُ للانصراف، جاءَها خبرٌ، بل دَلفتْ إليها نَبُوءَات. زارَها فضولُ الناسِ العفويّ سريعاً، هذا إذا أردنا أن نُزيِّنَ صِفة الفُضولِ العَبثيَّة.
- "علي تصاوب بإجرو".
- "لا مِتصاوب بإيدو".
- "إصابتو خطرة".
- "ما حدا عارف شي من شي".
- "أصلاً كلو حكي، علي مفقود".
- "يا عمّي علي مستشهد".
- "علي بألف خير".
•فجر اليوم الثاني، العاشر من آذار
متوتِّرةٌ هيَ إلى الحدِّ الذي يجعلُها ترتجِف، كما لو أنَّ كانونَ زار آذارَها.
توضأتْ، وبعض وضوئها وردُ حبّها. صلَّتْ صلاة فجرها، وآخِرُ تسليمِها دعْوات؛ دعواتٌ لأولادها. أولادُها وزوجُها الصَّلبُ الذي تستمدُّ منه صبرها إلى جانبها، إلّا "عليّاً".
قالتْ مُتيقِّنةً لا تخشى أن يقولوا فيها قدْ جُنَّت: "يا جماعة، علي استشهد". سمِعتْ في سجودِها همساً قبل ثوانٍ: "إم بلال، ابنك استشهد". أذُنها تشهد، ستنطقُ يوماً وتشهدُ بما سمِعت.
مرَّ اليومُ الثاني أكثر فضولاً، وأغزرَ أخباراً. وظلّتِ الشمسُ في عينيها مكسوفة، كأنّ كلَّ نهارِها كان غروباً.
•توالتِ الأيّامُ حتّى أصبحتْ سبعة
سبعة أيّامٍ من الأخبار، والأوهام، والأحزان، والنَّشْرات العاجلة، والتوتُّر، والحَيرة، والترقّب، ولا إعلانٌ رسميّ.
العجزُ عن وصفِ لحظاتِ الانتظارِ تلك، وحكايا الناس، والآراء، والتعليقات، والذكريات، وشكل الدمعات، وغيوم السماء، ولون الغرف، ووقع الخطوات، كلّه عجزٌ محضٌ.
سبعة أيّامٍ مرّت، كان كلُّ اتّصالٍ وكلّ فردٍ آتٍ بمثابةِ أملٍ سُرعان ما يتبعهُ شهيقٌ بلا زفير. وهي المرتجفة حدَّ صقيعِ القلب، وعواصف الأفكار والخيالات الباردة، وثلج الصُّوَر العتيقة، صارتْ تُصبِّرُ كلَّ من حولها؛ تصبِّرُ أولادها، أقاربها، كلَّ الناس. ووحدها الموقنة العارفة بشهادةِ عليِّها دون جموع الدّمعات، والصّفنات، والكلمات. ووحدهُ الوالدُ الجبلُ الثابتُ موقِنٌ بمعرفتها. حدسُ الأم لا يُخطئ: "علي شهيد، لكن لم يأتِ الهدهد بعد".
•يوم السادس عشر من آذار
جاء الوفدُ بنبأ يقين. أنباءُ الهدهدِ حزينةٌ عنْ ساكنِ قلبها.
- "هنيئاً ومباركٌ شهادة عليّ. منَّ المنَّانُ عليكم فاختاره شهيداً".
- "وأين الجسد؟". قالت أمُّ الشهيد.
- "مش قادرين الإخوان يسحبوه، المسلّحين محتلّين المنطقة".
- "ما بسامحكن تفَوْتو حدا كرمال جثّة ابني. ما بسامح يصير شي لأيّ شاب. خلص علي استشهد. ما تخاطروا بحياة حدا. روحو طلعت. وهيدا جسمو توب وشَلَحِتو روحو". قال الوالد البصير. لم ينطقْ أحدٌ بعدها إلّا بالدموع: الإخوة، الأقارب، الجيران، الجدران، الشجر، الغيوم، النحل، النمل، الراوي...
وحدها صرختْ مع الدَّمعة: "يا زهراء". والمدُّ قبل الهمزة على السطرِ مليءٌ بالزّفرات المحبوسةِ سبعةَ أيّام. لك أن تتخيّل امتدادها. ولا بأس أن تُعيدَ النّداء أيّها القارئ العزيز: "يا زهراء" (واذكرنا إذا ما ناديت)، ثمّ كرّرها، وكرّرها. أبكتْ كلّ الجماداتِ بصرخة، وأبكتِ الوفد الهُدهُديَّ الحزين بمُناجاتها: "مولاتي، يا زهراء، مَلسيلي على قلبي حتّى يبرد، وعلى راسي كمان، كرمال إتصرف صحّ، وما يِعلا صوتي". كان الجميعُ ينتظرون دموع عينيها، علَّها تكون إشارةً أو إذناً صريحاً لهم ليبكوا.
•اليوم الثامن بعد الشهادة، 17 آذار
متوتِّرةٌ هيَ إلى الحدِّ الذي يجعلُها ترتجِف، كما لو أنَّ شباطَ زار آذارَها. توضأتْ، وبعض وضوئها دمعُ حبّها. صلَّتْ صلاة فجرها، وآخِرُ تسليمِها تمتمات: "انشالله يا إمّي، بآخر أنفاسك تكون ذكرت الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، أوعى تكون ناديت يا إمّي أو أي شي من الدنيا". وعلى سجادة صلاتها، أشرقتِ الشمسُ ربيعيّةً قبل فصلِ الرَّبيع بأيّام. بدأ المعزّون المهنّئون بالتوافد للتبريك. هكذا تجتمعُ الأضداد في محضرِ شهيد.
الكلُّ يستغرب ما تراه العين، وما يسمعون. كانت تُصبِّرهم، تهدِّئهم، تواسي أصحابَ ابنها وأصدقاء الطفولة الحالمة، وأكثر ما تردِّد: "ابني استشهد، وبعدا جثتو عالأرض، صح، بس العالم ما تركتني، وكلّ العالم حَوالينا، أمّا ستنا زينب، إخواتها وولادها وولاد إخواتها استشهدوا قِدّاما، وما كان في حدا يواسيها، ولا يصبِّرها، وآخر شي قالت: ما رأيت إلّا جميلاً". كانت تقفُ متى ما دعتِ الحاجَة، أو أعانتها القدرة، وتُكمل خطابها في العائلة: "لازم تكون هيدي اللحظات لحظات عز مش لحظات ذل وانكسار". ثمّ تجلس، وتلتفتُ يميناً ويساراً، توزّع نظراتِ الرِّضى والابتساماتِ المُخلصة، وتهمسُ همس المتوكّلين في أُذُنِ الغيب: "انشالله ضلني هيك لمّا يجي علي، انشالله". وأعمقُ حديثٍ لعينيها يظلُّ مع عينَي الوقورِ الثابتِ الفرحِ "أبو بلال" شريكها فيما نذرتْ محرّراً.
•الواحد والعشرون من آذار
اثنا عشر يوماً على الاستشهاد. وصل عليٌّ. أسعدُ خبرٍ على قلبها الذي يغلي. تزيّنتِ الأحياء والأزقة بالأصفر وبدوّارِ الشمس، ولبست السّيارات الورد الأحمر والأبيض، واكتستِ الأرض بالثلج. كم كان غريباً أن يخرجَ الثلجُ من قلبِ السَّحاب، كأنَّ شباط زار آذارها!
كانت تقف مرتبكة، تعصرُ الحبَّ في يديها خلف الدار، بعيداً عن العيون. وكلّ أسرارها تودعها في سرِّ السرِّ: "يا زهراء، هلّأ وقت الامتحان، ما بدي إضعف، ما بدّي يطلع صوتي، دخيلك ساعديني، ما بدّي إستقبل حبيبي علي بالصريخ".
دموعها خلف الدار هذه المرّة حفرت على خدّيها غديراً بتوليّاً. استدارتْ كمِظلةٍ تنفضُ عنها المطر. نظرت في وجهِ أنيسِها: "شو يا بو بلال"!
- "دخل عيونو علي، من لمّا راح هالمرّة كنت عارفو مش رح يرجع". أجابها. ثم تلقّى بعض دمعاتها بكفَّيه. بدأ صوتُ سيّارة الإسعاف يقترب. هو مسموعٌ أكثر من أيّ مرّة. كنّا نسمع أصوات سيّارات الإسعاف عادة، لكن ليس بهذا القرب. إنّ عليّاً فيها.
كنّا نخشى عليها من الانهيار على الرغم من الصبرِ الذي بدت عليه، لكن كأنَّ دعوتها قد استُجيبت. قلبها كان برداً وسلاماً على عليِّها. كان وجهها يُنير كالسَّوسن. كانت قد جهَّزت سلةً من وردٍ وأرزّ، تناولتها وبدأت تزفُّ ورقَ الوردِ وصائفَ إلى عينيه، وتنثرُ حبّات الأرزّ بذور عمارةِ دارها في جنّته.
الناس يحملون النعش الزنبقيَّ وهم يبكون خشوعاً، ويصرخون تلبياتٍ زينبيّة، وهي ترشُّ صُوَراً وخواطرَ، ودمعاتٍ، وابتساماتٍ وعِبارات: "الله يبيّض وجّك عند السيّدة الزهراء، بتلبقلك الشهادة يا إمّي بتلبقلك، الله ييسّر أمرك، الله يكون معك، الله معك". استقرَّ النعشُ في الدار هُنيهة. الكلُّ يودّعُ على طريقته، حسب معرفته بطقوسِ الوداع، أو حسب علاقته بالشهيد. إلّاها. سألت عن الساعة، أيّان مرسى الصلاة؟ اتّجهت الأنظار نحوها بدهشة، فقالت مُدهِشةً الناس أكثر: "مش رح إضهر مع النعش عالساحة قبل الصلاة، يا جماعة هودي الشهدا، والشهدا اللي قبلن، أوّل أهدافن الصلاة، نطرت علي 12 يوم، ينطروني 10 دقايق حتّى صلّي".
بدأت مراسم التشييع. كم تشبه هذه الأجواء أعراس الولادة. ما أكثر الملائكة! وكم يشبه هذا الثلج ثلج أيّام الولادة. يوم مولده تحت الثلج وُزِّعتِ الحلوى. ويوم مولده الأكبر وتحت الثلج وُزِّعت الرَّحْمة. المستشفى هو نفسه كان اسمه يوم الولادة مستشفى الـ17، واليوم ها هو يحمل اسم استشهادي هو الشهيد صلاح غندور.
حيَّ على الدّفنِ في الثرى. علا الصُّراخ، ضجَّ الضاجّون، وعجَّ العاجُّون، وبهدوئها الذي يُشبه النفناف اللوزيّ قالت: "بعد أمركن، ما حدا يعلّي صوتو أو يصرخ، هيدي لحظة خشوع". هذا همّها.
أمّا أبو بلال فكانت عبارته تتردّد كالأذكار في الآذان: "مش مسامح حدا يرمي طلقة، ولا طلقة". جلست قرب الضريح، اقتربت برأسها من التراب، وشرعت بالحديثِ مع ابنها: "مباركة يا ماما الشهادة، الله يبيّض وجّك يا علي، عرفت إنّك اندفنت بلا تغسيل وبلا تكفين وببدلتك، هنيئاً لإلك، نيّالك على هالعز، شو يا علي حلوة المواساة 12 يوم بالأرض؟ يا رب يكون الإمام المهدي استقبلك يا ماما، طمّنّي يا علي لمّا استشهدت ندهتلّو؟ ندهتلّو؟".