مَن مِثلُه لا تليق بهم إلّا الشهادة، شهادةٌ كان يعشقها ويتمنّاها ويعمل من أجلها، شهادةٌ كانت مشهودة، وكان لها توقيتٌ بعلم الله.
عن نزْر يسيرٍ من تاريخ جهاد سيّد شهداء محور المقاومة الحاج قاسم سليماني نُحدِّثكم، وما خفي أعظم.
•قائد برتبة شهيد
دعا له سماحة الإمام القائد دام ظله خلال مراسم منحه وسام "ذو الفقار": "إن شاء الله، يعطيه الله تعالى أجرَه، ويتفضّل عليه، ويجعلَ حياته في سعادةٍ، ويجعل عاقبته الشهادة؛ بالتأكيد، ليس الآن، الجمهوريّة الإسلاميّة محتاجة إلى عمله لسنواتٍ أخرى، ولكن في النهاية -إن شاء الله- ستكون العاقبة هي الشهادة".
•عاشق للشهادة
كان (رضوان الله عليه) عاشقاً للشهادة، ومتمنّياً لها، وقد فاضت كلماته بعبق الشهادة، فكان لا يترك فرصة إلّا ويلهج لسانه بذكرها. ومن كلماته فيها:
- "إنّها لسعادةٌ كبرى، الشهادة هي تلك الأمنيّة التي تخفق لها جميع القلوب، كلّ العشاق التائقين للوصال مع معشوقهم والمشتاقين لبلوغ غايتهم، يرون الشهادة آخر وسيلة توصلهم إلى المعشوق، فيختارونها"(1).
- "فخرنا وعزّنا هما الشهادة. وفخرنا أن نُقاتل ونُقتل في سبيل الله، وعلى طريق الإسلام"(2).
•قلبٌ ينبض بالولاء
كان للحاج قاسم (رضوان الله عليه) علاقة مميّزة بأهل البيت عليهم السلام، فقد كان يعدّ نفسه جنديّاً في جيش صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهو الذي يرعى مسيرة الجهاد ويسدّدها "كونوا أشدّاء، واعلموا أنّكم بفضل دعاء إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وبقيادة قائد مثل إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف ستوجّهون للعدوّ الماكر ضربة قاضية تشلّ قدرته... ببركة قطرات دمائنا إن شاء الله نُفرِح قلب إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف وسنقول لإمامنا: يا إمامنا يا قائدنا لو وهبنا الله الروح آلاف المرّات لفديناك بها، يا إمامنا لن نتركك وحيداً كما ترك أهل الكوفة عليّاً وحده"(3).
أمّا السيّدة الزهراء عليها السلام، فقد كانت ملجأه في الشدائد وعند انسداد الأفق؛ ففي عمليّات (والفجر8)، وأثناء عبور نهر أروند، "كانت الأمواج العاتية تقذف الماء بعيداً على الشاطئ، وتُصدر أصواتاً مخيفة. كادت المراكب الكبيرة وحتّى السفن لتختفي في تلاطم هذه الأمواج! وبطبيعة الحال فإنّ مجموعة الغوص اختفت في طيّات هذه الأمواج. في هذا الظرف، قلت للإخوة: علينا بالتوسّل بالسيّدة الزهراء عليها السلام.
في مثل هذه الأوضاع علينا أن نناديها ونتوسّل بها، وهذا ما حصل. في الواقع ما حصل كان أمراً عجيباً. توجّه جميع الإخوة إلى طرف المستنقع وبدأوا بقراءة دعاء التوسّل بالزهراء عليها السلام المعروف، واتّحد نداء (يا وجيهة عند الله اشفعي لنا عند الله) مع أصوات تلاطم أمواج أروند حتّى بات الصوتان صوتاً واحداً. في تلك الحال شعرت بكامل وجودي أنّني أنظر إلى السيّدة الزهراء عليها السلام.
أصلاً، منذ اللحظة التي ألهمني الله ذلك وأخبرت الإخوة به، تملّكني إيمان غريب وسكينة عجيبة بأنّنا منتصرون. وبالفعل، في تلك الليلة اقتحم الإخوة جوف الماء"(4).
- "أيّها الناس! إنّ الزهراء عليها السلام أمٌّ رحيمة مسحت بيدها المليئة باللطف على رؤوس أبنائكم في الجبهة"(5).
•محبوب المجاهدين
في إحدى معارك الدفاع المقدّس، يروي "موسى مير شكار" مشهداً من مشاهد ارتباط المجاهدين بالحاج قاسم (رضوان الله عليه): "أُجبرنا على الدفاع بما تيسّر من الإمكانيّات المحدودة. حوصرنا بين الأعداء والمسطّحات المائيّة، وكنا نرى أمامنا دبابات العدوّ وأعدادها تتزايد باستمرار. تراجعت قوّاتنا إذ لم يعد في الإمكان الصمود والدفاع أكثر من ذلك. كنت في المقدّمة مع مير حسينيّ، سرغزي زاده، بودينه، وعدد قليل من الإخوة. قلت لمير حسينيّ:
- بما أنّ قوّاتنا قد انسحبت، لِمَ لا نتراجع نحن أيضاً؛ إذ لم يعد في اليد حيلة.
حينها نطق مير حسينيّ بما جعلني أخجل:
- قال لي قائد الفرقة الحاج قاسم سليمانيّ: إمّا أن تحفظ الخطّ أو تستشهد فيه. وأنا بناءً على أوامر قائدي سأبقى هنا، إمّا أحفظه أو أستشهد دونه.
كنت أعرف مدى احترام مير حسينيّ وتقديره للحاج قاسم سليمانيّ، لكنّني لم أتصوّر أبداً أنّه على استعداد لبذل آخر قطرة من دمائه ليحافظ على عهده(6).
•القائد المقدام
ظُهر اليوم الخامس من عمليّات (كربلاء 5)، اتّصل بي لاسلكيّاً "حسين تاجيك"، قائد الكتيبة، الذي كان مستقرّاً على خطّ دفاع "نهر جاسم"، طالباً منّي المساعدة. قلت له: "اصمد وإلّا فسيحاصَر لواءا المهدي والغدير! سأفكّر في حلّ ما".
اتّصلتُ من المقرّ التكتيكي لفرقة "41 ثار الله"، والذي كان على مسافة قصيرة من الخطّ، بمقرّ خاتم الأنبياء.
- أنا قاسم سليمانيّ.. كتيبتي بحاجة إلى قوّة إسناد في "نهر جاسم".
- سمعت.
- حاج قاسم، ينبغي الحفاظ على نهر جاسم! إن تراجعتم فسيحاصَر جناحاكم!
- سأتقدّم بنفسي.. سأرى ما يمكنني فعله. لا تتوانَوا عن إطلاق النار!
بصفتي قائد فرقة "41 ثار الله" لم أستطع الصبر بانتظار وصول عناصر الهجوم، ناديتُ عامل الإشارة قائلاً: "أحضر الجهاز اللاسلكيّ والدرّاجة الناريّة لكي نمضي إلى الأمام"(7).
•الودود المحبّ
في كتاب (أولئك الثلاثة والعشرون فتى)، يُظهر أحمد يوسف زاده بعضاً من شخصيّة الحاج قاسم (رضوان الله عليه)، فيقول: "كان الحاج قاسم يرتدي زيّاً أحبّه، وكان ودوداً عكس غيره من القادة العسكريّين، ينظر إلينا بعطف وتواضع"(8)، و"كان الحاج قاسم مبتسماً كعادته، ألقى التحيّة على المقاتلين..."(9).
•في أحلك الظروف: دعابة ومزاح
في اليوم الثالث من عمليّات "كربلاء 5"، صار الوضع صعباً جدّاً، لقد ضغط البعثيّون بشدّة، وكانوا يصبّون كلّ نيرانهم؛ الكاتيوشا والمدفعيّات والدبّابات وأيّ شيءٍ يمتلكونه... كانت الطائرات المروحيّة تأتي وترمي حممها من الخلف، وتُطلق نيرانها فوق القناة لتدمير مقرّ الإخوة في الاتّصالات اللاسلكيّة. كنّا نشعر أنّ الأمر قد انتهى تماماً؛ لأنّهم قضَوا على سيّارات الإسعاف كلّها، ومنعوا إخلاء الجرحى... لقد كان الجسر يشهد جحيماً من النيران غطّته بالكامل. ولعلّه يمكن القول: إنّ نحو مئة قطعة مدفعيّة كانت قد احتشدت لضرب هذا الجسر، بحيث لا يتمكّن أيّ شيء من عبوره، لقد أغلقوه بالكامل. استمرّ العدوّ بهجماته المضادّة بنحوٍ مكثّف لمدّة سبعة أيّام تقريباً.
كتب عدنان خير الله -الذي كان من الضبّاط المهمّين والأكثر كفاءةً بين القادة البعثيّين- في تقريره لصدّام: قد قمت بذاك الأمر الذي جعلهم يتوسّلون ويتضرّعون. أمّا نحن، فكّنا نتواصل مع مرتضى قرباني في بعض الأوقات عبر اللاسلكيّ، نطلق الدعابات وننشد، وندعو ونتمازح ونرفع من معنويّات بعضنا بعضاً، أمّا هو فقد كان يتصوّر أنّنا كنّا نتوسّل فزعاً(10).
•جبهة شلمجة ولغة العشق
يروي الشهيد قاسم: "كانت شلمجة ماكيتاً عسكريّاً(11) لقدرة الجيش البعثيّ. لقد كانت المكان الوحيد الذي لم يكن أيٌّ من قادة الجيش البعثيّ يتصوّر أنّه سوف يُهزم فيه. فنحن لم نقم بوضع خطّة عسكريّة لتنفيذ عملٍ عسكريّ عليها، بل كانت عمليّات الولاية، الولاية بمعنى أنّ الإمام كان قد اتّخذ القرار وبلّغنا عبر ممثّله أنّ أرض معركتكم هي هذه.
في ليلة العمليّات أعترف أنّي كتبت ثلاث مرّات لقائد المقرّ أنّنا الآن نقوم بأكبر مخاطرة في هذه العمليّات. وفي اللحظة التي نزل فيها التعبويّون في الماء ووصلوا إلى خلف الأسلاك الشائكة، حيث كان القمر في الليلة العاشرة مثل النهار المضيء، رأيت في الماء وعبر منظاري -حيث كنت أراقب- وخلف ميدان الألغام، جدار التعبويّين الممتدّ لكيلومترات، فارتعد بدني وبكيت من الخوف، قلت في نفسي إنّه لن يصل أيّ واحد من هؤلاء التعبويّين إلى العدوّ. كان ذهني يقول لي هذا، والعلم أيضاً كان يقول هذا، والعقل أيضاً كان يقول هذا، وتجربتي أيضاً كانت تقول لي هذا. هذه القرائن كلّها كانت تخبرني أنّ هؤلاء التعبويّين لن يصلوا إلى الخطوط، وأنّ هذه العمليّة لن تنجح، ولكنّ العشق لم يقل ذلك.
كنت أقول بعجزٍ تامّ: "اقرأوا دعاء التوسّل، واطلبوا المدد من السيّدة الزهراء عليها السلام، وكأنّ ستاراً قد نزل وغطّى القمر وأظلمه"(12).
1.من خطابه (رضوان الله عليه) قبل انطلاق عمليّات "طريق القدس" يوم الجمعة، في السادس من شهر آذر عام 1360 هـ.ش (1981)، في جمع كتيبتين من فرقة "41 ثار الله" الكرمانيّة.
2.من الكلمة الخالدة للحاج قاسم سليمانيّ في مهديّة مقر الشهيد كازروني، بعد عملية "كربلاء 4" في إسفند سنة 1365 هـ.ش (شباط، 1987).
3.من خطابه (رضوان الله عليه) قبل انطلاق عمليّات "طريق القدس" يوم الجمعة، في السادس من شهر آذر عام 1360 هـ.ش (1981)، في جمع كتيبتين من فرقة "41 ثار الله" الكرمانية.
4.قاسم سليماني- ذكريات وخواطر، ص43.
5.(م.ن)، ص50.
6.جوهرة هامون، الفصل الرابع، ص 71-72.
7.تلّة جاويدي وسرّ أشلو، سلسلة "سادة القافلة"، ص 562.
8.أولئك الثلاثة والعشرون فتى، سلسلة "سادة القافلة"، ص45.
9.(م.ن)، ص55.
10.راجع كتاب: قاسم سليمانيّ – ذكريات وخواطر، ص70.
11.نموذجاً، مجسّماً.
12.من الكلمة الخالدة للحاج قاسم سليمانيّ في مهديّة مقر الشهيد كازروني، بعد عملية (كربلاء 4) في إسفند سنة 1365 هـ.ش (شباط، 1987).