إعداد: ناهدة علي شعيتو
يحتضن التاريخ الإسلامي الكثير من المواقف الجهادية البطولية التي سجلها رجال امنوا باللَّه تعالى ونذروا أرواحهم في سبيله فكانوا مستعدين للتضحية مهما كانت من أجل إعلاء راية الإسلام في سماء العز والإباء.
لعل الموقف البطولي للصحابي الجليل عمار بن ياسر في التسعينيات من عمره هو من جملة المواقف الاستشهادية التي يزخر بها تاريخ رجال هذا الدين الحنيف، حيث لم تثنهِ شيخوخته عن شرف الجهاد في سبيل اللَّه، وقد أحدودب ظهره وضعف بدنه وهزلت أطرافه، وقد شد وسطه بحبلٍ من ليف وهو مع ذلك كله كان يقتحم صفوف المارقين والمنافقين ويصول بينهم ويجول، ويلتقي المحاربين بصدر حماسي قلّ نظيره، وأن المشهد الأروع في تفانيه كان قد تمثّل عند شعوره بالعطش الشديد وهو في رمضاء صفين الحارَّة، فالتفت إلى السقّاء طالباً شربة من الماء لثقل الحديد والجهد الجهيد الذي بذله، وكانت المفاجأة عند جواب السقّاء بالقول: لقد نَفِذَ الماء، ولا يوجد إلا اللَّبن، فناوله إياه، وهنا الأداء المميز لهذا المجاهد الكبير، إذ لم يكد يشعر ببرودة اللبن في شفتيه حتى مَثَل أمامه حديث المصطفى صلى الله عليه وآله بقوله يا عمّار تقتلك الفئة الباغية، وآخر شربة تشربها شربة من اللبن، عندها لم يكمل شربته بل ناولها إلى السقَّاء، وإبتدر متهلّلاً وانحدر مسرعاً إلى قلب الأعداء وهو يرتجز ويقول: اليوم ألقى الأحبة، اليوم ألقى محمداً وحزبه... وقاتل حتى استشهد رحمه اللَّه.
وبالحقيقة فإن حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام والصحابة رضي الله عنه مليئة بمثل هذه المواقف التي لا تقلّ امتيازاً أو عطاء أو إقداماً، فهذا الرسول صلى الله عليه وآله كان المقدام الأوّل في كل المعارك والغزوات التي قادها بنفسه، وكان أمير المؤمنين علي عليه السلام الذي امتلأت سيرته ببطولات نادرة جداً دائماً يردد قوله الشهير: "كنا إذا أحمر البأس اتقينا برسول اللَّه صلى الله عليه وآله فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه"(*)، وكان عمير بن الحمام أخو بني سلمة يأكل بعض التمر عندما سمع النبي صلى الله عليه وآله يصيح بالمسلمين في معركة بدر الكبرى: والذي نفس محمدٍ بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله اللَّه الجنّة، فقال عمير بن الحمام بعدما رمى التمر من يده بخ بخٍ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، فأخذ سيفه وقاتل القوم حتى قُتل فكان أول شهيدٍ من المسلمين في بدر(1). ه
ذا التنافس الشديد والإقبال الكبير كان يشكل رغبة قوية وقناعة ثابتة تناهت إلى أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله الذين قالوا له: "فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول اللَّه لما أردت فنحن معك، والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنَّا لصبَّر في الحرب صدق في اللقاء لعل اللَّه يريك منا ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة اللَّه تعالى(2).
ومما سجله هذا التفاني ما جعل أعداء هذا الدين يعجبون من الروحية العالية التي كان يتميز بها المجاهدون في سبيل اللَّه في مختلف الأزمنة والحوادث الواقعة التي مرّت بها هذه الأمة، وهذا ما يُفسِّر الإصرار الذي أبداه مجموعة من المجاهدين كانوا قد وقعوا في أسر الروم في غزوة عين مسنون، أرسلهم رسول اللَّه ا إلى تخوم بلاد الروم، حيث خيرهم قائد الروم بين التنصّر والموت بأبشع صوره فكان أن فضلوا الموت غصة بعد غصة على ألاَّ ينزلوا عن هذا الدين الشريف باستثناء واحدٍ منهم كان يبكي بكاءاً كثيراً، حيث ظن قائد الروم أن بكاءه كان استسلاماً وجزعاً من الموت، فانفرجت أساريره، وبانت ثناياه فرحاً، ولكن هذا المجاهد الأسير قد قطع عليه سروره هذا بالقول عندما سأله: لعلك أحببت أن تنزل على ديننا؟ فقال له ذلك المجاهد: لم أبكِ على الموت ولكن أبكي لأن لي روحاً واحدة، فلو كانت لي سبعون روحاً كي أقتل ثم ابعث ثم أقتل ثم أبعث يفعل بي ذلك سبعين مرة على أن أترك هذا الدين ما فعلت، عندها قال القائد متعجباً من ثباته ورأيه: عجيب أمر محمد، وأي رجال نقاتل! ثم أمر بقتل الأسير رضوان اللَّه عليه.
أما الحديث عن التابعي الشهير قائد جيش أمير المؤمنين مالك الأشتر، وما نمي عنه من مواقف استشهادية في حياته المليئة بالجهاد، وبطولاته الرائعة ومسؤولياته الجسام في الوقوف مع الحق لمواجهة الباطل بكل تشعباته، وقد بلغ من علو مكانته العسكرية وولائه المميز واقتحامه الموت بالموت لنيل الشهادة، حتى بكى من أجلها، فلما رآه الإمام علي عليه السلام قال له: ما يبكيك، لا أبكى اللَّه عينك فقال: أبكي يا أمير المؤمنين لأني أرى الناس يقتلون بين يديك وأنا لا أرزق الشهادة فأفوز بها(3)... ما دفع الإمام علي عليه السلام إلى أن يبكيه وينعيه: "رحم اللَّه مالكاً، لو كان جبلاً لكان فنداً، ولو كان حجراً لكان صلداً..."(4) "مالك وما مالك وهل قامت النساء عن مثل مالك؟ وهل موجود كمالك؟ فعلى مثل مالك فلتبكي البواكي... هذا المجاهد العظيم قال عنه المؤرخون: ماذا نقول عن رجلٍ هزم في حياته أهل الشام، وهزم في موته أهل العراق.. وما كان ليرفعه اللَّه تعالى إلى مكانته هذه لولا ورعه الشديد وإيمانه الكبير وتفانيه العظيم. موقف جهادي عظيم يسجله التاريخ أيضاً لأصحاب الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء وهو ثبات أصحابه معه رضوان اللَّه عليهم رغم دعوته لهم لترك ساحات الوغى، فكان جوابهم: قبح اللَّه العيش بعدك يا أبا عبد اللَّه، أنحن نخلي عنك وبما نعتذر إلى اللَّه في أداء حقك فمنهم من قال: لا واللَّه حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولا أفارقك، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك. ومنهم من قال وهو سعيد بن عبد اللَّه الحنفي: واللَّه لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق ثم أذّر يفعل بي ذلك سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها(5).
ثم إننا نجد في موقف عبد اللَّه بن عفيف الأزدي الشيخ المسن والضرير الذي لم يمنعه ذلك من الوقوف بوجه ابن زياد عندما أخذ عليه في خطبته بالمسجد الأعظم بالكوفة وقاطعه لما تطاول على الإمام الحسين د بعد استشهاده فكان من ابن زياد أن أرسل جلاوزته إلى داره لينتقم منه، فكانت المواجهة عنيفة مع قوم عبد اللَّه بن عفيف حتى وصلوا إلى منزل ابن عفيف فكسر بابه واقتحموه وهجموا عليه فبقي وحده فناولته ابنته الصغيرة سيفاً وأخذت تدّله على المحاربين له فتقول يا أبت أتاك القوم من جهة كذا ومن جهة كذا، وهي تقول ليتني كنت رجلاً أذب بين يديك هؤلاء الفجرة قاتلي العترة البررة، وتكاثروا عليه حتى أوقعوا به وحملوه أسيراً إلى ابن زياد وهنا الموقف العظيم والمميز عندما أخبره ابن زياد بأنه سيذوق الموت غصة بعد غصة فقال له: الحمد للَّه رب العالمين، أما أني كنت أسأل اللَّه ربي أن يرزقني الشهادة من قبل أن تلدك أمك، وسألت اللَّه أن يجعلها على يدي ألعن خلقه وأبغضهم إليه، ولما كفَّ بصري (وكانت ذهبت أحد عينيه يوم الجمل والأخرى بصفين مع أمير المؤمنين عليه السلام) يئست من الشهادة أما الآن والحمد للَّه الذي رزقنيها بعد اليأس وعرَّفني الإجابة في قديم دعائي(6). فأمر اللعين بقتله فاستشهد رضوان اللَّه عليه، ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.
(*) بحار الأنوار، ج16، ص232. انظر نهج البلاغة، غرائب كرمه، رقم 9.
(1) عيون الأثر، ج1، ص338.
(2) المرجع نفسه، ص327.
(3) مالك الأشتر، للعطار، ص244.
(4) نهج البلاغة، قصار الحكم، 443.
(5) أبو مخنف، وقعة الطف، ص198 و199.
(6) اللهوف، ص92، مقتل الحوارزمي 2 53.