هنادي سلمان
صراخ، عنادٌ، عصيان وتمردٌ على تنفيذ الأوامر. إنها المواقف التي قد تواجهينها يومياً من طفلك أيتها الأم. والتي ستفاجئك أيها الأب عندما تراها ولا شك في أن مثل هذه المواقف ستثير انزعاجكم وستبعث القلق في أنفسكم، إذ أنه ليس من السهل أن نتقبلها أو أن نتعامل معها. لذلك فإن ردة الفعل الأولى التي قد نتخذها في ظل عصيان الطفل، هي عصيان مماثل من قبلنا، يزيد الأمر حدة وصعوبة وقد لا نعي في بعض الأحيان أننا نساهم مساهمة فعالة في نشوء العصيان لدى الطفل، وفي تفاقمه بعد نشوئه. في حين أن باستطاعتنا أن نحول دون حدوث هذه الظاهرة ونحيلها إلى طاعة وتقبل للأوامر التي نصدرها. فكيف نحول عصيان أولادنا إلى طاعة؟ وأي نوعٍ من الطاعة هو ما نسعى إليه؟
* تعريف العصيان:
"العصيان ظاهرة لا ينفِّذ فيها الطفل ما يؤمر به، أو يصر على تصرفٍ ما، ربما يكون خطأ أو غير مرغوب فيه. إن هذا السلوك من جانب الطفل هو تعبير عن رفض رأي أراده الآخرون كالأهل أو المعلمين. يتميز العصيان بالإصرار وعدم التراجع حتى في حال الإكراه والقسر حيث يبقى الطفل محتفظاً بموقفه داخلياً" والعصيان واقعاً ليس إلا تصريحاً عن وجود تصادم بين رغبات وطموحات الصغار، ورغبات ونواهي الكبار وأوامرهم.
*أسباب العصيان:
قد يختصر الأهل أو المربون أسباب ظاهرة العصيان عند الطفل بكلمة واحدة: "هذا خِلقة" وكأنهم يحيلون الأمر إلى دوافع خلقية وراثية لا علاقة لهم بها. ولكن هل العصيان يورّث فعلاً؟ يؤكد علماء التربية: "إن العصيان خُلُق يكتسب ولا يورث. إنه ينطلق من واقع التربية التي يخضع لها الولد فيساهم في تغذيته سلوك الآباء ومواقف المعلمين..." فكيف يكون ذلك؟ إنها باختصار طرق وأساليب التربية التي نستخدمها مع أولادنا والتي تتأرجح بين القسوة الشديدة أو اللين الشديد.وكلاهما يساهم في بروز ظاهرة العصيان لدى الطفل. فالقسوة الشديدة و" أساليب العنف التي يستخدمها المربون قد تورث حالة انفعالية شديدة، تُكبت لفترةٍ بفعل الخوف، ولكنها لا تلبث أن تنفجر ثورةً وعناداً وعصياناً" كما أن الإفراط في المحبة والتساهل الزائد مع الطفل وتلبية جميع رغباته قد تجعله يتصور والديه خادمين له، فإذا ما وجد بعض القيود والموانع تعيق بعض هذه الرغبات، فإنه يسعى جاهداً لمجابهتها لتحقيق رغبته بأية وسيلة كانت. وقد يجد في العصيان أسهل الطرق المتاحة أمامه. فإذا طلب الطفل شيئاً من أمه ورفضت الإستجابة له، توجه عندها إلى الإمتناع عن الطعام مثلاً، كي تتنازل الأم عن موقفها. ومتى حصل ذلك فعلاً استغل الطفل نقطة الضعف هذه كي يمارسها في كل مرة يريد فيها من والديه تلبية حاجة ما.
* أسباب أخرى:
قد ينشأ العصيان أيضاً نتيجة العلاقات الأسرية المتوترة بين الوالدين. ولا شك في أن مثل هذه العلاقات تولد ضيقاً وقلقاً لدى الطفل، يتحول فيما بعد إلى عصيان وتمرد. كذلك فإن للتذبذب في معاملة الطفل دوره في نشوء هذه الظاهرة، كأن تكون الأم في صف الطفل والأب على النقيض. أو أن نعاقب الطفل على تصرف، كنا قد تساهلنا معه فيه في مرة سابقة. يبقى أن نشير إلى أن الطفل قد يلجأ إلى العصيان عندما يطلب منه القيام بأعمال تتجاوز قدراته الجسدية والنفسية فلا يقوى على تنفيذها كأن نجبره على ارتداء معطف ثقيل يعرقل حركته أثناء اللعب وربما يكون سبباً في خسارته أمام رفاقه أو أن نطلب منه أمراً ما وهو مستغرق في لعبة يحبها.
* متى يصبح العصيان ظاهرة تحتاج إلى علاج؟
كل الأطفال يرفضون الإنصياع لبعض الأوامر التي يوجهها لهم الكبار. فهل كل هؤلاء الأطفال يتسمون بصفة العصيان؟
"قد يحدث العصيان لفترة وجيزة أو مرحلة عابرة فيكون وسيلة مؤقتة وآنية لتحقيق أهداف ومقاصد آنية وسريعة لدى الطفل، وقد يكون نمطاً متواصلاً وصفة ثابتة في سلوك وشخصية الطفل تحتاج إلى إرشاد وتوجيه". لذا -وقبل أن نوجّه لطفل ما صفة العصيان- يجب أن نطرح على أنفسنا الأسئلة التالية:
- هل غالباً يفقد الطفل إتزانه ويتعكّر مزاجه؟
- هل الطفل غالباً مجادل للكبار؟
- هل يتحدى أوامر الآخرين ويرفضها في أغلب الأحيان؟
- هل يتعمّد عمل تصرفات تضايق الآخرين باستمرار؟
إن الخطوة الأولى التي يجب اتخاذها بشأن طفل يعاني من مثل هذه الاضطرابات السلوكية هي التأكد من عدم إصابته بأية أمراض عضوية إذا ما تمت معالجتها زالت الأعراض الجانبية الناتجة عنها تلقائياً، أما إذا ما تأكدنا من عدم وجود مثل هذه الأمراض، فعلينا أن نتوجّه إلى الحد من ظاهرة عصيان هذا الطفل تدريجياً، حتى نحول دون تأسيس بذور "الشخصية السلبية العدوانية" لديه في مراحل عمره المتقدمة.
*كيف نحول عصيان أولادنا إلى طاعة؟
من البديهي أن العصيان هو سلوك يرفضه الجميع، وأن الطاعة خلق يحبه الجميع ويطلبونه. لذا من المهم أن نعرف كيف نساعد أبناءنا حتى يتخلصوا من العصيان. والأهم أن نكون مستعدين فعلاً لذلك، مستعدين لكي نضبط جهاز أعصابنا ونتحكم به متى اقتضى منا الأمر هدوءاً وعدم انفعال. فكيف السبيل إلى ذلك؟.
أ- إن القاعدة الأولى التي لا يجب أن نغفلها أو نغفل عنها هي حديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم" فتقدير الوالدين لشخصية الطفل من شأنه أن يثير محبته لهما وبالتالي فإنه سيسعى جاهداً كي ينال رضاهما. وسيمتثل تلقائياً إلى أي طلب منهما. ولا شك أنه كلما زاد حب الطفل لوالده أو مربيه كان تقبله لتوجيهاته أفضل وهذا سيسهل أمام المربي الكثير من المصاعب.
ب- التخفيف من أسلوب الشدة في المعاملة لأنه " أسلوب خاطئ يثير الخوف ويبعث في النفس القلق والحقد ليتحول بعدها الأمر إلى انفجار انفعالي يكرس العصيان وينفي الطاعة" وإذا كان للطفل سلوك غير محبذ فعلى الوالدين أن يرشداه إلى الطريق الصحيح بأسلوب هادئ بعيد عن الإهانة والتحقير.
ج- الإبتعاد عن العشوائية في إصدار الأوامر: هناك بعض الآباء يتدخلون في سلوك أطفالهم بدرجة كبيرة ظناً منهم بأنهم يحسنون تربيتهم فيتجاوزن بأوامرهم ونواهيهم الحد المعقول ويسببون الملل لهم ولأطفالهم في حين أن الطفل يزداد انحرافاً يوماً بعد آخر. وهنا نؤكد على ضرورة "أن تكون مطالب الأبوين من الطفل معقولة وبالإمكان تنفيذها". كما أنها يجب أن تصدر في أجواء ملائمة، فلا نأمره بشيء يفوق قدراته، ولا نمنعه لسبب تافه عن لعبة يحبها ولا ضرر منها. ولا نتوّقع منه أن يجلس لساعات طويلة هادئاً وهو ممتلىء بالنشاط والحيوية. وعلينا دائما ًأن نتذكر قول الرسول صلى الله عليه وآله عن طرق معاملة المرء للطفل عندما نصدر أي أمر أو نهي: "لا يرهقه ولا يخرق به"وحبذا لو كنا نصدر أوامرنا بصفة الإيجاب وليس النهي فنقول له: "إفعل" بدلاً من "لا تفعل" ونبتعد عن اللهجة الجافة والقاسية.
د- الثبات في المعاملة: وهنا يتوجب على الوالدين أن يتفقا على قاعدة ثابتة أثناء التعامل مع الطفل، فإذا أصدر أحدهما أمرا ًلا يجوز للآخر أن يعاكسه. كما لا يجوز أن يتراجع الوالدان عن موقف اتخذاه أمام إصرار الطفل وعناده ظنا ًمنهما أن هذا التنازل قد ينهي المشكلة. فهذا من شأنه أن يعمق هذا السلوك في شخصية طفلهما.
هـ- توعية الطفل بأسلوب الحياة: وذلك من خلال محاولة إفهامه بأن في الحياة ممنوعات علينا أن نتوقع حدوثها حتى يتهيأ للتكيف مع حالات الخسارة في المستقبل وهنا يتوجب على الأهل أن يلبوا بعض مطالب الطفل المعقولة قبل أن يطلبها أصلاً. وبهذه الطريقة لن يشكل رفضهم أو منعهم لطلب ما صدمة عنيفة له تؤدي إلى هيجانه وعصيانه.
و- تعليم الطفل الطاعة: "يجب أن يعيش الطفل أجواء الطاعة في الأسرة والمدرسة، فلا تتمرد الأم على أوامر الأب ولا يخالف الأب ما ترغبه الأم على الأقل بحضور الطفل حتى لا يقتبس هذه العادة بالتقليد والمحاكاة".
ز- إقناع الطفل بالأمر أو النهي: "فالإقناع يشجع الطفل على إطاعة الأوامر وتنفيذها لأنه لن يشعر بالظلم أو الأسى" لذا فأي حرمان نفرضه يجب أن يسبقه تبرير واضح عن سبب المنع، ولا بد من إقناعه بأن الأساس في النهاية هو مصلحته.
ح- تعزيز السلوك الإيجابي: يقول الله في كتابه الكريم ﴿فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا﴾ وكأنه عزّ وجل يحبب إلينا الطاعة من خلال الثواب والأجر الحسن الذي أعده للمطيعين وهذا من الناحية التربوية ليس إلا تعزيزاً للسلوك الإيجابي الذي ينتج عن الفرد. وهذه القواعد الإسلامية الصحيحة إذا ما طبقناها مع الطفل ستلقى النتائج التي نطلبها. فإذا كان الطفل كثير العصيان وأطاع، علينا أن نشعره بأهمية ما فعل ونعزز هذا السلوك السوي لديه حتى يعرف حلاوة الطاعة فيقبل عليها باستمرار. أن نحول الطفل من طفل عاصٍ إلى طفل مطيع ليس أمراً سهلاً، ولن يتم بين ليلة وضحاها فهو يحتاج منا إلى الكثير من الإدراك والوعي بشخصية الطفل، وإلى الصبر على هفواته وعلى الوقت الذي قد يتطلبه هذا التحوّل. ومن الضروري أن نفهم حدود الطاعة التي سنرى أطفالنا عليها، وأن لا تصبح الطاعة بالنسبة لنا هدفاً وغاية.
* هل الطاعة وسيلة أم غاية؟
"إن الطاعة وسيلة لتحقيق أهداف تربوية كثيرة وهي ليست هدفا ًبحد ذاتها فنحن لا نجبر أولادنا على الطاعة حبا ًفي الطاعة نفسها، ولكننا نطلب منهم أن يكونوا مطيعين في بعض المواقف سعيا ًوراء تحقيق القيم التربوية لهذه الطاعة بالنسبة لهم. فعن طريق الطاعة يكتسب الأبناء الكثير من القيم والإتجاهات الطيبة والخيرة، كما إنهم يتدربون منذ طفولتهم على احترام النظم والقواعد والتقاليد المرعية فيرعونها حين يكبرون ويخرجون إلى المجتمع" إلا أن للطاعة صوراً شاذة قد تقلل من هذه القيم التربوية التي ننشدها. ومن هذه الصور ما هو قائم على التقليد الزائد للآباء والطاعة المفرطة لهم وهذا سيحدد سلوك الطفل في المستقبل إلى حدٍ كبير لأنه سيمتص الكثير من أساليب السلوك. وتكمن الخطورة في هذه الحالات، في أن الطفل سيطيع الأوامر ليس لأنه مقتنع بها، ومؤمنٌ بفائدتها بل لأنه يقلد والديه تقليداً أعمى. ومثل هذا التقليد سيشكل مظهرا ًمن مظاهر فقدان الطفل لشخصيته المستقلة وتوحدها وذوبانها في شخصية الوالد أو المربي. والطاعة في هذه الحالة ستكون عَرَضاً لسلوك شاذ وستفقد قيمتها التربوية لأنها تعتبر مظهرا ًمن مظاهر ضياع شخصية أولادنا. وحتى لا تفقد الطاعة هذه القيمة، لا ينبغي أن نعتبرها غاية في حد ذاتها تعوق حركة الطفل وتشل تفكيره، بل وسيلة هادفة لتنمية قدراته النفسية والفكرية. يبقى أن نقول، أن الطاعة إذا أحسنا استخدامها ستلعب دوراً لا غنى عنه في حياة كل فرد وفي تحقيق نضجه ونموه، وكذلك في تحقيق الفرد لذاته. إلا أنها سلاحٌ ذو حديّن، فحذار أن نستخدمها فتصبح وجهاً من وجوه الاستبداد والظلم. وعندها سنسيء إلى أطفالنا وسنقع في محظورات نحن بالغنى عنها أصلاً.
المعلم والتربية؛ د. محمد رضا فضل الله.
سيكولوجيا الأطفال؛ د. رأفت محمد بشناق
سيكولوجيا الطفل؛ باسمة كيال.
الكافي؛ الكليني؛ ج؛ 60؛ ص: 50.
بحار الأنوار؛ العلاّمة المجلسي؛ ج: 23؛ ص: 114.