نسرين إدريس
اسم الأم: حُسن نور الدين
محل وتاريخ الولادة: مركبا 11- 3 - 1972.
الوضع العائلي: متأهل وله ولد
مكان وتاريخ الاستشهاد: جزين - عرمتى موقع بئر كلاب 20 – 11- 1998.
كان علي الرضا يقارب الثلاث سنوات عندما جلس بمفرده في الغرفة يلعب بسيارته الصغيرة. وبعد فترة وجيزة بدأت أمه تسمع ضحكته العالية وثرثرةً لم تسمعها منه من قبل، فظنتْ أن صوت التلفاز اختلط مع صوته. غير أن شيئاً ما شدها لتنظر إليه من خلف الباب، وهو يلعب سعيداً، وعندما رآها طلب منها ألا تدخل دون حجاب لأن "بابا غسان" في الغرفة. كان يشير بإصبعه الصغيرة إلى حيث يجلس والده والسعادة تنبع من رئتيه المنهكتين لكثرة لعبه، ولكن في تلك الغرفة لم يكن أحد سواه، وصورة غسان المعلقة على الحائط.
كان علي الرضا روح غسان ونفسه، ولم تسع الدنيا فرحته عندما أخذه بين ذراعيه للمرة الأولى مؤذناً في أذنيه آيات الجهاد والشهادة، ولم تمنحه أمنيته بالشهادة وقتاً طويلاً لينعم بمولوده، فقد منّ الله عليه بجنة النعيم وولده لم يبلغ الأربعين يوماً، تاركاً له كلمات خطها لزوجته قبل أن يولد طفله: " علمي ولدنا أو بنتنا خط أهل البيت عليهم السلام وخط المقاومة والتضحية والشرف والفداء، وتقديم كل غالٍ في سبيل الله، واجعليه من الاستشهاديين من الشهداء كما هو مولانا الإمام الحسين عليه السلام". رحل غسان المجاهد بعد سنوات طويلة من التعب والعمل لتحصيل أجر الشهادة في سبيل الله. وهو منذ صغره سعى إلى أن يكون مثال الإنسان القدوة، بأخلاقه العالية وأمانته وصدقه جمع كنزه الذي لا يفنى رضا الله ومحبة الناس، والتزامه بالأحكام الإلهية التي كانت سفينة نجاته في بحر هذه الدنيا.
في منطقة الشياح ولد وتربى غسان ضمن أسرة لم تعرف سوى بساطة العيش المدثر برضا الله، وكلمات الحمد ترافق سكنات حياتهم كيفما تلفتوا. والى جانب إخوته، ساعد غسان والده في عمله للتخفيف من ضغوط الحياة الاقتصادية عليه، وتابع دراسته بجدٍ ونشاط غير آبهٍ بكل ما يمكن أن يلفت نظره عن طريق هدفه ألا وهو "رضا الله"، فواظب على أداء صلواته في المسجد منذ سن التاسعة في زمنٍ كان القابض على دينه كالقابض على الجمر. وعندما بلغ الرابعة عشر بدأ يجمع الفتية الصغار من أبناء الحي ليعطيهم دروساً دينية، ورافقهم واشرف عليهم وعمل على بناء وعيهم الديني والسياسي والجهادي، لأنه كان يدرك أن معرفة حقيقة وخطورة ما يجري من أحداث سياسية يساهم في تغيير نمط تفكير الفتية، ويوضح لهم خياراتهم الصحيحة في الحياة. وقد التحق هو في الآن نفسه بالكشافة ليكون زميلاً للعديد من الأخوة الذين صاروا شهداء، تاركاً في الكشافة أثراً لخير عنصر ومثالاً للقائد المتفاني في سبيل إعلاء كلمة الإسلام الحنيف، وهو الذي كان يثور أمام أي مخالفة للأحكام الدينية مهما كانت بسيطة أمام الجميع، فالتقوى هي درعه الذي لم يخلعه طوال حياته إلى أن ارتقى شهيداً.
لم تؤثر الحروب الأهلية على روحية غسان طرفة عين، فعلى الرغم من مخاطر المجاهرة بالانتماء السياسي في زمن الحرب فإن خيار المقاومة بالنسبة إليه من البديهيات. وما أن أنهى دراسته في المعهد الفني الإسلامي، حتى التحق بصفوف مجاهدي المقاومة الإسلامية في عام 1989. بالنسبة إليه العمل في المقاومة هو كل حياته، والمحاور المتاخمة للشريط الحدودي آنذاك هي أكثر الأماكن التي تشعره بالأمان بعد محراب المسجد. وخلال سنتين برز تغير جذري في شخصيته، ذلك أن الإيمان لا يمكن أن يظهر جوهره ما لم يصقله الرصاص في أكثر المواقع خطراً، فلاحظ الجميع أن ثمة سراً نبت في ملامح وجهه، كأنه وشاح ملائكي يترك في قلب الناظر إليه الكثير من التساؤلات. عاشت الجبال والأودية في نفس غسان حتى لكأنها شرايينه التي تهبه الحياة، وأنس بالصخور والشوك في ليالي الصقيع استئناسه بدفء سريره، ولم يخالطه شوق لأحد غير الله، بل لم يرَ أحدًا غير الله، ولكن ما لم يحسب له حساباً هو أن يُنقل عمله إلى بيروت، الأمر الذي لم يستطع قلبه تحمله، فراح يلح على الأخوة في قيادة المقاومة أن يعيدوه إلى مكانه الطبيعي في المحاور، لكن الجواب الوحيد الذي سمعه أن حاجتهم له في بيروت تحتم عليه البقاء فيها.
في الوقت ذاته دخلت والدته المستشفى في حالة صحية حرجة، وسعى الجميع لإقناعه بالعمل مع خاله والبقاء قريباً من والدته، على أن يُبقي عمله في المقاومة عملاً تطوعياً، فاقتنع بذلك مؤقتاً خصوصاً وأن محاولات رجوعه إلى الجنوب باءت بالفشل، فنجح في إدارة المحل الذي أوكله إليه خاله نجاحاً باهراً على الرغم من الأسى العميق الذي رافق تنهداته، ولكن ما خفف عنه أنه ادخر راتبه لزيارة الإمام الحسين عليه السلام الذي ما أن وصل إلى مقامه حتى لبس الكفن وتعلقت روحه بالمرقد المبارك لينال ما تصبو إليه نفسه، وليهديه الله سواء السبيل. وبعد عودته إلى لبنان سارع للتهيئة للذهاب إلى الحج مع والديه. طوال مدة عمله مع خاله لم يشعر غسان بالاستقرار، وبقي همه الوحيد العودة إلى الجنوب، فاخبر بذلك (الشهيد) أسعد شبشول زوج أخته، الذي ساعده على الرجوع إلى المحاور. شارك غسان في العديد من العمليات العسكرية والمهمات الجهادية، وكان في عداد وحدة الهندسة في المقاومة الإسلامية يضطلعُ بمهمة زرع الألغام. ومن أبرز مشاركاته مواجهة أنصارية حيث أوكل إليه زرع المنطقة بالألغام وتفجيرها.
تزوج غسان وأصر على أن يزور مقام الإمام الحسين عليه السلام وزوجته حامل في شهرها الثامن على الرغم من صعوبة الطريق عليها، وانتظر بفارغ الصبر ساعة إنجابها لحلمه الذي ما إن حمله بين ذراعيه حتى كسرت دمعته رباطة الجأش والكبرياء اللذين طالما تميز بهما وقد سماه "علي الرضا" تيمناً بغريب طوس الذي منعته الظروف من القيام بزيارته وكان شوقه إلى ذلك كبيراً جداً. وقد استغل الأيام القليلة التي قضاها بالقرب من ولده، فلم يسمح لأحد أن يحمله أثناء مكثه في بيروت، وقبيل استشهاده بيومين رأى في منامه ولده وقد رُسمت على قدمه مربعات مكتوب فيها آيات قرآنية وسيف ذي الفقار. كان غسان يتفاءل دوماً بالقرآن، ومنذ شهر شباط لعام 1998 وحتى لحظة استشهاده كلما فتح الكتاب المقدس، كانت الآية: "بسم الله الرحمن الرحيم وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياً"، وتميز وجهه بإشراقٍ عجيب، حتى إن بعض الأخوة عندما كانوا يلتقون بشقيقه يسألونه مباشرة "ألم يستشهد غسان بعدُ؟".
بعد استشهاد أسعد شبشول الذي ترك لغسان وصية الاهتمام بزوجته وولده، لم يهمل غسان أبداً هذه الوصية وبقي على عهده له على الرغم من ضيق وقته والمسؤوليات الجسام الملقاة على عاتقه، فكان نعم الخال والأب لولدٍ لم يشعر بالأبوة وحنانها. كان غسان في عمله عندما جاء إلى بيروت في زيارة عاجلة إثر مرض ولده علي الرضا، وبعد زيارة الطبيب وتأمين الأدوية له، ودعه وزوجته وغادر إلى الجنوب في مهمة زرع ألغام في طريق موقع بئر كلاب، وأثناء قيامه بعمله الدقيق قصفت المدافع الإسرائيلية المكان ما أدى إلى استشهاده. أُسرت جثته التي بقيت حتى العام 2004، واستعيدت في التبادل الذي قامت به قيادة المقاومة والعدو الصهيوني ونتج عنه الإفراج عن رفات المجاهدين وتحرير الأسرى من السجون الإسرائيلية ليرتاح في تراب بلدته مركبا. ربما لم يهب الزمان علي الرضا زعتر فرصة كبيرة لرؤية والده ومرافقته، ولكنه وهبه تاريخاً خلّدت سطوره في سجل الشرفاء؛ شهداء أمة حزب الله.