السيد علي محمد جواد فضل الله
لعب آل أعين - بفتح الألف والياء - دوراً كبيراً في الحياة العلمية للتشيع الإمامي، إذ أن رجالات هذا البيت قد اضطلعوا بالمهام الخطيرة والأدوار الريادية في الواقع الثقافي الشيعي سواء على الصعيد الفقهي والحديثي أو الأدبي وغير ذلك. ولا غرابة في هذا، فالمتعرض لسيرتهم يجدهم أكبر بيت من بيوت الكوفة آنذاك من شيعة أهل البيت عليهم السلام، وأعظمهم شأناً وأكثرهم رجالاً وأعياناً وأطولهم مدة وزماناً، حيث نجد أوائلهم قد أدرك وصاحب الأئمة السجاد والباقر والصادق عليهم السلام وبقي أواخرهم إلى أوائل الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر عجل الله فرجه أي حتى حدود سنة 328 أو 329هـ، ويُقال إن آخر رجالاتهم هو محمد بن عبيد اللَّه إذ لم يُذكر أحدٌ بعده من ذكورهم. ومن أهم رجالات هذا البيت ومشاهيره: زرارة وحمران وعبد الملك وبُكير وهؤلاء أبناء (أَعين)، وحمزة بن حمران وعبيد بن زرارة وضريس بن عبد الملك وعبد اللَّه بن بكير ومحمد بن عبد اللَّه بن زرارة والحسن بن الجهم بن بكير وابنه سليمان وأبو الطاهر محمد بن سليمان وأبو غالب أحمد بن محمد بن محمد بن سليمان الذي كتب رسالة في آل أعين.
ومما أورده في هذه الرسالة الهامة متحدثاً عن آل أعين:
"إنَّا أهل بيت أكرمنا اللَّه جلَّ وعزَّ بدينه واختصنا بصحبة أوليائه وحججه من أول ما نشأنا إلى وقت الفتنة التي امتحنت بها الشيعة (والمقصود هنا غيبة الإمام الحجة عجل الله فرجه)"... وآل أعين أكبر أهل بيت في الشيعة وأكثرهم حديثاً وفقهاً وذلك موجود في كتب الحديث ومعروف عند رواته... (حيث) إنه قد جُمع من روى الحديث من آل أعين فكانوا ستين رجلاً... وكان (حمران) من أكابر مشايخ الشيعة المفضلين الذين لا يشك فيهم، وكان أحد حملة القرآن ومن يُعد ويذكر اسمه في كتب القراء وروى أنه قرأ على أبي جعفر الباقر عليه السلام... وكان مع ذلك عالماً بالنحو واللغة. إلى هذا، فقد وردت في حمران بن أعين وجلالته وعظم محله أخبار عن أهل البيت عليهم السلام كادت تبلغ حد التواتر وكذلك فقد ورد في حق أخيه (بُكير بن أعين) - بعد موته- خبر صحيح عن الإمام الصادق عليه :السلام يقول: واللَّه لقد أنزله اللَّه بين رسوله صلى الله عليه وآله وبين أمير المؤمنين عليه السلام. وهذا دليل على عظيم منزلته التي لا يعلوها شيء. وفي بعض المرويات أن الحجاج لما قدم العراق قال: لا يستقيم لنا الملك ومن آل أعين رجل تحت الحجر، فلما اشتد الطلب عليهم اختفوا وتواروا. إلى هذا، ومن جهة أخرى، فقد جاءت النصوص صريحة تنص بالتوثيق لعشرة من رجالات آل أعين، وهم: زرارة وأبناؤه: عُبيد وعبد اللَّه ورومي وضريس بن عبد الملك والحسن بن الجهم ومحمد بن سليمان بن الحسن وأخوه أبو الحسن علي بن سليمان وابن ابنه أبو غالب أحمد بن محمد. أما عبد اللَّه بن بكير فقد كان ثقة ومعدوداً من أهل الإجماع أي ممن أجمعت الطائفة الإمامية على تصحيح ما يصح عنهم بالرغم من كونه قطعياً، ومن الممدوحين بالخصوص من آل أعين: عبد الملك وعبد الرحمن ابنا (أعين) والحسن والحسين ابنا زرارة ومحمد بن عبد اللَّه بن زرارة(1).
* زرارة بن أعين:
والآن وصل بنا المطاف للوقوف عند واحد من أهم رجالات آل أعين لا بل أهم رجالات الشيعة الإمامية أعني به زرارة بن أعين. قال الإمام الصادق عليه السلام: "يا زرارة إن اسمك من أسامي أهل الجنة بغير ألف. قلت نعم جعلت فداك اسمي عبد ربه ولكني لقبت بزرارة"(2). هو عبد ربه ولقب بـ(زُرارة) بضم الزاي واشتهر به حتى كاد لا يُعرف إلا به. ومعنى زرارة ما رميت به في حائط فلزق به(3). ويُكنى بأبي علي وكذلك بأبي الحسن(4). وأما صفاته الجسمية فقال أبو غالب الزراري في رسالته الآنفة: "وروي أن زرارة كان وسيماً جسيماً، أبيض، فكان يخرج له الناس سماطين ينظرون إليه لحسن هيئته فربما رجع عن طريقه"(5). هذا، ولم تذكر المصادر السنة والمحل الذي ولد فيه زرارة، وإن كان من القريب جداً أن يكون مولده في الكوفة لأنه نُسب إليها فيقال: زرارة بن أعين الكوفي، نعم ذكرت المصادر سنة الوفاة، فالبعض قال إنها كانت سنة 150هـ(6)، وقال آخرون هي سنة 148هـ. ففي رواية الكشي، قال أصحاب زرارة: فكل من أدرك زرارة بن أعين فقد أدرك أبا عبد اللَّه (عليه السلام) فإنه مات بعد أبي عبد اللَّه عليه السلام بشهرين أو أقل وتوفي أبو عبد اللَّه عليه السلام وزرارة مريض مات في مرضه ذاك(7). والصادق عليه السلام استشهد سنة 148هـ، هذا وقد ذكر أبو غالب الزراري في رسالته بأن زرارة عاش سبعين سنة(8). وعليه يكون مولد زرارة بحدود سنة 78هـ بناءً على القول بوفاته سنة 148هـ.
* موقع زرارة العلمي
قال الكشي في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر الباقر عليه السلام، وأبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام: اجتمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأولين من أصحاب أبي جعفر وأصحاب أبي عبد اللَّه عليهما السلام، وانقادوا لهم بالفقه، فقالوا: أفقه الأولين: زرارة ومعروف بن خربوذ وبريد وأبو بصير الأسدي والفضيل بن يسار ومحمد بن مسلم الطائفي. قالوا: وأفقه الستة زرارة(9). وعن جميل بن درَّاج (أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام): قال: أي واللَّه، ما كنا حول زرارة بن أعين إلا بمنزلة الصبيان في الكتَّاب حول المعلم(10). وتدليلاً على أهمية موقع زرارة الفقهي والحديثي ورد عن الصادق عليه السلام في الخبر الموثق أنه قال: "رحم اللَّه زرارة، لولا زرارة ونظراؤه لاندرست أحاديث أبي عليه السلام"(11). ومثله ما جاء في الصحيح عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "ما أجد أحداً أحيى ذكرنا وأحاديث أبي عليه السلام إلا زرارة وأبو بصير المرادي ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية العجلي، ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا، هؤلاء حفاظ الدين وأمناء أبي عليه السلام على حلال اللَّه وحرامه، وهم السابقون إلينا في الدنيا والسابقون إلينا في الآخرة"(12). ومن خلال بعض الأحاديث الأخرى الواردة عنهم عليهم السلام يمكننا ملاحظة بعض الأمور التي تسلط الضوء على شخصية زرارة العلمية:
1- حرص زرارة واهتمامه الكبير بنقل الحديث، بحيث أنه كان يستصحب معه ألواحاً ليكتب ما يقوله الإمام الصادق عليه السلام.
2- لم يكتفِ زرارة بنقل الأحاديث بل كان يحرص على فهم الحديث ورعايته والتفقه به والجمع بين مداليله.
3- تسليمه لأمر الإمام الصادق عليه السلام فيما يقول وعدم إبداء المعارضة له، وهذا يعود لجهة إدراكه العميق لما عليه إمامه من العلم والإحاطة بحيث أنه يجلس معه جلسة المستفيد والمتعلم ولا يتخطى ذلك.
4- اهتمام الإمام الصادق عليه السلام بأمره وعنايته الخاصة به.
* زرارة الفقيه والمحدِّث:
لا شك بأن زرارة هو واحد من كبار الرجالات المؤسسين لفقه أهل البيت عليهم السلام فرواياته تحتل مكان الصدارة عند الفقهاء وإليها يرجعون في استنباطهم للأحكام الشرعية، ونحن إذا ألقينا نظرة على أبواب الفقه من العبادات والمعاملات والأحكام لوجدنا أن روايات زرارة قد شملت جميع هذه الأبواب. فقد روى عن الإمام الباقر عليه السلام ألفاً ومئتين وستة وثلاثين مورداً، كما أن رواياته عن الإمام الصادق عليه السلام تبلغ أربعمئة وتسعة وأربعين مورداً(13). وقد مرَّ معنا كيف أن الإمام الصادق عليه السلام كان يمتدح زرارة ويعتز به لأنه من كبار العلماء والفقهاء الذين تلمّذوا عليه وعلى أبيه الباقر عليه السلام. ويُذكر أنه كان مرجعاً في عصره لتمييز صحيح الروايات عن سقيمها(14). ومن هنا، كان الإمام الصادق عليه السلام يوجه الناس إليه، فقد جاء في بعض الروايات أن الإمام الصادق عليه السلام قال لمن سأله حول اختلاف الحديث: "إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس" وأشار إلى زرارة(15). ومن أراد الوقوف على نماذج من فتاواه الفقهية فعليه الرجوع إلى كتب الحديث كوسائل الشيعة حيث يجد له فتاوى تتعلق بالإرث وموجباته كالعول(16) والكلالة(17).
* وقفة مع آرائه الكلامية:
إن لزرارة مكانة عالية في علم الكلام، حتى أن الكتاب الوصية الذي ذكره له المؤرخون على ذكره هو كتاب كلامي، وهذا ما يتضح من خلال عنوانه (الاستطاعة والجبر)(18)، ومن الملاحظ من عنوان هذا المصنف أن زرارة قد تطرق إلى مشكلة أساسية أثارت حراكاً فكرياً معمقاً وفرضت نفسها آنذاك حيث شغلت الفكر الكلامي الإسلامي وهي تتعلق بموقف الإسلام من مسألة حرية الإرادة الإنسانية، فهل الإنسان مجبر كما ذهب إلى ذلك طائفة من المسلمين أم أنه مخير كما هي مقولة المعتزلة، أم أنه لا مجبر ولا مفوض وإنما هو في أمر بين أمرين على حد تعبير الإمام الصادق عليه السلام(19). ولا شك أن زرارة في هذه المسألة كما في سواها يلتزم ما يسمعه عن الإمام الصادق عليه السلام وبخاصة كون هذه النظرية للإمام كانت من الوضوح بحيث لا يتطرق إليها أي وهم أو لبس.
* زرارة الشاعر:
يُنسب لزرارة أبيات من الشعر في علامات ظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه حيث يقول(20):
فتلك علامات تجيء لوقتها ومالك عما قدَّر اللَّه مذهب
ولولا البدا(*) سميته غير فائت ونعت البدا نعت لمن يتقلب
ولولا البدا ما كان ثم تصرف وكان كنار حرفها يتلهب
وكان كنور مشرق في طبيعة وباللَّه عن ذكر الطبائع مرغب
(1) راجع حول آل أعين: رجال السيد بحر العلوم المعروف بـ(الفوائد الرجالية)، محمد مهدي بحر العلوم، ج1، ص257 222.
(2) اختيار معرفة الرجال المعروف بـ(رجال الكشي)، محمد بن الحسن الطوسي، ج1، حديث 208، ص345.
(3) مجمع الرجال، القهبائي، تعليق العلامة الأصفهاني، مؤسسة إسماعيليات، قم، ج3، هامش رقم (7)، ص25.
(4) الفهرست، محمد بن الحسن الطوسي، منشورات الشريف الرضي، ص74.
(5) رجال السيد بحر العلوم، ج1، ص232.
(6) رجال النجاشي، النجاشي، ج1، ص398.
(7) رجال الكشي، ج1، ص354.
(8) رجال السيد بحر العلوم، ج1، ص233.
(9) معجم رجال الحديث، أبو القاسم الخوئي، ج7، ص219. وقال بعضهم مكان أبو بصير الأسدي: أبو بصير الأسدي، وهو ليث البختري المصدر نفسه، ص220.
(10) رجال الكشي، ج1، حديث 213، ص346.
(11) م.ن، حديث 217، ص348.
(12) م.ن، حديث 219، ص348.
(13) موسوعة طبقات الفقهاء، اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام إشراف: جعفر السبحاني، ج2، ص208.
(14) تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره، جعفر السبحاني، ص195.
(15) موسوعة طبقات الفقهاء، ج2، ص209.
(16) وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج17، حديث 1، ص425.
(17) م.ن، حديث 8، ص428.
(18) انظر حول معنى الاستطاعة: شرح المصطلحات الكلامية، إعداد: قسم الكلام في مجمع البحوث الإسلامية، ص19.
(19) انظر: تطور المباني الفكرية للتشيع في القرون الثلاثة الأولى، حسين المدرسي الطباطبائي، ص174.
(20) أعيان الشيعة، ج10، ص384.
(*)البداء.