د. حبيب فياض
لم تكن تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان بعيدة عن المؤثرات والإيحاءات التي أفرزتها شخصية الإمام الخميني على مستوى العالم الإسلامي عامة، والساحة الإيرانية خاصة، بفعل التجربة التي خاضها قدس سره في مواجهة نظام الشاه البائد، والتي أدت إلى تحول إيران من دور الحليف للدول المستكبرة في المنطقة إلى حاضن أساس لقضايا المسلمين والمستضعفين المصيرية. ويمكن القول إن تجربة المقاومة الإسلامية قد ولدت من رحم تجربة الإمام الخميني في قيادة الثورة الإسلامية قبل الانتصار وبعده، وإن العلاقة بين التجربتين تتجاوز الإطار التحالفي التقليدي الذي قد يحكم العلاقة بين الثورات والحركات التحررية المرتبطة بها، وتتوغل العلاقة بين التجربتين في عمق التاريخ والعقيدة والهوية، وتتجلى على نحو ما يربط الجزء بالكل والفرع بالأصل والمقدمة بالنتيجة.
على هذا ثمة ضرورة لقراءة تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان على ضوء علاقتها بالثورة الإسلامية، وتحديداً لناحية ارتباط المقاومة بقيادة الإمام الخميني، وانضوائها تحت لوائه، إذ برغم كون التجربتين المقاومة والثورة حدثين مختلفين لكل منهما خصوصياته الجغرافية والسياسية والموضوعية، إلا أن الواضح أن المقاومة قد استفادت إلى أقصى حد من تجربة الإمام رضي الله عنه والثورة، الأمر الذي يجعل المقاربة بين التجربتين أمراً ممكناً، وربما ضرورياً، على خلفية تحديد الأطر العامة التي التزمت بها المقاومة الإسلامية في مسارها الجهادي انطلاقاً من نمذجتها وأمثلتها لتجربة الإمام الريادية. من هنا، ومن خلال قراءة أولية، نستطيع الوقوف على عدة عناصر باتت أشبه بالمسلمات التي تمسك بها الإمام الخميني طول فترة قيادته للثورة، فانعكست أيضاً على أداء المقاومة الجهادي والسياسي وتحولت في أجندتها إلى ثوابت ومحددات ومسلمات وأبرزها:
1- استلهام الثقافة الإسلامية والشعائر الدينية موجهة للسلوك الجهادي وعمقاً يستند إليه، فالمقاومة الإسلامية انطلقت، في الأساس، من خلفية عقائدية في معركتها لتحرير الأرض والإنسان. يقول الإمام الخميني رضي الله عنه: "إن أهم من هذا كله في جهاد إسرائيل هو العودة إلى الذات، فالكفاح من أجل إحياء الثقافة الإسلامية يعد من أهم القضايا، فلو جاهدنا في سبيل الثقافة الإسلامية ونشرها نكون في الحقيقة قد عارضنا ثقافة الشرق والغرب، وإذا جاهدنا ثقافة الشرق والغرب فسنعتمد على قوانا الذاتية، وإذا تحركنا بوحي من المعايير الإسلامية فلن نقنع بغير الجهاد ضد إسرائيل وإخراجها من الأراضي الإسلامية". وهذا ما ساهم في جعل نشاط المقاومة الإسلامية يتجاوز البعد السياسي المباشر والجغرافي المحدود والمرحلي ليتصل بالعقيدة والثقافة والهوية، وبالتالي الوجود والمصير، وهي تجربة كنا شهدناها في تجربة الثورة التي شكلت العقيدة الإسلامية محفزاً أساسياً لها في تصديها لنظام الشاه والحرب المفروضة. يقول الإمام: "إن حربنا حرب عقائدية لا تعرف الجغرافيا والحدود".
2- الالتزام بالتكليف الشرعي بما هو مرحلة متقدمة من الوعي الإيماني ومؤشر على صدق الانطلاق من خلفية عقائدية، وإلى جدية الطاعة للقيادة الحكيمة، بحيث إن هذا الالتزام قد حدد للمقاومة في لبنان الوظائف التي يجب الالتزام بها، ورسم لها معالم الطريق ووفر أجواء معنوية مفعمة بالطمأنينة واليقين بأن كل عمل يقوم به المجاهدون إنما هو عبادة تقربهم إلى اللَّه انطلاقاً من هذا الالتزام، ولا يخفى أن قيادة الإمام (رض) قد وفرت الغطاء الشرعي الباعث على الالتزام بالتكليف الشرعي.
3- الثبات والحسم: يلاحظ أن المقاومة الإسلامية قد بقيت ثابتة على مواقفها طول المسيرة الجهادية، وحسمت خياراتها منذ بداية الطريق، لم ترضخ لأي ضغوط بغية ثنيها عن أهدافها مهما كانت كبيرة. كما لم ترضَ بأي مساومة أو إنصاف حلول برغم كثرة المبادرات والمغريات التي عرضت عليها. فكانت النتيجة خروج العدو من الأراضي اللبنانية المحتلة مهزوماً من دون أن يحقق أي امتياز أو مكسب مهما كان صغيراً، في المقابل نجد هذا كله في تجربة الإمام الخميني خلال قيادته الثورة، حيث اتسمت مواقفه على الدوام بالحسم وعدم قبوله بمنطق المساومة والتفاوض مع النظام البائد إلى أن تحقق النصر وخرج الشاه من إيران مهزوماً صفر الدين، يقول السيد أحمد الخميني نجل الإمام رحمهما اللَّه: "كان الإمام يبشر بالنصر بحزم وقوة من دون تردد، ويستنكر كل الهمسات التي تدعو إلى العدول عن المواقف المطالبة بسقوط النظام الملكي، ويحذر الأمة باستمرار من خطر الانقياد لمثل هذه الهمسات".
4- الفعل الاستشهادي: لم تكن الشهادة في إطار الفعاليات الجهادية التي قامت بها المقاومة الإسلامية مجرد نتيجة مترتبة على الالتزام بالتكليف الشرعي والواجب الجهادي، بل كانت محكاً لكشف مدى عمق العلاقة التي تربط المجاهدين بالبارئ عزَّ وجلَّ، وطريقاً يسلكه المجاهدون تعبيراً عما يحملونه من عشق إلهي، ومقصداً تسعى إليه النخبة العارفة، إضافة إلى كونها صرخة هادرة في وجدان المقاومين تدفع بهم نحو المزيد من البذل والتضحية. يقول أمين عام حزب اللَّه سماحة السيد حسن نصر اللَّه: "السلاح الاستشهادي هو من أقوى أسلحة الأمة، ولا يمكن أن يعطل أو يواجه، ولقد وجدت الولايات المتحدة لكل سلاح سلاحاً مضاداً له، أما هذا السلاح فلا يستطيع أن ينزعه أحد". وفي المقابل لا يخفى الدور الذي أداه الفعل الاستشهادي في سياق انتصار الثورة الإسلامية وحفظها بشكل يمكن القول معه إن الاستشهاد شرط لازم لا بد منه في سبيل تحقيق النصر. انطلاقاً مما تقدم، يغدو من البديهي والمنطقي أن يفضي اشتراك المقاومة والثورة في المرتكزات والمقدمات والمنطلقات إلى اشتراك في النتائج أيضاً، إذ انتصرت المقاومة على العدو الإسرائيلي برغم وصف نشاطها في مراحل مختلفة بأنه تهور وانتحار ومحكوم بالفشل، فكانت هذه التجربة امتداداً لتجربة الإمام الخميني التي أثمرت انتصاراً باهراً برغم انتقاد العالم في وقت من الأوقات بأن الإمام مجرد معارض أعزل لأقوى الأنظمة في المنطقة وبأن حركته لن تتعدى كونها زوبعة في فنجان.