علي شعيب
معذرةً... من بوابة التحرير... القنطرة، لأن المشوار اليوم لم يعد يشبه نفسه قبل خمس سنوات. تلك اللحظات كانت بداية تاريخ لا تنسى... إقتلاع البوابة البيضاء... إعتلاء الدراجات النارية، ونسيان السيارات في أماكن مبعثرة... ونمضي، وكأن الأرض طويت بين بلدة وأخرى... من القصير وصولاً حتى الطيبة، والعبارة التي قالتها تلك المرأة الجنوبية للكاميرا التي أحملها والتي أسرت الآذان في دير سريان... "الحمد للَّه... اللي تحررنا".
* البداية من اقليم التفاح
ربما اخترت عبور طريق آخر هذه المرّة لأنني أشعر بحرية الاختيار... أو قد تكون قداسة تلك الأرض، المجبولة بدماء الشهداء هي الدافع لذلك... أقصد... منطقة إقليم التفاح، وتحديداً معبر اللويزة عرمتى مروراً ببلدة مليخ، إحدى أجمل قرى الاصطياف في المنطقة، وواحدة من البلدات المتقدمة التي كانت عريناً للمجاهدين. جملة من المحطات استوقفتنا في بداية المشوار... يميناً يرافقنا رمز الانهزام الصهيوني... موقع سجد، وبقربه رمز التحدي والصمود... تلال عقماتا التي اندحرت عند صخورها أرتال المعتدين، وحتى طائراتهم التي ما توقفت عن دكّها بالصواريخ حتى الأيام الأخيرة من عمر الاحتلال قبل زواله... نتقدم قليلاً... يطالعنا رمزٌ آخر للهزيمة، إنه موقع بئر كلاّب... نستطرد بنظرنا يسرةً... يشدنا مشهد صاروخ لا زال ظاهراً في إحدى آليات العدو المدمّرة وما زالت شاهدة على نكسة العدو أثناء مواجهة اللويزة أمام المقاومين في العام 1986.
* عرمتى... سجد... الريحان
يطول بنا المسير رغم قصر المسافة، ربما لأننا لا نريد مغادرة المنطقة لغناها بالذكريات والتضحيات... ونصل إلى أول مشهد من آخر حلقة في مسلسل الاندحار... بلدة عرمتى، تلك التي استفاقت يوماً على هتاف المقاومين وهم يرفعون راية المقاومة على موقع العدو فيها قبل تدميره... حركة إعمار كبيرة تشهدها عرمتى هذه الأيام فالعودة إلى حضن الوطن عوّض عليها الكثير. المشوار لا زال في بدايته... ولا يمكن الخوض كثيراً في ميزات تلك المناطق لأنها لا تنتهي... نعرج منها إلى الريحان وسجد، في الأولى انقلبت الصورة خلال السنوات الخمس الماضية: الثكنتان العسكريتان اللتان أقامهما العدو على أهم تلّتين في البلدة تحولتا إلى قريتين شكّلتا جناحين للريحان الأم بعدما غطتهما عشرات المنازل الجديدة، أما في الثانية... فكلام آخر، استوقفني مشهد في أول زيارة لي إلى سجد عقب التحرير، عندما كنت أتجول بين أنقاض المنازل التي أبادها الاحتلال عن آخرها حتى وصلت إلى جبانتها... القبور حتى لم تسلم من التدمير إلاّ واحداً... وبجانبه شتلة ورد جوري أصفر... لم تؤثر فيها كل أنواع البارود وأشكال التدمير... فكانت بنظري مثالاً لإرادة الحياة... وهكذا كان، تحولّت سجد اليوم إلى مكان تضج فيه الحياة... بأهلها العائدين بعد إعمارها من جديد، تتوسطها مئذنة المسجد التي تعانق بارتفاعها شموخ جبل الرفيع الذي تتربع سجد... الحية، على قمته.
* الشقيف صامدة رغم عتوّهم
نترك المكان نزولاً، نحو العيشية وصولاً حتى بلدة أرنون التي شهدت يوماً وطنياً عام 1999 عندما اقتلع الأهالي الشريط الذي كان يسيجها، هذه البلدة التي تعلوها القلعة التاريخية الشهيرة "الشقيف" باتت مقصداً للزائرين والسياح الأجانب والعرب بعدما كانت حصناً لمعظم الجيوش والتنظيمات التي تعاقبت على السيطرة عليها وآخرها الجيش الصهيوني قبل أن تفك قيدها قبضات المجاهدين وتتحول اليوم إلى أهم المعالم الأثرية في الجنوب.
* مشهد التحدي اليومي
إلى النقاط الحدودية... الوجهة التالية لمشوارنا، بوابة فاطمة... من لم يسمع بها أو يزرها؟ إنها خلاصة مشهد التحدي اليومي بين الزائر الحرّ في التعبير عن رفض... أو استنكار لموضوع يخص الصراع، وبين جندي مكبّل الخيارات في الرّد... أسير معادلة فرضت عليه بالقوة... طفل يرشق حجارة على الدشمة المحصنّة هنا... وآخرون يتسمرون أمام كاميراتهم لأخذ صورة تذكارية هناك... قرب السياج أو بجانب مجسم للصواريخ وآخر للشياطين التي تمثل شارون وموفاز.
* معتقل الخيام الشاهد على الوحشية
نتحرك باتجاه الخيام عبر الطريق المحاذية لمستعمرة المطلة الصهيونية... كل شيء هناك يشير إلى الحياة العسكرية، الطرقات شبه خالية إلاّ من الدوريات أو عمّال البساتين... إنه القلق الدائم، نستكمل المسير إلى المعتقل. أول من نلتقيه وفد من الشخصيات الأميركية النشطاء في حقوق الإنسان جاؤوا ليتعرفوا على حزب اللَّه والمعتقل الذي أصبح محجة للقادمين من كل صوب، وواحداً من المعالم السياحية في الجنوب... الشاهدة على وحشية العدو وعملائه... ومنه نلفت نظرنا نحو الوزاني وإلى جانبه العباسية القريبة من مزارع شبعا. لم تحل التوترات الأمنية الناتجة عن الاعتداءات الصهيونية في المنطقة من استمرار الحياة العادية، ولفتنا النشاط في استصلاح مساحات شاسعة من الأراضي التي تزرع لأول مرّة. نحمل هذه المشاهد الغنية ونمرّ بجانب نبع الدردارة في سهل مرجعيون الذي تجد فيه عشرات العائلات متنفساً لها.
* المزارع في البال
نكمل باتجاه حاصبيا التي تشهد صخباً في انتشار أشجار الزيتون التي تمتد على مدى النظر، يشدنا الشوق إلى شبعا صعوداً... العمامة الثلجية البيضاء لا زالت تغطي مرتفعات جبل الشيخ عند تخومها، الأهالي لا زال يشغلهم الحديث المتكرر عن عدم لبنانية مزارع شبعا في بعض الأروقة المحلية والدولية فلا يكفون عن تنظيم التحركات وتجميع ما لديهم من مستندات تثبت ملكيتهم لهذه الأرض، وعلى الرغم من كل ذلك فإن الحياة الزراعية في البلدة لا تهدأ أبداً غير مبالين بالمواقع الصهيونية المقابلة لمنازلهم وحقولهم. ولأبناء شبعا مع كل يوم حكاية صمود وتحدٍ، ويبقى رهانهم على سواعد المقاومين، واللافتة المعلقة وسط الساحة العامة "المقاومة خيارنا لاستعادة مزارع شبعا" تؤكد ذلك.
* رفقة السياج الحدودي
لم يعد لنا خيار إلاّ العودة عن طريق كفرشوبا راشيا الفخار رغم وعورتها بسبب الاعتداءات والغارات عليها لكن مرورنا بمحاذاة المكان الذي أسرت فيه المقاومة ثلاثة جنود صهاينة قرب بوابة وبركة النقار هوّن علينا كل الصعوبات، نصل إلى مرجعيون بعد نصف ساعة مسير... ومنها إلى القليعة... المئات كانوا يحتفلون بمناسبة دينية في محيط كنيسة البلدة... نتخطّى زحمة السير، ونكمل... كفركلا.. العديسة، يرافقنا السياج الحدودي... وكذا المنازل السكنية في الجانب اللبناني... المحاذية له، إنه تحدٍ بعينه، بل إنها الجرأة المستمدة من حماية المقاومة لهم من خلال معادلة توازن الرعب. أما في العبّاد... وحكاية المواجهة اليومية على بعد مترين، الموقع... أعطى أفضلية الحضور إلى أقرب نقطة من جنود الاحتلال... والإرادة وحدها تبقيك صامداً بوجه مناورتهم التخويفية... "روخ... من هون... وإلاَّ بقتلك... روخ... عند أمك وإلاّ بخلّيها تبكي.." نبقى... ويستمرون بتحركهم العسكري وأخذ مواقع قتالية... وتوجيه البنادق نحو الرؤوس، لكن في النهاية... يسقطون، بصلابة موقفك... "إخرس... أنا أقف على أرضٍ لبنانية"، ونرحل حالما نسجّل نقطة انتصارٍ ولو أمام ذاتنا. يودّعنا في حولا قوس النصر... بكلمات "المقاومة درع الوطن".
* بنت جبيل "الملاك"
إلى بنت جبيل نكمل المشوار، نرمي التحية على ميس الجبل الوادعة بخضرتها الربيعية المعهودة، وعلى جارتيها بليدا وعيترون، وقبل ذلك بلدة محيبيب التي تتهادى على تلة ترمق منها جزءاً كبيراً من الأراضي الفلسطينية المحتلة. تستقبلنا عاصمة القطاع الأوسط مدينة بنت جبيل التي تضجّ بالحياة... السوق، الأحياء الواسعة والضيقة الحديثة والقديمة على السواء تغصّ بالمتجولين، وأولئك المجتمعين على حديث، أو وجبة غداء أو نرجيلة... وصولاً حتى مركز ال17 الذي كان شاهداً على العملية الاستشهادية التي نفذها "الملاك" صلاح غندور، حيث يرتفع حالياً نصب تذكاري يتوسط ساحة منطقة ال17 بعد تحولها إلى حديقة تزين مدخل بنت جبيل... نرتقي قليلاً نحو مارون الرأس تلك البلدة التي ما تزال تحتفظ بقرويتها القديمة المؤثرة، لفتنا إنشاء منتزه سياحي في البلدة مقابل لمستعمرتي صلحا وإفيفيم والمواقع الصهيونية المحاذية وما يعنيه ذلك من مواجهة من نوع آخر. من هناك أيضاً... نطلّ على بلدة يارون التي تشهد عمراناً من النوع الثقيل الذي يؤكد من خلاله أبناؤنا في بلاد الاغتراب إصرارهم على العودة وإحياء أرضهم. نستقلّ وسيلتنا في التنقل متجهين غرباً نحو دبل وعين إبل وصولاً حتى حانين الشهيدة... أعيد إعمارها من جديد بعد أن محاها العدو بآلته التدميرية عن خريطة الوطن، لكن الاهمال الرسمي بحق البلدة جعلها تفتقد إلى الحيوية من خلال غياب فرص العمل والنقص في القطاعين الصحي والتربوي وهي البعيدة نسبياً عن مركز القضاء... نتجه نحو عيتا الشعب مروراً بالمكان الذي امتدت إليه يد المقاومة الإسلامية في عمق المنطقة الحدودية وقتلت فيه كبير العملاء عقل هاشم... نعبر من البلدة التي تعجّ بالمزارعين المنتشرين في حقولهم الذين يعتمدون في تأمين لقمة العيش على زراعة التبغ الأكثر رواجاً في المنطقة المحررة...
* مواجهات في الذاكرة
نصل إلى بوابة مستعمرة زرعيت (طربيخا ومروحين) نستذكر المواجهة التي حصلت في العام 2000 قرب السياج الشائك بين متظاهرين فلسطينيين وأرتال من جنود العدو الذين كانوا مختبئين خلف الأشجار والدشم وقابلوا الحجارة حينها بالرصاص الحي ما أدى إلى سقوط شهيدين وإصابة عشرين بجروح بين المتظاهرين الذين ردُّوا بإلقاء زجاجة حارقة وأضرموا النار بإحدى دشم الحراسة الحدودية... وليس بعيداً من هناك نعود بالذكرى إلى العام 2000 أيضاً قبل التحرير، وبالتحديد إلى النقطة المقابلة قرب موقع بلاط... حين أوقع المقاومون العديد من القتلى والجرحى في صفوف العدو خلال مواجهة كان لها الأثر الكبير في تعجيل الاندحار...
* محروسة مرصاد 1
نكمل... نخترق بلدة يارين التي سجلنا فيها أول عرسٍ يقام في الجنوب بعد التحرير. يقول العريس بعد خمسة أعوام، أنجبت صبيّين سيكونان إنشاء اللَّه للوطن، بعدها نقطع الضهيرة ثم علما الشعب وصولاً حتى الناقورة المحطة الأخيرة في مشوارنا الطويل نعرج نحو مرتفع اللبونة المطلّ على مستعمرتي نهاريا وشلومي التي شهدت أجواؤها في 2005 - 4 - 11 تحليقاً مفاجئاً لطائرة مرصاد 1 التابعة للمقاومة الإسلامية للمرة الثانية على التوالي ... نستلقي قليلاً قرب منتزه على شاطئ الناقورة الجميل بهدوئه ونظافة مياهه علنا ننزل عن كاهلنا بعضاً من عناء يومنا الطويل... الغني بمشاهد العزة والكرامة، المحميّة بتضحيات من بدا تأثير فعلهم ظاهراً للعيان، دون أن نتشرف برؤيتهم... يعملون بصمت... يسهرون ويضحّون بصمت... لا يأبهون بالضجيج... إنهم فخرنا... كنز الوطن، ودرعه الحامي... إنهم مجاهدو المقاومة الإسلامية. نعود قبل المغيب... نسابق خيوط الشمس التي تغزلها أمواج البحر المتراقصة على صخور الناقورة حرّةً... حرة، بعيدة عن دنس البوارج والطرادات الصهيونية. تغيب الشمس... ونغيب، لنلتقي مجدداً مع صباح كل نصرٍ وزغردة... والموعد قريب.