السيد علي محمد جواد فضل اللَّه
لا نبالغ القول إن اعتبرنا هشام بن الحكم أحد أبرز الأوائل المؤسسين للمدرسة الكلامية عند الشيعة الإمامية. ويرجع ذلك إلى عاملين أساسيين: الأول منهما: ذاتي يرجع إلى هشام نفسه، وذلك لما تمتع به من مميزات فكرية وتوقد ذهني وقوة جدل ومناظرة، فالتاريخ شاهد على مناظرته لجهابذة علماء عصره، وخاصة أعلام المذهب المعتزلي الذين كانت لهم القوة والسطوة الفكرية الواضحة في عصر هشام، وبالرغم من ذلك فقد استطاع هشام أن يظهر على مناظريه ومجادليه بقوة حجَّته وعمق فكره وسطوع أدلته. وأما العامل الثاني: فيتمثل في أنه تتلمذ على يد الأئمة من أهل بيت العصمة عليهم السلام وخصوصاً الإمامين الصادق والكاظم عليه السلام فقد أولياه الاهتمام والعناية الكبيرتين، وقد استخلصه الإمام الصادق عليه السلام على أصحابه، فقد كان موضع حظوة الإمام ووثاقته العلمية والفكرية حيث كان الإمام يُعَلِّي منزلة هشام على كبار صحابته وهو بعدُ لم يزل حديث السن لم يختط عارضاه، وهنا ما ذكره التاريخ لنا من سيرة هشام، أنه عندما دخل على الإمام الصادق عليه السلام وكان في مجلسه شيوخ الشيعة، رفعه الإمام على جماعتهم وليس فيهم إلا من هو أكبر منه سناً؛ فلما رأى الإمام عليه السلام أن هذا الفعل قد كَبُر على أصحابه، قال: هذا ناصرنا بقلبه ولسانه ويده(1). وهو الذي كان يدعو له الإمام عليه السلام بقوله مخاطباً هشاماً: أقول لك ما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لحسان، لا تزال مؤيَّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك(2).
* عصر هشام بن الحكم:
لقد عاش هشام بن الحكم في القرن الثاني للهجرة وبدايات القرن الثالث للهجرة على قول من ذهب إلى كونه قد أدرك هذا القرن، وقد كانت الحركة الاعتزالية هي الطاغية في ذلك العصر على الكثير من النزعات والاتجاهات الفكرية والعقلية وبالرغم من كون المعتزلة كانوا محفوفين بحظوة ورعاية الحكم العباسي آنذاك فإن التاريخ يسجل أن الشيعة الإمامية هم الذين وقفوا أمام بعض المفاهيم والآراء المعتزلية موقف المحاسب الدقيق، وقد خاضوا في قبالهم نضالاً عنيفاً بالرغم من كون الشيعة وكما هو معروف قد عاشوا الاضطهاد والقمع والخطر على امتداد تاريخهم، لاسيّما في العصر العباسي الذي بالغ حُكَّامه في الإساءة إلى الشيعة والتشيع؛ فأن تقول للرجل في ذلك العصر أنت زنديق خير من أن تقول له أنت شيعي، لأن معنى كونه شيعياً سيؤدي إلى قتله وسبي عياله ومصادرة أملاكه، وعلى الرغم من ذلك كله، فقد وقف الشيعة وبمعية أئمتهم عليهم السلام موقفاً صلباً لا يعرف المداراة والمواربة أمام كل التيارات والأفكار والمفاهيم التي لا تتناسب والخط الإسلامي الأصيل روحاً ومضموناً... ومن هنا كانت أعباء استمرارية الإسلام بنقاوة مفاهيمه وجذوة طروحاته ملقاةً على عاتق أئمة أهل البيت عليهم السلام وكذلك على الصفوة المجتباة من أصحابهم وفي طليعتهم هشام بن الحكم. وهكذا فإن التاريخ يحدثنا عن تلك الحوارات المستمرة والمناظرات الكثيرة بين الشيعة والمعتزلة والتي تُعدُّ من أَطْرَفِ المناظرات في تاريخ النظر والجدل. وقد كان سلاح كل منهما هو العقل الذي اتخذه كلا الفريقين منهجاً يسير عليه ويستلهم منه ويعرف حرمته. وهكذا فإذا كان بعض المستشرقين قد وصف المعتزلة بالمفكرين الأحرار، كذلك فقد وصف بعضهم الآخر (البارون كرادفو) الشيعة بأنهم أصحاب الفكر الحر(3).
* سيرة هشام بن الحكم:
لم يعط المترجمون لحياة هشام العناية الكافية كما أعطوها لغيره من مفكري الإسلام، لذلك نجد الغموض يلف أكثر جوانب حياة هشام التي لم يصلنا عنها الكثير ولم نعلم تفاصيل مراحلها وكذلك لم يصلنا شيء عن أبيه وأسرته، لا بل أكثر من ذلك فإننا لم نقف بالتحديد على سنة ولادته. ويذهب بعض الباحثين عند ملاحظته لبعض القرائن في سيرة هشام إلى أنه كان موجوداً في العام 113 للهجرة(4). وهذا الالتباس في تحديد سنة ولادته ينسحب على السنة التي توفي فيها، فنجد أن هناك اضطراباً في النصوص فيما يتعلق بذلك، فابن النديم يذهب إلى أن وفاته كانت بعد نكبة البرامكة بمدة يسيرة، وكانت نكبة البرامكة في صفر سنة 187ه وقيل بل كانت وفاته في خلافة المأمون، وخلافته كانت عام 198هـ. وهذا ما ذهب إليه "الطوسي" في "فهرسته"، ويقول "الكشي" في "رجاله" ناقلاً ما يحكيه عن الفضل بن شاذان أنه مات سنة 179هـ بالكوفة في أيام هارون الرشيد، وأما "الذهبي" في "تاريخه" فقد ذكر هشاماً في الطبقة الثالثة والعشرين المشتملة على من مات سنة 221هـ إلى سنة 231هـ(5). ومن جملة ما ذُكر في سبب وفاته أن يحيى بن خالد البرمكي قد أغرى الرشيد بهشام، حيث أنه قد جمع له المتكلمين، وقد جلس الرشيد متخفياً وراء الستار بحيث لا يعلم هشام به، وقد أخذ المتكلمون يناظرونه في الإمامة، وقد تآمروا على تقرير هشام في رأيه بالإمام، وهل إذا أمره الإمام بإشهار السيف والخروج معه يفعل ذلك؟ وبعد حوار طويل صرح هشام بأن الإمام إذا أمره بحمل السيف فإنه يمتثل أمره ويخرج معه، هذا والرشيد يسمعه وقد تغير وجهه(6)، مما دفعه إلى الانتقام منه والقبض عليه وتقديمه للإعدام، ولكنه فرَّ ونجا منه، وبات متخفياً من بلد إلى بلد وقد أصابته علة لازمته إلى أيامه الأخيرة حتى قضى نحبه(7).
* مكانة هشام العلمية واختلاف الأقوال فيه:
لقد امتازت شخصية هشام بن الحكم بالعديد من الخصائص والمميزات، وأول ما يلفت النظر في سيرة هذه الشخصية الفذة هي تلك الروح الظمأى والعطشى في البحث عن الحقيقة. وهذا ما يفسر لنا انتقالاته المتعددة من مذهب إلى آخر حتى انتهى به المطاف إلى مذهب الإمام جعفر الصادق عليه السلام، إلاّ أن التاريخ يذكر أنه كان أولاً على مذهب أبي شاكر الديصاني ذي النزعة المادية التجسيمية وهذا المذهب قد ترك آثاراً جلية على أفكار وآراء هشام التي نقف في بعضها على اتجاه مادي، فالألوان والطعوم والروائح عنده عبارة عن أجسام، ويُعزى إليه القول بأن العلوم والإرادات والحركات أجسام أيضاً(8). وقد ترك هشام مذهب الديصاني هذا إلى مذهب الجهم بن صفوان ذي النزعة الجبرية ومن ثم استقر به المطاف إلى مذهب الإمام الصادق عليه السلام. إلى هذا، فإن هشاماً كان من أكبر العاملين على تنشيط المحاججة والمناظرة في الوسط الثقافي الإسلامي آنذاك، وهذا ما تشهد به مناظراته الكثيرة مع المعتزلة والزنادقة كابن المقفع وغيره، وحتى مع أصحابه ممن يتفق معهم في الخط والمعتقد. يقول عنه أحمد أمين في "ضحى الإسلام": "أكبر شخصية شيعية في علم الكلام... وكان جَدِلاً قوي الحجة، ناظر المعتزلة وناظروه، ونُقلت له في كتب الأدب مناظرات كثيرة متفرقة تدل على حضور بديهته وقوة حجته"(9)، وقد وصفه الشهرستاني بقوله: "وهذا هشام صاحب غورٍ في الأصول، لا ينبغي أن يُغفل عن إلزاماته على المعتزلة، فإن الرجل وراء ما يلزمه على الخصم ودون ما يظهره من التشبيه"(10). ونحن إذا ألقينا نظرة على ما أنتجه هشام لألفيناه خصب الانتاج، وكان مشفوعاً بثقافة متنوعة وواسعة مع توقد ذهني وذكاء حاد. وقد مثلت كتبه الواحدة والثلاثون(11) واقع الثقافة في ذلك العصر بكل تلوُّناتها، فإننا نجده يتناول مختلف العلوم الفلسفية والكلامية من لاهوت وإمامة وغيرهما إلى العلوم الفقهية والحديثيّة، وتعود أهمية هذا النتاج إلى كونه أتى في حقبة كانت فيها العلوم العقلية وحتى الشرعية لا تزال لدى المسلمين في دور التكوين والتبلور، ومن هنا فإن هشاماً قد اضطلع بدور تأصيلي تأسيسي في مختلف كتاباته ومناظراته وخاصة في الإمامة. وهذا ما نجده في كلام ابن النديم عنه في ترجمته إياه حيث يقول: "من متكلمي الشيعة ممن فتق الكلام في الإمامة وهذَّب المذهب والنظر وكان حاذقاً بصناعة الكلام حَاضِرُ الجواب. سُئل هشام عن معاوية: أَشَهِدَ بدراً؟ فقال: نعم من ذاك الجانب"(12) أي من جانب المشركين.
ومما يدل كذلك على مكانة هشام بن الحكم الفكرية والعلمية تَلَمُّذُ أَحَدِ كبار رجالات المعتزلة عليه وهو إبراهيم النظَّام حيث نجد هذا الأخير قد أخذ الكثير عن هشام وحَذَا حَذْوَهُ في مواضيع متعددة منها قوله إن الإمامة لا تكون إلا بالنص وأن النبي قد نص على أمير المؤمنين علي عليه السلام وقوله بأن الإجماع ليس بحجة وأن الحجة لقول المعصوم وغيرها الكثير(13). إلى هذا، فكما كان هشام موضع رضا فريق من الناس، إلا أنه كان في المقابل محل سخط فريق آخر رماه في دينه وشنَّع عليه ونسبه إلى الكفر والغلو والإلحاد والزندقة، وهذا الفريق كان يُكن العداء لهشام بسبب قوة حجاجه لهم وإبطال حجتهم وبرهانهم، ومن هؤلاء القاضي عبد الجبار المعتزلي حيث يقول ناقلاً عن شيعة أبي علي الجبائي: "إن أكثر من نصر هذا المذهب (الشيعي) كان قصده الطعن في الدين والإسلام فتسلق بذلك إلى القدح فيهما، لأنه لو طعن فيهما بإظهار كفره وإلحاده لقلَّ القبول منه، فجعل هذه الطريقة سُلمَّاً إلى مراده، نحو: هشام بن الحكم وطبقته"(14). هذا، وقد رموا هشاماً بالتجسيم وغير ذلك، وقد قام العديد من علمائنا بالرد على هؤلاء وتفنيد آرائهم، منهم الشريف المرتضى في كتابه الشافي في الإمامة(15)، حيث قال: "وأكثر أصحابنا يقولون: إن أورد ذلك على سبيل المعارضة للمعتزلة، فقال لهم: إذا قلتم إن القديم تعالى شيء لا كالأشياء، فقولوا: أنه جسم لا كالأجسام"(16). وهذا التباين الذي وقع في حق هشام هو ميزة ايجابية تضاف إلى رصيده، وكما يقول الجاحظ: "يُستدل على نباهة الرجل من الماضين بتباين الناس فيه، وقال: ألا ترى أن علياً عليه السلام قال: يهلك فيَّ فئتان: محب مفرط ومبغض مفرط، وهذه صفة أنبه الناس وأبعدهم غاية في مراتب الدين وشرف الدنيا(17).
وأخيراً نختم بقول الإمام الصادق عليه السلام في حق هشام، قال عليه السلام: "هشام بن الحكم رائدُ حقِّنا، وسايق قولنا، المؤيد لصدقنا والدافع لباطل أعدائنا، من تبعه وتبع أمره تبعنا، ومن خالفه وألحد فيه فقد عادانا وألحد فينا"(18).
(1) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام، حسن الصدر، ص361.
(2) تنقيح المقال، المامقاني، طبعة حجرية، ج3، ص294.
(3) الحضارة الإسلامية، آدم متز، ص145.
(4) هشام بن الحكم، عبد اللَّه نعمة، ص43 42.
(5) المصدر السابق، ص43.
(6) تنقيح المقال، ج3، ص296.
(7) هشام بن الحكم، ص53 46. كذلك انظر: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي، محمد بن الحسن الطوسي، ج2، ص530.
(8) هشام بن الحكم، ص9.
(9) ضحى الإسلام، ج3، ص268.
(10) الملل والنحل، ج1، ص311.
(11) هشام بن الحكم، ص122 121.
(12) الفهرست، ابن النديم، ص250 249.
(13) هشام بن الحكم، ص104 101.
(14) الشافي في الإمامة، الشريف المرتضى، ج1، ص81.
(15) المصدر السابق، ج1، ص87 83.
(16) المصدر السابق، ج1، ص84.
(17) هشام بن الحكم، ص74.
(18) الشافي في الإمامة، ج1، ص85.