زينب الطحان
تضرب بالعصا الحديدية الموقد الطيني المشع بنار الخشب المحترق فتتطاير شراراته علينا ونحن نرتجف مع رعد البرق في الخارج، فنكتم ضحكات تفلت منا أحياناً بعيداً عن مرأى جدتي التي تتابع سرد حكايتها: "الشاطر حسن ما كان يقبل الانهزام أبداً ولا التنازل عن الشرف والعرض..." ما زال وجداني يحمل صوراً جميلة من التعابير الثقافية العفوية الدفينة، التي كانت تشحذنا بها جدتي، وعندما كانت تتفوه بتعبير غير مفهوم بالنسبة إلينا، فلم نكن بعد نستطيع فك المعاني، كان جدي، يردف بالشرح بكلماته البسيطة: "ما تقصده جدتكم أنه من المشين لنا كمسلمين أن نطيع الحاكم الظالم، فإياكم أن تطيعوا غداً ملكاً مثل هذا وإلا سيصيبكم مثل ما حدث لأهل هذه القرية"...
إنها قصص مستوحاة من قلب التراث العربي والإسلامي.. الذي نادراً ما يقرأه جيل اليوم وهو بالتالي يُحرم من متعة كبيرة تشعر الطفل بإلفة مع اللغة وتشجعه على القراءة والمطالعة فيما بعد، وهذا ما حدث معي فقد بت أعشق المطالعة منذ نعومة أظفاري. أما طفل اليوم فيعتمد في أغلب الحالات على مشاهدة القصص المحكية على شاشات التلفزة والسينما، المروية بلغة من الخيال المصور، الذي قد يعطيه في الكثير من الأحيان جرعات لا تشحذ خياله بقدر ما ترعبه وتخيفه وتجعله أسيراً لفكرة هي ليست هادفة في معظم المرات..
* "بوتر" بين أسطورة السحر ومرارة الواقع!!
وللشق الثاني المتعلق بالسينما والتلفاز حديث ذو شجون تحدثنا عن بعض همومه في مقالات سابقة، أما الأول فقد عاد الحديث عنه إلى شاشة الحياة اليومية بعدما غيبته أزمة شديدة الوقع ألا وهي أزمة المطالعة، وكان السؤال: لماذا لا يقدم أطفالنا على القراءة بشغف مثلما هو حادث في العديد من دول العالم؟ ويأتي هذا السؤال بمناسبة ما تشهده بريطانيا لا بل تقريباً كل دول العالم من إقبال شديد على قراءة "مغامرات هاري بوتر" وبلغتها الأصلية الإنكليزية للكاتبة البريطانية ج.ل. رولينج. فالنجاح المنقطع النظير لروايات "هاري بوتر" أعاد نبش تلك الشجون العربية من على رفوف المكتبات الجامدة... فما السر في قصص "هاري بوتر"؟! ولماذا جذبت الملايين من الناس على اختلاف أعمارهم واختلاف مشاربهم الثقافية؟!! العامل الأول أنها أعادت سحر الخيال الخرافي والأسطوري مرة جديدة إلى الحياة بعدما كان يعتقد أن سحر هذا النوع من القصص قد جف إلى الأبد!! ولكن كيف؟! نشرت الكاتبة قصصها الخرافية بعد صدمة العالم وخصوصاً الغربي بأحداث الحادي عشر من أيلول العام 2001، وكأن هذا العالم كان بحاجة إلى ما ينقله من مرارة الواقع إلى عذوبة الحلم وإبداع الخيال فيحققون معه ما كانوا يعجزون عن تحقيقه، ويرتادون معه ما لم يحلموا بارتياده من الأماكن، والأهم من ذلك هو سحق العدو المجهول، الذي يكون من الصعب اكتشافه أصلاً. ورغم أن هذا النمط من التأليف القصصي ليس بجديد تماماً، حيث تنحصر ببطل أسطوري يدافع عن قضية عادلة ضد خصم عنيد، ولكن ارتباطه هذه المرة بصبي صغير يعطي انطباعاً بأن جيلاً جديداً سوف ينشأ على قيم مختلفة يحاول أن يحقق ما لم يحققه الأوائل...
| إنها ليست أقل من حلم الإنسانية الكبير والأزلي بإيجاد عالم مثالي ينتصر فيه الحق ويسود العدل ويموت الأشرار... نعم هذا صحيح، ولكن نقاداً كثراً قرأوا النسخة الأصلية بالإنكليزية، وحالياً ما زلت اقرأ فصلها الأخير، وهي سلسلة مؤلفة من خمسة أجزاء، وسجلوا ملاحظات نقدية مهمة للغاية، ولكنك لو كنت قارئاً مطلعاً على عالم "روايات ألف ليلة وليلة" فإنك ستدرك على الفور أن محاور مغامرات هاري بوتر ومجريات مفاصلها مستمدة روحاً وقالباً من نسيج هذا القصص الشعبي العريق. وهو أمر لا تستغربه مطلقاً، فالغرب تعرف للوهلة الأولى على عالم هذه الروايات، والتي ترجمت إلى أغلب لغات أوروبا، منذ زمن مبكر جداً من العهد الأول لاتصال الغرب بالشرق، وكانت من أكثر المؤلفات العربية انتشاراً فيه وأوسعها دراسة وترجمة لانبهاره الكبير بها، وكان المستشرق الفرنسي "انطوان جالان Galland Antoine من أوائل الذين ترجموها إلى اللغة الفرنسية ونشرها في اثني عشر مجلداً ما بين عامي 1708- 1704 ولقد أعيد طبع هذه الترجمة أكثر من سبعين مرة، بتأكيد عدد كبير من الباحثين الغربيين أنفسهم... والحديث عن هذا التأثر الغربي بـ"روايات ألف ليلة وليلة" طويل. وفي ما أوردت دليل قاطع على أن هذه الكاتبة البريطانية، وهي من المغرمين بسحر الشرق، قد أطلعت على هذه الترجمات أو ما كُتب حولها!!
* الأسطورة الهادفة عندنا: فاشية الجنس النقي عندهم
أهم المآخذ النقدية الأخرى، وإن استهلمت الأحداث الدرامية وتسلسلها الشيق والمثير من عالم "ألف ليلة وليلة" إلا إنها قصدت انحرافاً حاداً، ففي الوقت الذي استخدمت فيه قصص "ألف ليلة وليلة" عالم السحر والسحرة والجن والتعاويذ، بالطبع هذا لا نحبذه أو نمدحه، رغم أن معظمها مستمد من وحي القصص القرآني وما جرى مع العديد من الأنبياء، أو ما حدث في زمنهم، حيث وصل السحر في تلك الأزمنة الغابرة أوجه مع النبي سليمان عليه السلام، وعليه فقد كانت قصصاً هادفة تنمي فطرة الكمال الإنساني في بني البشر وتعود بهم إلى رحابة الإيمان ودوحة الدين، وتحثهم على الاعتماد على أنفسهم لابتكار عوالمهم الخاصة والمتفردة بهم وتعلمهم أنه مهما بلغت قدرة السحر فالإيمان باللَّه وبالقدرات الذاتية هي الحل لمشاكلنا. أما مع قصص هاري بوتر فقد كان الاتجاه مغايراً تماماً ولأهداف يمكننا أن نطلق عليها دون تردد صفة ترسيخ العنصرية وتمجيد الشعب المختار والاستقلال عن قدرة اللَّه الجبار. فشخصية بطل السلسلة الطفل "هاري بوتر" مبنية على الجنس النقي والسلالة المميزة التي يتحدر منها، بالإضافة إلى مجتمع السحرة بوجه عام كفئة مميزة ذات قدرات خاصة تحصل عليها بحكم المولد وليس عن طريق اجتهاد أو عمل بعينه، ويعد هذا ترويجاً للقيم الفاشية. حيث تقوم فكرة القصة بداية على شخص وفئة مختارة chosen one، وينسحب هذا التميز تلقائياً على هاري بوتر بشكل خاص وكل فئة السحرة بشكل عام. كذلك لا يوجد في مدرسة السحر المتعالية على البشر العاديين سوى الجنس الأبيض المتسيد، فلا يوجد زنوج أو هنود أو عرب أو لاتين أو غيرهم من الأجناس والأعراق بخلاف العرق الأنجلو ساكسوني ذي الأصل البريطاني، كذلك لا يوجد في مدرسة السحر معوقون حركياً على سبيل المثال وهو ما يدعم من جديد اتهام القصة بالفاشية وبالتركيز على عنصر مميز وتجاهل وجود العناصرالأخرى. وأيضاً بسبب تركيب القصص العنصري فهي تتسم بالتسامح مع قيم العبودية بسبب التنظيم الاجتماعي في مدرسة السحر والذي يقنن الوضع المتدني للأجناس غير البشرية وهي في القصص أقزام الجان المعروفة في قصص أدب الأطفال الإنجليزي House Elves، حيث تؤكد القصص أن هذه الفئة مخصصة للخدمة وسعيدة بهذا التنظيم الاجتماعي ولا تسعى لتصحيحه أو تغييره لأنه ملائم لطبيعتها!! وما يثير العجب أن أحد أقزام الجان الطيب في الكتاب الثاني من القصة بعنوان "غرفة الأسرار"، يمتلك من القدرات السحرية ما يفوق سيده الشرير، وحتى قدرة البطل الأسطوري، وهو مع ذلك يستسلم لأوامر سيده بخوف وجزع.. إلى أن يحرره هاري بوتر من هذا الخوف، إنما يبقى عبداً سعيداً بانتقال "رسنه" إلى سيد طيب!! والأخطر مما تقدم كله أن هناك تغييباً كلياً لدور اللَّه عزَّ وجلَّ في تسيير الأمور وتغييراتها، بل تكاد تحس بالفعل أن زعيم السحرة الطيب "دامبلدور" هو الحكيم الوحيد المستبد في مملكة السحرة!! وفي ذلك قصد متعمد لإبعاد الطفل عن فطرة الإيمان بالخالق!!
* عالم ساقط وتجارة مربحة
واللافت للنظر أنه رغم الفارق بين الظاهرة الفنية وجدواها المبدع إلا أنها جزء من ظواهر الرأسمالية المتعولمة الجشعة. فقد تحولت المؤلفة الإنجليزية من أرملة تعيش على معونات الدولة، إلى المرأة الأكثر ثراء في بريطانيا حالياً، وتتعدى أرباحها السنوية من مبيعات الكتب والأفلام واستغلال علامة هاري بوتر حوالي 48 مليون جنيه استرليني!! وتحقق الشركات التجارية المتعاقدة معها أرباحاً خيالية في فروع صناعات لعب الأطفال كافة والبرامج الإلكترونية التي تحمل ملامح قصص هاري بوتر.
* "صنع من تراثنا" معطل حتى اشعار آخر!!
بعيداً عن الجدل الذي يؤرخ لبدايات أدب الأطفال في عالمنا العربي والإسلامي، وبعيداً عن النقاش الحاد حول عدم مواكبته لتطور الأدب العالمي، هناك أسباب مختلفة ومعددة تجتمع لتسبب هذا الفراغ الخطير عند عالم الأطفال، مما يخلق لديهم تصورات واهية حول عالم المثل الذي لا يمكن تحققه إلا في عالم القصص الخيالية، أهمها عدم الغوص في تراثيات الأدب العربي مثل "قصص ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" لابن المقفع، وقصص البخلاء للجاحظ، للاستفادة من تقنياتها المذهلة ومن آفاق الخيال المبدع الموظف، الذي أدرك كتاب الغرب كيفية استغلاله إلى أبعد الحدود، إلى المستوى الذي مكنهم من تأسيس أصول الحكاية عموماً لدرجة جعلته يدعي أنه مؤسس لتقنيات السرد القصصي والروائي، وهذا ما صدّقه بالفعل كتابنا ومثقفونا!، من هنا كان ذلك الجدل حول بدايات القصة العربية. وتجربة الأديب كامل الكيلاني (1959- 1897) الفريدة تقريباً جعلته الأب الشرعي لأدب الأطفال العربي، والذي نشر منذ عام 1927 وحتى وفاته حوالي مائتي كتاب، مستمداً معظم موضوعاته من التراث العربي والإسلامي والعالمي. لذا تأتي موضوعات قصص اليوم تقليدية أسيرة أسلوب الوعظ والإرشاد التعليمي المباشر بلغة جامدة وصعبة، مع ما يغلفها من كثرة الوصف الإنشائي المطول، إضافة إلى عدم مراعاة الفروقات الفردية بين الأطفال من فئات عمرية مختلفة.. أضف إلى ذلك العامل الثاني الذي لا يقل أهمية عن الأول وتشعباته، رداءة الإخراج الفني، على صعيد جودة الورق وجماليته من حيث الشكل الخارجي سواء للغلاف أو داخل الكتاب، وهذا عامل مؤثر وجذاب يعني الطفل كثيراً الذي يحب الألوان الجميلة والأشياء الجديدة دائماً التي تبهره. وعلى صعيد الرسومات المعبرة عن أحداث القصة يعتريها الكثير من الجمود والمحدودية الباهتة التي تؤطر وصف المشهد برتابة وقائعية منفكة عن الخيال ذي الألوان والمشاهد الجميلة التي يبحث عنها الطفل بعيداً عن عالمه الواقعي المحدود!! وهناك أسباب وأسباب ولكن هذين العنصرين الأساسين اللذان يجعلان أدب الطفل العربي لا يتقدم، وما يصنع منه أدباً لا يحبه الأطفال بل يتجهون إلى أمثال "هاري بوتر" النسخة المشوهة عن تراثنا الأصيل صنيعة الآخر!! فماذا نحن فاعلون؟!!