آية الله جوادي الآملي
كان بحثنا يدور حول عدم وجود كمال للإنسان أرفع من التقرب من الكمال المحض. الله هو الكمال اللامحدود. فأية سعادةٍ أكبر للإنسان من التقرب من الكمال المحض، وأي مقام أرفع له من صيرورته عند الله؟ إذا كان كمال الإنسان في التقرب من الله، والله هو الكمال المحض، فما هي الوسيلة والطريق الموصلة لذلك؟ إذا كانت سعادة الإنسان في أن ينال حضور الله فما هو السبيل لذلك؟
إحدى أهم وأفضل وسائل التقرب أن يدرك الإنسان وجود الله معه. وأن كل ما يقوم به يجري في مشهده ومحضره، ولا يخفى عنه شيء.
عندما يدرك الإنسان أنه في محضر الله لا بد له من مراقبة أعماله والانتباه لتصرفاته، هذا من جهة، ومن جهة ثانية يحاسب نفسه فيقارن العصيان مع الطاعة ويدقق في الأمر. إذا اكتشف أنه ارتكب ما يخالف أمر ربه سعى مباشرة لإصلاح الأمر وتعويضه. وإذا اكتشف أن طاعاته كانت أكثر من معاصيه وأن خدماته أكثر من خياناته، عالج الأمر بصورة مختلفة. فعليه أن يقارن طاعاته بنعم الله، يسعى لمقارنة ما أداه من خدمات وطاعات، وهل توازي النعم التي أنعمها الله عليه أم لا؟ وفي المرحلة الثالثة يجد الإنسان نفسه قاصرة، عندها يعمل لإظهار عجزه وضعفه فلا يبتعد عن عبوديته لله، بل لا يفتىء يعتبر نفسه عبداً.
الذي يعرف الله حاضراً وناظراً يراقب نفسه في كل ما تقوم به من أعمال. أما الأمور التي تقف حائلاً دون طي هذه الطريق فهي على قسمين:
1- المسائل الاعتقادية.
2- المسائل العاطفية.
أما القسم الأول الذي يرتبط بالرؤية العقائدية، فقد سبق أن تعرضنا له في الجلسة السابقة. وقد ظهر لنا بوضوح وبحسب نظر القرآن عدم إمكانية القيام بشيء دون أن تتعلق به إرادة الله، فكيف يمكن للإنسان ارتكاب ما هو مخالف لأوامره والاعتماد على غيره.
يقول تعالى في سورة سبأ: ﴿عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين﴾. (سبأ:34)
لا أحد غير الله يملك ذرة لا على نحو الاستقلال ولا على نحو الشراكة، ولا على نحو مساعدة الله، ولا يمكن لأحد أن يشفع من دون إذنه. إذن إذا ما انقطع أحد عن الله واعتمد على غيره مهما كان هذا الغير سواء كان شخصاً حقيقياً أو حقوقياً، وسواء كان مؤسسة، أو كان بنفسه فلا يقدر أحد على شيء من دون الله.
وأما من حيث المسائل العاطفية والمشاعر، فارتكاب الإنسان للمعاصي يعود لجاذبية لذائذ الدنيا السريعة الزوال والانقضاء، وهذا ما يدفعه لإتباعها. إذا حُلّت المسألة من الناحية العقائدية وعلم أن لا قدرة لأحد على فعل شيء في النظام الكوني غير الله، عندها لن ينسى الله بسبب المسائل العاطفية والمشاعر حيث اللذة والشهوة وظروف المعيشة.
وقد قام القرآن بتوضيح هذا الأمر بشكل جيد، حيث يقول لا يؤثر خداع الدنيا على الإنسان المستقيم. عندما يوضح القرآن ماهية الدنيا ويشرحها، وعندما يتعرف الإنسان إلى معارف القرآن لن يكون مستعداً للوقوع في العذاب الأبدي مقابل التلذذ بلذة سريعة الزوال.
رؤية القرآن ونظرته توضح أن ما هو زينة وخداع، ليس زينة للإنسان بل هو زينة الأرض والسماء أما الإنسان فهو منفصل عن الأرض والسماء، يدعو الإنسان لعدم جعل نفسه مساوياً لأرض جامدة لا روح لها. ما يليق بالإنسان شيء آخر.
* إن ارتكاب الإنسان للمعاصي يعود لجاذبية لذائذ الدنيا السريعة الزوال والانقضاء
يقول القرآن: إذا أردتم الاستغراق في الزينة والخداع، فاعلموا أن هذا الخداع سيؤدي بكم إلى مهالك أبدية. إذن يعتبر القرآن أن جمال الطبيعة زينة للأرض وللسماء وليس للإنسان، ومن ناحية ثانية يرى أن انجرار الإنسان خلف الأمور المادية سوف يحرمه من السعادة الأبدية.
وأما نظرته الأولى التي بين من خلالها أن ما على الأرض من غايات وأبنية ومتاع وغير ذلك هو زينة للأرض يقول: ﴿إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها﴾ (الكهف:7) جعلنا ما على الأرض زينة للأرض لا زينة لكم، الذي يبني منزلاً ويجمله يكون قد بنى شيئاً يزين به الأرض لأن البيت زينة للأرض، لا للإنسان. ومثل ذلك إقامة الحدائق، فهذا تزيين للأرض لا للإنسان. الشجر زينة للأرض لا للإنسان. الأثاث الجميل زينة للأرض لا لروح الإنسان لأن: ﴿إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها﴾ إذا كانت هذه الأمور زينة للأرض فيا لسوء حال من باع نفسه بزينة الأرض. الإنسان المادي، يبيع نفسه بالجماد ويزين نفسه بالبستان والمنزل.
﴿لنبلوهم أيهم أحسن عملاً﴾ زينا الأرض كي تمتحن الإنسان الذي يراها بضعة أيام، أردنا أن نعرف من هو أحسن وأفضل وأخلص. هذه الزينة هي للامتحان. ثم يقول: ﴿وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً﴾.
إذن لا يمكن لشيء من عالم الطبيعة أن يكون زينة للإنسان، لأن الحدائق والأثاث والبناء وأمثال ذلك زينة للأرض، والنجوم زينة للسماء أيضاً: ﴿إنا زينا السماء بزينة الكواكب﴾، الشمس والقمر وسائر الكواكب زينة للسماء. والآن يطرح هذا السؤال: إذا كان الأمر كذلك فما هي زينة الإنسان؟
يبين القرآن الكريم زينة الإنسان في سورة الحجرات بقوله: ﴿ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم﴾ جعل الله الاعتقاد بالمبدأ والمعاد والوحي والنبوة محبوباً للإنسان. وجعل هذا الاعتقاد والإيمان زينة لروح الإنسان. يسمى القرآن الكريم الاتكال على الله والانقطاع عن غيره زينة الإنسان. إذن ليس الخاتم والفلز الموجود في يد الإنسان زينة له ولا الرداء الفلزي الموجود على أكتافه ولا التاج الموضوع على رأسه ولا العباءة والرداء الموجود على بدنه. ولا الحذاء الذي ينتعله، ولا الشمس التي تشع من فوق رأسه ولا العشب الموجود تحت قدميه. ليس كل هذا زينة للإنسان. ليس المنفصل عن الإنسان زينة له ﴿ولكن حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم﴾.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين علي عليه السلام: "يا علي إن الله قد زينك بزينة لم يزين بها أحداً" هذا نفس ما ذكرناه فوق. ثم يشرح الرسول صلى الله عليه وآله له تلك الزينة وهي صيرورته محبوباً لقلوب المؤمنين...
كتب علي عليه السلام رسالة لأحد ولأنه قال فيها ما معناه: "وصلني أنك تمد يدك إلى بيت المال فإذا كان ذلك صحيحاً فشسع نعلك خير منك" كيف تبيع زينة الإنسان بزينة التراب، ألا تعلم أنك إنسان، وأن العقيدة والإيمان زينتك لا المال، شسع نعلك أفضل منك".
وقد بين القرآن الكريم هذا الأمر ودعا الإنسان أن لا ينخدع بالمشاعر والعواطف، وقد ذكر ذلك في مواضع كثيرة، ومنه في سورة الكهف وسورة الحجرات، كما ذكر أمثلة على هذا الأمر في سور كثيرة.
ومن الأمثلة ما هو وارد في سورة يونس حيث يحذر المكارون الدساسون حين يقول: ﴿إن رسلنا يكتبون ما تمكرون﴾ لا يخفى عليهم شيء يسجلون كل ما تقومون به. ثم يقول: ﴿يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا﴾.
عليكم أن تعرفوا أن الضرر سيصيبكم من أعمالكم وإنكم لا تضرون الله شيئاً لأن الله قد وعد بنصرة دينه وسيفي بوعده، فالله قوي عزيز غني عن العالمين إذن، كل بغي ترتكبونه سيلحق الضرر بكم. لا يمكن لإنسان أن يعصي إلا ويكون قد بغى على نفسه. لا يمكن لأحد إلحاق الضرر بالله من خلال المعصية. وثانياً: الذي يدفعكم للسير نحو الضلال "متاع الحياة الدنيا". لأن الدنيا تعني الدناءة والوضاعة، ليس من حياة أقل ضعة من الحياة الدنيا، وليس من عالم في النظام الكوني أكثر ضعةً من الدنيا، لأن الدنيا دنية. لا ترتكب معاصي إلا في الدنيا. ليس من معصية في عالم البرزخ، ولا في عالم الملائكة، ولا في عالم الأرواح. فقط الدنيا مكان عصيان وتخلف.
إذا استأنس الإنسان بالمعارف العقلية، التذ بالإحسان والإيثار وحفظ الأمانة، ولم يعد يعتبر اللذات السريعة الانقضاء الناشئة عن العصيان لذات، ﴿متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعهم﴾، ليس الإنسان كشجرة تيبس بعد موتها ثم تتحول تراباً ولا يبقى منها شيء، الموت للإنسان كالحياة الجديدة التي ينتقل إليها الطائر الخارج من القفص. للإنسان روح تكون أسيرة كما الفراخ قبل خروجها من البيض، أسيرة الطبيعة.
* الزينة المادية زينة للأرض وليس لروح الإنسان
عند الموت يحطم القفص وتخرج الروح لتعود فتلتقي بالجسد من جديد في المعاد. يلتقي الجسد والروح ليعود الإنسان لحياته فيحيا في المعاد بنظامه الأخروي كما كان يحيا في الدنيا. إذن، ليس موت الإنسان كموت الشجرة تيبس وتزول بل كطائر يتحرر: ﴿ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون﴾.
ثم يبين خداع الدنيا من خلال طرح مثال: ﴿إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء﴾ عندما تتقاطر حبات الماء على الأرض ﴿فاختلط به نبات الأرض﴾ تعود الحياة للأرض وتتشقق الأرض ليخرج البذر نباته، تعود الأرض الميتة إلى الحياة وتعمر ﴿مما يأكل الناس والأنعام﴾.
عندما يتطرق الحديث إلى الغذاء المادي والطعام، يتحدث الله سبحانه وتعالى عن الحيوانات والبشر في مكان واحد، أما عندما يتطرق إلى المعرفة، والقسط والعدل، العلم والإيمان يذكر الله تعالى الإنسان المخلص مع الملك في مكان واحد.
في حديث له يقول الإمام السجاد عليه السلام بما مضمونه: يكفي لمعرفة أهمية مقام العلم والمعرفة في الإسلام أن العلماء يُذكرون إلى جانب للملائكة.
إذن، عندما يدور الحديث عن الطعام، يذكر الله تعالى الناس مع الأنعام ﴿مما يأكل الناس والأنعام﴾ أو يقول ننزل من السماء ماءً لنحيي نبات الأرض. ﴿متاعاً لكم ولأنعامكم﴾. ويقول في مكان آخر: ﴿كلوا وارعوا أنعامكم﴾. أما عندما يجري الحديث عن المعرفة والعلم، يذكر العلماء والمفكرون والمؤمنون مع الملائكة: ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم﴾، يشهد الله على وحدانية نفسه وتشهد الملائكة على وحدانيته. ويشهد العلماء والمتدينون مع الملائكة. أمَّا عند الحديث عن الطعام، فيذكر الإنسان مع الأنعام.
يقول الدنيا كماء أنزل من السماء فروى الأرض وجذب الإنسان والحيوان نحو: ﴿حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزّينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها آتيها أمرنا ليلاً أو نهاراً﴾ بعد أن أزّينت الأرض وخال الناس أنهم قادرون على شيء: ﴿فجعلناها حصيداً كأن لم تغنى بالأمس﴾.
تعتبر هذه الآية الكريمة كل جمال الطبيعة زينة للأرض لا للإنسان ﴿كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون﴾.
إذا فكر الإنسان ملياً، علم أن كل الجمال الموجود زينة للأرض لا للإنسان، ثم أن هذه الزينة زائلة. إذا ابتلى الإنسان الأبدي نفسه بالزينة الزائلة وجعل روحه في معرض الخطر، فما هو سبيل علاجه؟
تقدم لنا هذه الآيات إشارات أولية حتى لا ننخدع وحتى نصل إلى ذاك المقام الرفيع "عند الله" الذي وعده الله به في أول سورة يونس: ﴿وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم﴾.
الآن نحن نبحث في الوسيلة التي تمكن الإنسان من عدم التلوث حتى يصل من خلال طي هذه الدرجات إلى مرحلة يستطيع معها أن يفدي نفسه في سبيل تلك الأهداف. أن يصل إلى مرحلة يصبح معها زينة للأمة. يمكن للإنسان أن يزين المجتمعات، أي أن يصبح بنفسه زينة للأمة. وهذا هو المقام الواقعي للإنسان. ولكن الخطوات الأولى تتحقق عندما نعرف كيفية النجاة من الخداع. بعد ذلك يقول تعالى: ﴿والله يدعو إلى دار السلام﴾.
هذه هي الدنيا إذا تعلق بها الإنسان وخدع، ابتلى طول الأبد، أما إذا عرف حقيقتها فسينجو.
إذن عالم الطبيعة ليس دار السلام، ليس عالماً سليماً: ﴿والله يدعو إلى دار السلام﴾. الله يدعو الإنسان إلى عالم لا عذاب فيه ولا خوف، بل أمن وسلام، وذلك في الجنة.
يقول أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين: "ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها" أيها الناس قيمة أنفسكم الجنة فلا تبيعوها بغيرها لا تبيعوها بعالم الطبيعة... ﴿والله يدعو إلى دار السلام﴾ لأن الله سلام. وسلام هو أحد أسماء الله الحسنى. والجنة دار سلام حيث لا ضرر ولا خلاف. وهذا العالم نهاية خيرة للإنسان الذي زين نفسه بالإيمان والمعرفة والعمل الصالح: ﴿والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾.