يتصور البعض أنني حينما أتحدث عن الغزو الثقافي اعترض على تطويل الشاب شعره، في حين أن مسألة الغزو الثقافي أعمق من ذلك بكثير طبعاً إن التحلل والميوعة من فروع هذا الغزو فقد عمل الغرب وأوروبا سنوات متمادية على تلقين شعوبنا العجز وعدم الثقة بالنفس، وإن عليهم أن يسيروا تابعين لهم. فحينما يأتي أحدنا بنظرية جديدة في العلوم تختلف عن النظريات الموجودة، يقف البعض متشدقاً فيقول: إن هذه النظرية تخالف ما جاء به العالم الغربي الفلاني في الاقتصاد أو علم النفس؛ فيتعامل مع نظريات الغربيين، كما يفعل المؤمنون تجاه القران والوحي والإلهي، أو أكثر في حين أن هذه النظريات تنسخ ويأتي غيرها دون علم هؤلاء الجامدين، فيحتفظون بتقديسهم لتلك النظريات التي عفى عليها الزمن، فمثلاً مضت عقود على آراء (بوبر) على الصعيد السياسي والاجتماعي، وكُتبت في نقدها وردها عشرات الكتب في أوروبا نفسها، ومع ذلك ظهر في السنوات الأخيرة من الأدعياء والمتفلسفين من يقوم بالترويج لنظريات (بوبر)! وهذا يدل على وجود عيبين في هؤلاء، الأول: أنهم يقلدون بشكل أعمى، والثاني: أنهم في غفلة عن المتغيرات الحديثة والمعاصرة.
إن بلدنا هو مهد الفلسفة، إلا أن البعض يحتاج في فهم الفلسفة إلى الرجوع للآخرين، ففي المرحلة الإسلامية لهمدان حينما كان ابن سينا يبتكر أسمى النظريات الفلسفية والطبية والهندسية والرياضية وغيرها، تحدث عند مجيئه إلى همدان أنه صادف شيخاً مسناً ويتمتع بكثير من الفضائل وهو الذي يعبرّ عنه بالرجل الهمداني في الكتب الفلسفية والأصولية ومن خلال كلام ابن سينا عنه يتضح أن هذا الرجل منذ ألف سنة كان واسع المعرفة في الهندسة والفلسفة والمنطق، وذلك في القرن الهجري الرابع الموافق للقرن العاشر الميلادي، الذي يعدّ من القرون الوسطى التي رزحت فيها أوروبا وسط ظلمات الجهل وغياب العلم. ثم ظهر بعد ذلك رشيد الدين فضل اللَّه والبابا طاهر وغيرهما ممن ذكرت أسماءهم وأحوالهم في هذه الاجتماعات. هذا هو سند كفاءاتنا العلمية والثقافية، فلماذا لا نستعيد الثقة بأنفسنا، فإننا وان تخلفنا عن العلم المعاصر لقرنين من الزمن، إلا أننا سنبلغ ما توصل إليه الغرب في مدة أقصر، من خلال سلوك أقصر الطرق، وأننا سنأخذ العلم ونحوزه، ولا نرى التعلم عاراً، فالإسلام يقول: إن قوام الدنيا بعدة جماعات؛ أحدها أولئك الذين لا يعلمون ولكن لا يجدون ذلاّ في التعلم، فإننا سوف نتعلم ما لا نعلمه، ونخدم الذي يعلمنا.
إلا أن هذا لا يعني أننا نبقى تلاميذ إلى الأبد، فنحن اليوم تلاميذهم وفي الغد سنعدو من معلميهم، كما كانوا في السابق تلاميذنا وغدوا اليوم معلمينا، حيث اخذ الغرب العلم منا، فقد ذكر (بير روسو) في كتابه (تاريخ العلوم): (توجه تاجر من إحدى البلدان الأوروبية قبل أربعة قرون إلى أستاذ، فطلب منه إرشاده إلى مدرسة جيدة ليضع ابنه فيها، فأجابه: إذا أردت منه أن يتعلم العمليات الرياضية الأربع فقط فبإمكانك أن ترسله إلى أي مدرسة في أوروبا، وأما إذا أردت له أن يتعلم ما هو أعلى من ذلك فأرسله إلى الأندلس أو المناطق الأخرى التي يسكنها المسلمون).
إذن على الجيل المتعلم والمحقق في بلدنا أن يعلم أولاً أن التفوق الحالي إذا كان في حوزة الغرب سيكون غداً في حوزتنا، ومن خلال جهودكم وهممكم سيأتي الغربيون إليكم يتعلمون منكم. حطموا حواجز العلم، وفكروا و اعملوا، وبذلك سوف تجتازون حدود العلم المعاصر، وعليكم أن تصلوا إلى مرحلة الإبداع، فان مرحلة الإبداع مرحلة مهمة وسامية، وبالإمكان التقدم نحو الإبداع، وقد تقدمنا نحوه.
وثانياً: إن تعلم العلم لا يعني تقليد المعلم في حضارته، وهذا شيء مهم جداً، ففي العهد القاجاري دخلت أولى مظاهر الحضارة الغربية إلى بلادنا، حيث كان أعيان البلاط الملكي أول المحتكين بالمجتمع الأوروبي، فكان أول ما تعلموه منهم هو التقاليد والعادات وآداب المعاشرة، ومن هنا نشأ الخطأ، فليس من الضروري أن تقلّد معلمك وتحاكيه في اختيار لون ثوبك مهما كان هذا الأستاذ صالحاً وجيداً .إن المفتون بعلم الغربيين يقول: علينا أن نقلد الغرب من قمة رأسنا إلى أخمص قدمنا، لماذا؟ ، نحن مسلمون وسنبقى مسلمين، وإذا كان علمهم أكثر منا، نأخذ هذا العلم منهم، دون أن يتعين علينا تقليدهم في السلوك والثقافة والملبس وحتى طريقة التكلم، فان هذا ناشئ من ضعف النفس والشعور بالضعة، فأنا افخر بلغتي وثقافتي وبلدي وتاريخي، فلماذا أقلد غيري دون مبرر؟ إن كان علمهم أكثر، تعلمنا منهم ذلك العلم، وان أرادوا منا نفقة على ذلك أعطيناهم.
وقد توصلوا إلى أن العلم يمكن تبديله بالنقود، وإن الشيء المهم عندهم هو النقود في حين أن الإسلام يرى أن شرف العلم ذاتي، إلا أن الغربيين يرون شرف العلم بقابلية تبديله إلى الدولار والباوند، ونحن بدورنا نغتنم هذه الرؤية ونشتري منهم علمهم، دون الحاجة إلى تقليدهم. هذه كلمتي إليكم أيها الشباب، وطبعاً، إن هذا الكلام سهل على اللسان، وصعب في الميزان، وهنا تكمن المشقة في علمنا. وقبل أن اختم كلامي اذكّر أنني أشرت إلى مسألة التقليد الثقافي، فهو خطر كبير، ولكن لا أريد أن يساء فهم كلامي، فأنا لا أعترض على تنوع الموديلات وأساليب الحياة، فان التغير يحدث، ولا عيب فيه، ولكن حذار من أن يكون هذا التغير بدافع من التقليد الغربي، فليس من الضروري أن أطالع الموديلات المرسومة للأمريكي، فأحاكيها ، فليكن إبداع الموديل من بنات أفكاركم،وإذا أردتم أن تحلقوا شعر رأسكم بطريقة معينة أو أردتم أن تلبسوا ثوباً معيناً أو أردتم تبديل مشيتكم، فليكن هذا التبديل من نتاج فكركم وإبداعكم.
منذ أربعة عقود أصيب بعض الشباب في البلدان الغربية وعلى الخصوص أمريكا بحركات انفعالية بسبب الإحباط من الظروف الاجتماعية، ولا زالت مستمرة، وحينما ذهبت بعد انتصار الثورة إلى الجزائر أبصرت شاباً قد حلق نصف شعر رأسه وأبقى النصف الآخر، فلم أجد جمالية في هذه التسريحة، وكان واضحاً انه قلّد بعض الأشخاص في ذلك، إذ لم تكن الحياة الصناعية والتقنية الإنتاجية تشكل ضغطاً على الشعب في الجزائر حتى ينفعل الشاب الجزائري كما ينفعل الغربي، إلا أنه شاهد الشباب الغربي يقوم بهذا الفعل فقام بتقليده غافلاً عن الأسباب التي دعت ذلك الغربي إلى اتخاذ هذه السلوكية الشاذة، فأنا أخاف هذه الأشياء، ولا أحب لشبابنا من البنين والبنات أن يسلكوا نفس السلوكية.