حسن زعرور
في تلك الأيام، لم أكن إلا فتىً صغيراً، يعدو خلف الجداء يلمها، ثم ينطلق بها إلى مرعىً جديد، في قرية لم يكن عدد منازلها يفوق أصابع اليدين إلا قليلاً شمالي حيفا. كان يخشاني الفجر، وأروح أسقي العين من تمازج الألوان البكرية تتثنى وتميل، وتتعانق فوق التلال ببراءة بياضها، حتى إذا بانت الشمس في خفرها، تحولت ألوان الأرض من الخجل إلى الاخضرار الحي، ونقاط رمادية لصخور دهرية نثرتها يدٌ إلهية هنا وهناك، ونسائم رقراقة كانسياب الهناءة في وداعتها تداعب أوراق النرجس والأقحوان، وأزهار احتُلِبَ رحيقها تتمايل دلالاً مع النحل يطن ويدور، وأطيار تتراقص فوق جدول صغير تسرق منه قطرات ماء فينسل منها بين شجيرات مغناج تلعب بها النسائم، حتى إذا ما سكب دمع عشقه على الضفتين ناس بانسياب الحالم إلى بحيرةٍ صغيرة كانت مأواي وملاذ خرافي. هناك، حين يتعب النهار ويعرج إلى منزل المبيت، أعود متسارع الخطى يجرني حنيني إلى اللعب، وأترابي متجمعون في ساحة القرية وعجائز ورجال، حتى إذا ما هلّت العتمة يتعالى صراخنا وصراخ الأهل في تمازج غضبهم وشيطنتنا.
يومها، كنت أنال النصيب الأكبر من تقريع والدتي وتأنيبها لي، شاكية المرة تلو المرة لوالدي من عفرتة ولده فيعبس ما بين حاجبيه حتى إذا ما نأت الوالدة عنا فرد ابتسامته وربت على كتفي، كأبيك واللَّه كأبيك، وتنتقل عيناه إلى ذكرى بعيدة وحنين فاته هناك يوم أن كان بعمري.
ومع أن عيني أبي عسليتان فقد كان فيهما من الصلابة قدر ما فيهما من الرقة والعطف، وكان له شاربان أعكفان كانا مثار فخره يداعبهما في استغراقة الرضى أو يفتلهما في الزهو والغضب، وكان لهما فصل الخطاب في حلفانه والقسم، ذهبيين أشعرين كسيف استطال نصله، ما كان يضاهيهما في محبته غير تلك المرتينة العتيقة المخبأة في خزانة جدودية، "بروميير، دوزييم تروازييم" كما كان يتحدث عنها بشغف، وكيف رافقته في أزقة حيفا عام 1935، في تلك الأيام كان الشيخ القسام والعبد قاسم ومحمود زعرورة ومحمد صالح وحسن الباير وإبراهيم الشيخ خليل وأبو إبراهيم الكبير قد جعلوا من حيفا مقر عملياتهم ضد المستعمرات اليهودية المحمية من قوات الاحتلال البريطاني، وكان أبي ضمن الوحدات التي يسيرها الشيخ ضد القوافل اليهودية المسلحة، ويا طالما استذكر أبي، كيف دمروا ست مستعمرات دفعة واحدة في مرج ابن عامر رغم تدخل الأسطول البريطاني، وكيف قامت النسوة في "لفتا" بحماية المجاهدين وقذف الجنود الإنكليز بالحجارة، وكيف وكيف، حتى إذا ما قتل الشيخ القسام في كمين "خربة الشيخ زير" الذي نصبه له الجنود البريطانيون تفرق الشمل، الشيخ دفن في قرية "الياجور" ورفاقه دفنوا أنفسهم أحياء، أما أبي فقد خبأ بندقيته تلك منتظراً فرصة أخرى لم تتح له بعدها، لم يعد للثورة أنياب، والمرتينة ولى زمانها بوجود جيوش العربان الزاحفة لتحرير فلسطين، لشد ما أعجب أبي لباسهم ولحاهم وشواربهم وأجسامهم المكتنزة على صهوات الجياد... وذوائب العُقُل البيضاء والسوداء ترفرف في عز لم يدم طويلاً، أيام معدودة وطاحت العُقُل والشوارب واللحى وبقيت الجياد الشاردة تروي بذهول كيف باعوا فلسطين، يومها حلق أبي شاربيه من الجذور، فمن العار أن يبقى لعربي شارب وإسرائيل في الوجود.