آية الله جوادي الآملي
إن القرب الإلهي هو أفضل مقام للإنسان الكامل، بحيث لا يكون بينه وبين ربه أي حاجز أو حجاب، فكما أنه لا يوجد أي حجاب بين الله والإنسان، يجب أن لا يكون أي حاجز بين الإنسان وربه. إذ أن كمال الإنسان هو في وصوله إلى مرحلة لا يجد بينه وبين ربه أي حجام أو حاجز، وبدون أن يرى الإنسان ويدرك المعنى الأول، فلن يستطيع الوصول إلى المعنى الثاني، وما دام لم يُحل الأصل الأول له، لن ينال الأصل الثاني، وما دام لم يثبت له أن ربه معه محيط عارف بعمله، لن يستطيع الوصول أبداً إلى مقام لا يكون بينه وبين ربه حجاب.
فعلى سبيل المثال: عندما يكون الشهيد والمقتول في سبيل الله عند الله، وفي محضر الله، ويكون قد نال مقام لقاء الله الرفيع، حيث يعلم أن الله محيط به. وإذا عرف أن الله محيط به، قدم كل وجوده في سبيله، ووصل بالشهادة إلى حضور الله.
إذن عندما يعتبر الإنسانُ اللهَ غائباً، ولا يطلع على أصل: "أن الله معه" يغرق في الغفلة، وإذا غرق في الغفلة، تهاون في أداء الأعمال الواجبة، ولم يعتنِ باجتناب المحرمات. بينما لو اتضح له أن الله معه، ووجد نفسه في مشهد ومحضر الله، فإنه يسعى لأداء كل الأعمال طبق الإرادة الإلهية. وهذه الأعمال التي تؤدى وفق إرادة الله هي أعمال مقرِّبة. وكل عملٍ يقوم به يكون وسيلة للتقرب، ويقربه من الله، كالصلاة: "الصلاة قربان كل تقي".
وقد بين القرآن الكريم هذين الأصلين الذي يُعد أحدهما مقدمة للآخر في عدة أماكن. مثلاً في الآيتين 60 و61 من سورة يونس وقد سبق أن تعرضنا لهما. أوضح الأصل الأول بأن كل ما يفعله الإنسان هو في مشهد الله. أما بيان القرآن في موارد أخرى فهو أن الرسل والملائكة الإلهيين يسجلون ما يقوم به الإنسان: ﴿بلى ورسلنا لديهم يكتبون﴾ ﴿ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد﴾.
وفي قسم آخر من الآيات، يتشدد أكثر من هذا فيقول: ليس الرسل وحدهم معكم بل الله معكم حاضر ومحيط، ليس الملك وحده مراقب لأعمالهم، بل الله حاضر وناظر. إذا وصل الإنسان إلى هذا الحد فاعتقد أن الله ناظر إلى أعماله، راعى الخلوص في كل أعماله، فمن ناحية يؤدي الأعمال بحسب أوامر الله ومن ناحية ثانية، يكون مخلصاً في القيام بأعمال الخير.
هذه المرحلة الثانية التي يرى فيها الإنسان ربه حاضراً وناظراً إليه يمكن اختصارها في أربعة أقسام بحسب وجهة نظر القرآن الكريم. ففي
القسم الأول: يقول الله تعالى أنا قريب منكم. ويقول في القسم الثاني: أنا أقرب إليكم من القريبين أما في القسم الثالث، فيقول: أنا أقرب إليكم من حبل الوريد، وفي القسم الرابع والأخير يقول: أنا أقرب إليكم منكم. والآيات التي تبين هذه المراحل الأربع هي على التوالي:
يقول الله سبحانه في كتابه مخاطباً رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عندما يتطرق لموضوع العبادة والدعاء ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون﴾.
حيث يشير الله إلى نفسه في هذه الآية القصيرة سبع مرات بضمير المتكلم، فيقول ﴿وإذا سالك عبادي﴾، ﴿عني﴾ ﴿فإني قريب﴾ ﴿أجيب﴾، ﴿دعوة الداع إذا دعانِ﴾، ﴿فليستجيبوا لي﴾، و﴿ليؤمنوا بي﴾.
فعندما يقول: ﴿إني قريب﴾ نستنتج أن الله قريب منا ليس ببعيد، وهذه هي المرحلة الأولى.
ويقول تعالى في سورة الواقعة: ﴿ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون﴾ فأنا أقرب إلى الإنسان المحتضر منكم أنتم الذين اجتمعتم حوله، ولكنكم لا ترون. أي ليس لديكم تلك الرؤية لتروا الله، وليس لديكم الرؤية لتدركوا كون الله أقرب منكم من المحتضر. إذن فالمرحلة الثانية تفيد أن الله أقرب إلينا ممن هم حولنا.
المرحلة الثالثة: بيّنها في سورة "ق" حيث يقول: ﴿ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد﴾ نعم فاللَّه أقرب إلينا من العضو الذي يحمل أسباب الحياة.
المرحلة الرابعة: يبينها في سورة الأنفال، عندما يدعو الناس لمواجهة الكفار، ويأمرهم بالدفاع والجهاد. فيقول تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه﴾ والذي يستفاد من صدر الآية أن الأمة الحية هي التي تقوم لمحاربة الكفر.
فالجهاد والدفاع عاملاً حياة للأمة. أن الأمة التي لا تحارب الكفر، ليست حية بحسب ثقافة القرآن، وأن الناس الذين لا يقومون لمحاربة الكفر أموات بحسب تصريح القرآن الذي هو لسان الوحي: "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" وهذا البيان الرفيع لم يذكر في شأن الأمر بالصلاة والصيام، وإن كانت الصلاة والصيام يحييان الإنسان. ولم يذكر هذا الأمر في شأن الزكاة والخمس والحج أيضاً، وإن كانت الزكاة والخمس والحج يحيون الإنسان. بل ذكر هذا الأمر المهم بعد أن أمر بالجهاد والدفاع والمواجهة.
فإذا دعاكم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للجهاد فاستجيبوا له لتحيوا. فكما أن القصاص عامل حياة للأمة في المسائل الشخصية. ﴿ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب﴾ كذلك الدفاع والجهاد عاملاً حياة للأمة من الناحية العامة. ومحور بحثنا للأمة من الناحية العامة. ومحور بحثنا ليس صدر الآية المباركة، بل شاهدنا الأصلي آخرها.
يقول تعالى: ﴿واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه﴾. فالله هو الفاصل بيننا وبين حقيقتنا، فما يجول في خطارنا هو في إطار قدرة الله ويمكنه تغييره، فينفي المثبت ويثبت المنفي. كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم وحل العقود ونقض الهمم".
وإذا كانت قدرة الله حاضرة في أرواحنا، لأن قدرته عين ذاته فإن الله مطلع على حقيقة ذواتنا ومحيط ومشرف: "هو في الأشياء على غير ممازجة".
إذا حُلت المرحلة الرابعة لنا بشكل صحيح، حيث أن لله وجود في حقيقتنا، فلا يغفل ولا يغيب عنا أبداً، عندها تأتي مرحلة إزالة هذه الحجب وتقريب أنفسنا من الله شيئاً فشيئاً عندما يقول القرآن: "أن نور الله يشع بصورة دائمة فيكم وفيما حولكم، لذا عليكم أن تسعوا لإزالة هذه الحجب حتى يمكنكم رؤية النور بصورة مباشرة لتصبحوا نورانيين".
إذاً لا بد من اجتياز الطريق، وإنما يمكن للإنسان طي الأصل الثاني الذي هو السير إلى الله. إذا كان قد اجتاز الأصل الأول. فإذا ما حُل له هذا الأمر، لم تكن كل أعماله تحت نظر المأمورين الإلهيين (الملائكة والحفظة)، بل كان هو بذاته وحقيقته في حضور الله، أي أن الله حاضر ومحيط بالذات وناظر لكل الأعمال، فالإنسان يسعى لأن يكون سيره إلى الله أولاً ويسارع في هذا السير كي يسبق الآخرين ويكون إمامهم ثانياً، وثالثاً، يحافظ على الخلوص في كل المراحل حتى يصل إلى الله.
ولكن ماذا يفعل السالك كي لا يعيقه شيء خلال سيره وعودته إلى الله؟ يقولون أن طريق الكمال مفتوحة، فإذا ما شوهدت من الإنسان الإرادة والخلوص فليس من بخلٍ في الجانب الآخر وعلى الإنسان أن يسعى باطمئنان كامل ليكون من المقربين كالملائكة.
فإذا كانت ورقة التوت مع التربية قابلة لأن تصير حريراً فكيف بالإنسان لا يصير مَلكاً إذا ربيَّ وهذب.
وإذا لم يهيئ الإنسان لنفسه أن يصبح ملكاً فسيكون كما قال مولى الموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه أفضل صلوات المصلين ـ في نهج البلاغة "صار جيفة بين أهله... فأسلموه فيه إلى عمله" فهذا الإنسان الذي كان بإمكانه أن يصبح ملكاً مات وأصبح جيفة ينفر أهله منه: "فأسلموه فيه إلى عمله" سلموه في قبره إلى عمله.
الويل لمن صرف رأس مال الصيرورة ملكاً في طريق الصيرورة جيفة. لقد بين الله طريق التكامل مرحلة مرحلة، كما أنه بين طريقة تقرب الإنسان منه من خلال أربع مراحل. بيّن طريقة السير نحوه وإزالة العوائق مرحلة بمرحلة حتى يعرف الإنسان أنه لا يمكن لأحد القيام بشيء إلا الله، لأنه إذا لم يدرك أن الله هو القادر على كل شيء فسيقع في المزالق.
عندما كتب أحدهم رسالة إلى الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه يطلب منه أن يعظه موعظة قصيرة، ذكر في جوابه: "من حاول أمراً بمعصية الله كان أفوت لما رجو وأسرع لمجيء ما يحذر".
إذاً، ليس أنه لا يصل إلى المحبوب فقط، بل وسيقع في فخ المكاره. فليست المعصية طريقاً يوصل إلى الهدف، فبين الإنسان والهدف يوجد صراط مستقيم، لا الطرق المنحرفة. والقرآن الكريم بيّن هذه الحقيقة مرحلة مرحلة، فلا أحد غير الله قادر على فعل شيء، ولهذا يجب على المرء أن لا يتكل على غير الله.
يقول: لا يملك أحد شيئاً غير الله، لا الأصنام ولا الأقوام، ولا العشيرة، ولا المنصب أو الجاه أو الموقع. لا أحد يملك شيئاً، ليس من شيء في عالم الخلقة غير اسم الله بنحو الاستقلال، وليس هناك زاوية من زوايا العالم في يد غير الله، وليس من ذرة من ذرات عالم الإمكان في يد غير الله على الاستقلال.
وكما أنه ليس من مالك لذرة بالاستقلال، ولا من شريك له في ذرة واحدة، فليس من معين وناصر أيضاً غير الله. ليس من شريك لله ولا من معين غيره. فكل ما سوى الله في محض الاحتياج وتحت تدبير الله.
فالذي يريد هدفاً ما ويجتاز في طريقه إلى هدفه غير طريق الله كأن يجعل المعصية وسيلة له، عليه أن يعرف أن كل ما هو غير الله سراب، فليس من مالك لذرة بالاستقلال غيره، ولا حتى بالشراكة، وليس من معين لله حتى ولو مقدار ذرة. ومن هنا فلا يمكن لأحد غير الله القيام بأي شيء فإذا ما ضلَّ المرء الطريق فلن يصل إلى شيء ما دام لم يسلك طريق الله. أما إذا سلك طريق الله فإن كل الموجودات وكل الأشخاص والمقامات تهب لمساعدته تحت تدبير الله وهدايته.
وقد أشير إلى هذا المعنى في سورة سبأ المباركة حيث قال الله تعالى: ﴿قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله﴾ ادعوهم لتروا ماذا يملكون لكم...؟
﴿لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير﴾.
فإذا ما اعتمد أحد على نفسه أو مقامه ومنصبه، فلا هو ولا مقامه ولا منصبه بمالكين لشيء في نظام الخلقة ولا حتى لذرة واحدة لا بالاستقلال ولا بالاشتراك ولا حتى بالمظاهرة والعون. ليسوا مالكين ولا يمكنهم القيام بشيء فعندما لا يمكن لأحد غير الله القيام بشيء، فلماذا يتكل الإنسان على غير الله؟ يجب على الإنسان أن طوي طريق عبودية الله وحده مباشرة حتى لا يحول بينه وبين ذلك شيء. وإذا طوى هذه الطريق، واستشهد في جبهة الحرب ضد الكفر يصبح هذا الشخص حاضراً بين يدي الله حتى لو فارق الحياة وهو يؤدي عبادته وواجبه فهو موجود في حضرة الله أيضاً، ولو مات حال خدمة الناس، كان أيضاً موجوداً عند الله وفي حضرته.
وقد بقيت مرحلة من المراحل الأربع وهي الشفاعة. فهل يمكن لغير الله أن يكون شفيعاً؟ نعم يمكن لغير الله أن يكون شفيعاً. الأولياء الإلهيون والأئمة المعصومون والأنبياء العظام عليهم آلاف التحية والسلام شفعاء (بإذن الله). وهذه هي المرحلة الرابعة.
وقد ورد في الآية 23 من سورة سبأ ﴿ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له﴾ وإذا حُل هذا المعنى للإنسان، لَم يمدّ يد الحاجة لغير الله، ولا يمد يده إلى ما نهى الله عنه ولا يلوث نفسه. ولا يضع قدمه في مكان نهى الله عنه. وعندئذٍ أمكنه أن يأمل بالشفاعة.
والحمد لله رب العالمين