فاتن إبراهيم شكر
... لقد أبدع اللَّه الكون ونظّم تكوينه وأنشأ الإنسان في أحسن تقويم وجعله محور الخلق وميّز البشر عن غيرهم بالعقل والجوارح فرسم لهم معالم الحياة والموت وتواصل معهم بكتابه المقدس "القرآن الكريم" وبالرسل والأحكام وفرّق لهم بين الفضيلة والرذيلة والسيئة من الحسنة وأمرهم بالعبادة وهي الهدف الرئيسي لتواجدهم ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ يسبّحون باسمه ويترجمون الإخلاص والامتنان له بالسجود والابتهال خضوعاً فكانت الصلاة رأس الهرم في الإسلام "الصلاة عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها" يقضي فيها المصلي لحظات من التفكر والإخلاص الكامل حتى يستقر في نفسه شعور روحي يتجرّد به من مادياته ويمنحه الزهد والفناء في دينه. فمن كرامات السجود نصر المجاهدين وهم يؤدون صلواتهم في محراب الأرض وجبينهم يسجد على التراب، ومن آثار الصلاة الشعور بالقرب من اللَّه والخضوع له والإقرار بعبوديته إضافة إلى آثارها كمهذب للنفس ومطهّر لها وهي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.
* آثار الصلاة على النفس
ترتبط قيمة الصلاة بالآثار المعنوية التي تتركها على نفوس المصلين: حسين الذي اعتاد أن يكون واقفاً على "سجادة الصلاة" عندما يعلو صوت الأذان يقول إن الصلاة تعكس على نفسيته حالة من الهدوء والسكينة. والحاجة زينب وهي امرأة مؤمنة تتخذ لنفسها حجرة خاصة للصلاة وغالباً ما تخلص للتعبّد في الهواء الطلق مضيفة إلى صلاتها الواجبة مجموعة من الصلوات المستحبّة تعزز الصلاة في مكنونات نفسها شعوراً بالخوف من الآخرة والرغبة في التقرب إلى اللَّه. أما نادين تلميذة مدرسة فهي لا تقطع فريضة مع أنها ليست محجبة، وصلاة الصبح عندها أفضل الفرائض فهي تقوم باكراً وتؤدي صلاتها وتقرأ بعدها الدعاء لها ولأهلها وتدعو اللَّه لأن يوفقها في امتحاناتها ويبعد عنها شبح الرسوب في السنة الدراسية. كذلك سارة التي التزمت حديثاً وتعاني من مضايقات عائلتها التي تتصف بانعدام الالتزام الديني لها اعتبرت أن للصلاة كرامات مقدّسة في حياتها وهي دائماً تدعو أن تتغير أوضاع عائلتها وهذا ما يحصل.
وبرأي الحاجة أم أحمد أن الصلاة "صلة وصل بين الخالق والمخلوق، وهي المعراج إلى اللَّه كما يقول الرسول صلى الله عليه وآله، وهي تؤثر على الأخلاق فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. والصلاة هي حديث مع اللَّه فإذا أراد الإنسان أن يخاطب ربّه فليصلِّ وهي تؤثر في النفس وتصونها وتزيد التقوى والتواضع وهي منطلق لخدمة الناس والاهتمام بشؤونهم". وحول مكانة الصلاة على قلب المؤمن حدثنا السيد حسن شكر عن الأثر التي تفرضه هذه العبادة: "ترقى الصلاة من كونها حركات بدنية فقط إلى أعلى مراتب الكمال وتحط عن نفس الإنسان الأوزار وتنزع عنها الأغلال ومن ثم تنهاه عن ارتكاب المآثم وتمنعه عن اكتساب المحارم، وما نتحدث عنه من فوائد للصلاة لا تحصل إلاّ إذا كانت الصلاة بمعناها الحقيقي. فإذا وقف العبد بين يدي اللَّه فليقم مقام الذليل ... الراغب الراهب الراجي الخائف المسكين المتضرع بالسكون والوقار ويقيمها بحدودها وحقوقها فقد ورد عن الصادق عليه السلام: إن اللَّه تعالى إذا اطلع على قلب العبد وهو يكبر وفي قلبه عارض قال: يا كاذب أتخدعني وعزتي وجلالي لأحرمنك حلاوة ذكري، ولأحجبنك عن قربي واللذة بمناجاتي. ولإحدى المهتديات تعبير خاص حول الصلاة: "لقد استقطبني في الإسلام الصلاة ففيها روحية تنظيم الحياة عندما يرتّب المصلّي أعماله حسب أوقاتها والذي دفعني لأتعرف على رهبتها هو نموذج الإمام علي عليه السلام فكيف لإنسان يضرب حتى الاحتضار ويعم الوجع أرجاء جسده ويكمل صلاته؟ إن صورة الإمام هذه تثير حقيقة مكنونات هذه العبادة وبماذا كان يتمتع ويأنس حين يقيم ركوعه وسجوده والألم يسري في بدنه الشريف فعلى المؤمن أن يعيش أثناء الصلاة حالة التجرّد ويسلّم بروحه وجوارحه إلى الخالق الأعلى بقدر إمكانه".
وعن الصلوات المستحبة حدثتنا الحاجّة ندى بقولها: "صلاة الغفيلة والوتيرة والصلوات الخاصة بالمناسبات كليلة الرغائب وليالي القدر لها كرامات لا تحصى عند اللَّه يجلل بها من يأتيها وبها يقضي اللَّه حوائج الإنسان في الدنيا والآخرة".
* الصلاة في بيت اللَّه
زيارة المساجد التي تعتبر حصن الجهاد الأكبر لها آثارها على حياة المؤمن، فبرأي أحد المجاهدين إن صلاته في المسجد أفضل من صلاته في ساحات المواجهة. وهادي شاب في العشرين من عمره لا يؤدي فريضة الصلاة إلا في المسجد، وعند سؤاله عن الفرق بين الصلاة في البيت أو في المسجد يؤكد أن الهدف هو أداء الواجب بإيمان عميق ولكن النفس تطمح إلى الأماكن التي يمجّد بها ذكر اللَّه وهو إضافة إلى ذلك يفتخر بأصدقائه الذين تعرّف عليهم من خلال اجتماعهم في الصلاة ويعتبرهم من المؤمنين والأخيار. "ساجد" الذي كان اسمه "فيكي" قبل أن يعود من بلاد الغربة بمظاهر غربية وعادات أوروبية ليعيش بين أهله الملتزمين. أخذ يذهب بمرافقة أخيه إلى المسجد وهناك تعرّف على عدد من المهتمين والمرشدين له مما خلق منه إنساناً آخر لا يترك فريضة ولا يجهل حكماً شرعياً وقد دفع جزءاً من أمواله تبرعات لجامع بلدته كي يسهِّل أموراً كثيرة للمصلين.
* الصلاة بناء لشخصية المسلم
عن الرسول صلى الله: "ما من صلاة يحضر وقتها إلا نادى ملك بين يدي الناس قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على ظهوركم فاطفئوها بصلواتكم" فاللَّه أولى الاهتمام بالصلاة بكل جوانبها: بآثارها وأهدافها ومواعيدها وأسرارها في الدنيا والآخرة ففي الدنيا تنهى النفس عن ارتكاب المنكر وفي الآخرة تسقط العقاب "أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات". يتحدث مدير معهد المعارف الحكمية الشيخ شفيق جرادي عن فضل الصلاة وآثارها "إن الصلاة هي واحدة من الأصول الفرعية التي عدت في الروايات وعند الفقهاء أنها مما بنيَ عليه الدين لذا جاء في الحديث الشريف "الصلاة عمود الدين" وكما اعتبر الفقهاء أن المنكر لضرورة الصلاة كافر وحكمه حكم الخارج عن دين اللَّه بالتالي فالالتزام بالصلاة هو التزام بحكم شرعي فرضه اللَّه تعالى على المكلفين وترك الصلاة هو ترك لهذا الأمر الإلهي وهو من المحرمات الكبرى ولعل الأمر يعود إلى جملة من الأسباب:
أولاً: تعتبر الصلاة أوضح وأعظم وجه لاعلان العبودية والطاعة للَّه وهي تربي المسلم على سلوك درب العبودية.
ثانياً: ما أشارت إليه الرواية عن الرسول صلى الله عليه وآله: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر والبغي فلا صلاة له، فهذا يعني أن الصلاة تأخذ دوراً مركزياً في بناء الأخلاق والسلوكيات الإسلامية.
ثالثاً: بسبب ورود الكثير من الروايات حول فضل الصلاة جماعة فإننا نتلمس من ذلك إرادة من المولى تريد أن تربي فينا روح الجماعة من خلال هذا العمل العبادي الجماعي "الصلاة" فالصلاة إذن هي بناء عبادي وأخلاقي وسلوكي وسياسي للفرد وللجماعة المسلمة".
كل فرد يدرك معنى الصلاة يشعر بآثارها تتجسد في نفسه صفاءً روحياً وقرباً من اللَّه تعالى وتقوى وحرزاً من كل إثم ومعصية إلى غيرها من الآثار الكثيرة وهناك مثال على آثار الصلاة عند الأسرى الذين تحملوا صعوبة المعاناة بالدعاء والصلاة والتسابيح والأذكار وتقبلوا الواقع بكل رحابة صدر، ويعتبر أحدهم أن كل خطوة في سجنهم تميّزت بالعبادة والقبول بالمصير الذي كتبه اللَّه وهذا من فضل الطاعة والصبر وأسرار العبادة وخصوصاً الصلاة فليس الدين بالركوع والسجود فقط بل العبادة تتمثل بمجاهدة النفس وهي الجهاد الأكبر والرضى بأمر اللَّه، وبمعنى آخر العبودية المطلقة وربط حياة البشر بخالقهم.