الشيخ نجيب صالح
لا بُدَّ من الوقوف على نظرة الإسلام للإنسان ومن ثم نظرته للحياة الدنيا التي يعيش فيها هذا الإنسان والتي هي مسرح وميدان عمله وهو المكرَّم من ربه كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾.
* نظرة الإسلام للإنسان
نظرة الإسلام للإنسان كما مر في الآية الكريمة هي أنه مخلوق مكرَّم مفضل على جميع المخلوقات المادية، استخلفه اللَّه تعالى في هذه الأرض ليعمرها، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة﴾ (البقرة/30). وقوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْض﴾ (النمل/62). هذا وقد هيأ له الأسباب والسبل ليعيش بحياة كريمة فجعل له الأرض ذلولاً ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾(الملك/15). وقد سخّر له ما في الأرض والسماء لخدمته ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَة﴾ (لقمان/20). والإنسان مركب في حقيقته وتكوينه من جسم، وروح، وقد أشار القران الكريم بوضوح لذلك ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ (السجدة/8 9). وانطلاقاً من ذلك كان لا بُدَّ من الارتباط والتواصل والتفاعل في كلا جانبي الحقيقة الإنسانية أي المادة والروح مع المبدأ والأصل، فالروح نفحة من اللَّه في أبداننا فكان لا بُدَّ لتهيئة الظروف وتيسير السبل للعودة بها إلى بارئها مطمئنة قال تعالى: "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية". والجسم المخلوق أيضاً من المادة الأرضية والكل يعود إليه سبحانه ويرجع، وهو ضروري ليستمر حاملاً لهذه النفس وقد تقدم أن القران الكريم قد أوضح ذلك جلياً بحيث أن الإنسان لا يستمر إلا بما هيأ له اللَّه من متاع في هذه الدنيا ليعيش كريماً فيها، لكن نجد أن نظرة الإسلام والآيات خاصة تريد لهذا الإنسان أن يعيش التوازن بين روحه وجسده وبعبارة أخرى أن يعيش ويأكل ويسعد فيها ضمن ضوابط محددة على صعيد ما يحل وما يحرم عليه، وهكذا في كافة ما يحتاجه، أراد له الاستمرار ليتناسب مع خلقته المادية...
* التوازن بين حاجات الروح والجسد
هنا يطرح سؤال مهم عن الحالة التي يجب أن يعيش فيها هذا الإنسان، وهذا ما بينته الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة بشكل مُفصَّل لأن الدنيا التي نعيش فيها هي طريق للآخرة ومزرعة لها حسب ثقافتنا الدينية. وهنا لا بُدَّ من بيان الرؤية الإسلامية للزهد والتجمل وكيف يجب أن يكون الإنسان المسلم؟ وكيف يكون الإنسان زاهداً؟ وماذا عن التجمل والتزيين، هل يجب التخلي عنه؟ للوهلة الأولى عند مراجعة الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة في هذا المجال؛ يظن أحدنا أن هناك تناقضاً فيها إذ بعضها يدعو إلى الزهد والذم لهذه الدنيا بحيث تشعر أن على الإنسان التخلي عن كل شيء من أجل روحه وآخرته، وبعضها الآخر لا يرى أن الزهد هو بترك الدنيا كما عبَّر عن ذلك أمير المؤمنين د: "وليس الزهد أن لا تملك شيئاً إنما الزهد أن لا يملكك شيء" والأول هو الشائع في فهم الزهد في ثقافتنا، ولكن سيأتي أن الأمر ليس كذلك لأن الدعوة إلى ترك الدنيا بالشكل السلبي ستؤدي حتماً إلى الإضرار بالإنسان واستمراره واستخلافه بل والغاية من خلقه لأن هناك تلازماً بين الضرر الدنيوي والأخروي بناءاً على تعطيل مواهب الإنسان من إعمار وبناء الأرض ليصل إلى اللَّه، من هنا لا بُدَّ من معالجة أحاديث الزهد ومقارنتها بعضها مع بعض لو كان ظاهرها التعارض وينطبق هذا الأمر أيضاً على التجمل والأخذ من هذه الدنيا. وعلى ضوء الفهم الحقيقي للزهد والتجمل، نستطيع أن نخرج نتيجة واضحة وصريحة ورؤية إسلامية، بأن الإسلام أراد من الإنسان التوازن الحقيقي بين حاجات روحه وحاجات جسده ولإبقاء للروح والنفس من غير إعمار الجسد ولا بقاء لهما معاً من غير الاستفادة من هذه الدنيا بما فيها، لكن من دون إفراط وتفريط، فهو يريد لنا الوسطية في تعاملنا مع محيطنا المادي. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ (البقرة/172).
* دنيا المؤمن غير دنيا الكافر
ثم إن هناك أمراً مهماً في الرؤية الإسلامية للدنيا وزينتها وطبابتها وهي أن هذه الأمور التي بها قوام الإنسان وحياته وقد سخِّرت له لا بُدَّ أن تكون طريقاً إلى الحياة الأبدية الحقيقية وهي الآخرة، وبمعنى آخر إن النظرة الإسلامية للدنيا هي أنها ليست هدفاً وغاية بحد ذاتها، بل هي طريق لمرضاة اللَّه تعالى، تعينه على طاعة ربه لا أن يخلد إليها ويؤلهها ويعبدها من دون اللَّه تعالى، وبناءاً على ذلك تتفاوت درجات الناس في التعلق بها والركون إليها أو الأخذ منها أو تركها، ونستطيع القول هنا بأنه لا يوجد دعوى إسلامية للمسلمين بترك الدنيا لغيرهم، نعم هناك وضوح كما سيأتي في الآيات الكريمة والروايات الشريفة، بترك التعلق والتفريط بذلك بحيث تصير الدنيا هدفاً وغاية للمسلم، بل أؤكد أن النظرة الإسلامية هي أن يكون الإنسان متوازناً غير مفتونٍ أمام ملذاتها وشهواتها، بل تكرر التوجيه أيضاً في عدم الاستغراق الشديد حتى في مباحها وحلالها لأنه قد يؤثر على المؤمن من حيث لا يشعر في سلوكه إلى اللَّه. وفي الحديث عن الزهد بداية في الآيات الشريفة والروايات، تجد أن في بعض الآيات الكريمة ذم لهذه الدنيا ووصفها بالمتاع واللهو واللعب كما قال تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (الأنعام/32). وفي المقابل نجد في آيات أخرى الدعوى إلى الاستفادة منها بالأكل وغيره ولا يقول قائل هذا تضاد وتناقض في كتاب اللَّه. كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ (البقرة/168) وأيضاً: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ (الأعراف/32). وغيرها من آيات كثيرة لأن اللَّه تعالى عندما دعا إلى الأكل والشرب حدد حدوداً، لذلك فيما يحل وما يحرم وطلب معرفة خالق الأكل والشرب، فحين المعرفة والانضباط في حدود الحلال والحرام لم يعد من الدنيا المذمومة، والدنيا المذمومة هي لأولئك المنكرين والعاصين والكافرين بنعم اللَّه تعالى وهؤلاء قال لهم المولى تعالى: ﴿كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ...﴾ (المرسلات/46) في الوقت الذي يحذر فيه المؤمنين دائماً منها لكن هي لهم ذخر وزاد للآخرة مع الشكر والالتزام بتعاليم الإسلام في الحلال والحرام وبذلك نخلص إلى نتيجة من مجموع الآيات الكريمة.
أولاً: التحذير من الدنيا للمؤمن والكافر.
ثانياً: دنيا المؤمن غير دنيا الكافر، فدنيا المؤمن للآخرة ودنيا الكافر والعاصي هي المذمومة لأنها معبودة وغاية بنفسها.
ثالثاً: ليس الذم لها يعني الترك الكلي وعدم التنعم والتمتع فيها، بل هو الركون إليها وإلا ماذا نفعل بكثير من الآيات الداعية إلى الأخذ منها والأكل والشرب والتزين وغير ذلك؟...