نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

قلاع الوعد الصادق‏: بنت جبيل‏ مدينة تحكي النصر

إعداد: حسين منصور



"هتفتْ بنت جبيل: لبيك يا نصر اللَّه... فاحترق بيت العنكبوت". لعلي لا أبالغ إذا قلت إنّ بنت جبيل هي مدينة العجائب والمعجزات... مدينة تبني حجارتها هذا التاريخ... لهذا الزمن... لقد سمعتها تهتف من بعيد: لبيك يا نصر اللَّه... فاحترق بيت العنكبوت... قالت لنا: أنا المطر المتساقط على مدن الرماد العربية... لأنسج لها رداء الإباء... فوصل الصوت، وتغيّر الزمن... وتداعت الأمم، وعلا عواء الذئاب، وآلهة الأرض الجديدة... وشيطانها الأكبر... فارتدت بنت جبيل حلّة الأرجوان من النجيع... وحملت الوعد... وراحت تستفيق على رفرفة النصر آتٍ... آتٍ... آت، ورفعت أكمام عباءتها... فلن يدخل السهم إلى جسدها، ففيها شعاب من مكة... فيها أُحدٌ... أُحدٌ... أحد فيها، جواد عيتا والحاج قاسم وراني... فيها المربع تحميه المشاعل، فيها آخر حبة للمطر في غابة الزمرد... فيها ترتفع الهامة بعيناتا وبيت ياحون... فيها القلب من مارون الراس وعيترون، فيها الملعب والراية... وفيها كانت الحكاية... كل الحكاية...

* ستبقى راية النصر مرفوعة
وصلنا إليها وقصدنا رئيس اتحاد بلديات بنت جبيل الدكتور علي بزي. سألناه عن عاصمة التحرير ماذا تعني لكم اليوم؟ فقال: "إنها تعني النصر... اليوم وكل يوم... لقد اكتسبت هذه الصفة الجهادية من سماحة الأمين العام السيد حسن يوم خطب في ملعبها... وأصبحت منذ ذلك اليوم مدينته... وإن كان العدو قد استمات ليرفع راية في ذلك المكان فلم يفلح... ولجأ كعادته إلى الانتقام من حجارتها وبيوتها القديمة... لكنه لم يتمكن من النيل منها أو الدخول إليها... وصار يخاف ويرتعد من شي‏ء اسمه "حزب اللَّه" والمقاومة... ولم يفهم أنه يواجه مدرسة حسينيّة عريقة...

وهذا النصر الذي حصل، جعلنا نحقّق نصراً ثانياً، عندما رجعنا فوراً... وفتحنا بيوت المغتربين أمام أهالينا الذين دمرت بيوتهم... ومن الطبيعيّ أن يتأثر الإنسان، لكنه عندما يرى هذا النصر العظيم... وذلك الدم الطاهر الذى ضحى... فإنه يتساءل: وماذا قدمت أنا في المقابل أمام الكرامة والعزّة؟ ماذا يساوي البيت والحجر إزاء ذلك كلّه؟ لذلك ستبقى بنت جبيل تحمل هذا العنوان... لكن المطلوب اليوم وقبل كل شي‏ء إعادة البناء، لأننا بذلك نضيف إلى مفكرتنا نصراً آخر. وكما فعلنا من أول خميس، حيث أعدنا سوق بنت جبيل للعمل، وأثبتنا أننا شعب خلاّق... يحب الحياة مع الشهادة والعزّة... وبهذه المناسبة أوجه التحية من كل قلبي إلى صاحب الوعد الصادق... كما أتوجه بالتبريك للشهداء وأهالي الشهداء... فلولاهم لما حصل هذا النصر... وإلى شعبنا العظيم الذي وقف إلى جانب المجاهدين، ونحن اليوم هنا بأرضنا متشبثون... وعلى العهد باقون...".

* اليوم.. أشد عنفواناً
ثم زرنا مختار الحي الغربي، فقال: "لم أشعر بالخوف رغم ضراوة القصف... ونظراً لحالة الشلل التي أعاني منها، فضّلت أن أغادر البلدة فيما عرف بيوم الهدنة... وتركت فيها جزءاً من نفسي... تركت فيها ولدي "علياً" الذي قال لي: لن أترك بنت جبيل وسأبقى فيها، لأدافع عنها وأحميها... وسأكون هنا بالانتظار، فلن أسمح لهذا العدو أن يدنّس أرضي، أو أن يدخل بيتي ولن أغفل عنه"... ثم يضيف: "لقد اتصل بي ولدي في الأسبوع الأخير، قال: متى ستزورني؟ فعرفت أنه أصيب وأنه موجود في مستشفى جبل عامل ثم نقل إلى بيروت... فإصابته كانت في الخاصرة والقدم وبعض أنحاء جسمه.. لكن الحمد للَّه الذي نصر هؤلاء المجاهدين... فبعد أن عدت وشاهدت الدمار أيقنت أنّ ما حصل هو نصر إلهي... وأن بنت جبيل ظلت منيعة وشامخة ولم تهزم...".

بعد المختار انتقلنا إلى مبنى مهنية بنت جبيل وقابلنا مديرها الأستاذ غسان بزي الذي واجهنا بثورة هادرة، قال: "أنا أفهم أن الطالب الذي يجد ويتعب ثم ينجح بعد الامتحان من حقّه أن يتنعم بحلاوة النجاح... ولكن ما لا أفهمه أن أرى هؤلاء الناس المستضعفين الذين شاركوا هذه المقاومة تضحياتها وكانوا حماة لها... وواجهوا وحشية إسرائيل... وتحملوا كل المعاناة... يختنقون من وحوش السلطة التي جعلت عملية إعادة الاعمار بطيئة... بل مشلولة، وكأنها تريد أن تحقّق ما عجزت إسرائيل عن تحقيقه... أوَلم يفهموا بعد أن المقاومة أرست معادلة جديدة... وأنه لم يعد دم اللبناني مباحاً وما عادت كرامة اللبناني مباحة، وأنه صار هناك رادع لكل ظلم من أية جهة أتى... وأننا اليوم أكثر كبرياء وكرامة وأشدّ عنفواناً...!؟ وهذا دفعنا ثمنه التضحيات والدم والأرواح. فعندما نعيد بناء بنت جبيل، فإننا نملأ صفحات التاريخ لكتاب تقرأه الأجيال بكلمات العزّ والانتصار... ولنرفع الظلم عن كل إنسان لا يستطيع أن يرفع صوته...".

* الشهادة فخراً وانتصاراً
غادرنا المهنية إلى مكان قريب، فالتقينا زوجة الشهيد علي جمعة، كانت تلاعب أطفالها... فاطمة وحسيناً وعلياً الصغير... قالت: "لقد كنت على استعداد منذ أيام الحرب الأولى لأكون زوجة شهيد. هذه الشهادة أعطتني فخراً وعزّاً... فهكذا يكون الأبطال... ولقد تغيّرت حياتي كلّها... لكنني أشعر أنه ما زال قربي، أتذكر كلماته: لا تخافي من اليوم الذي أستشهد فيه... كوني كأهل البيت (ع)... وستكون عوائل الشهداء في أمان اللَّه ورعايته... طلب مني الصبر والتماسك، وأن أبقى قوية وأشعر بروعة النصر، وأن أكمل المسيرة... واليوم بعد سنة... صار هو عند ربه... حيّاً يرزق بغير حساب... في النعيم الأبدي... وترك لي الكرامة والعنفوان، ودمه الذي يتدفق في عروق الأمة... لكي يشعل جمرات الشوق إلى الجهاد، فلا ننساه... أسأل اللَّه أن يرزقنا شفاعته، وأن نزداد قوة ونصراً، طالما هناك قائد أمين مؤتمن على دماء الشهداء، ويقود هذه المسيرة... وإن شاء اللَّه يأتي ليحتفل معنا بأيام النصر والعزّ...".

* المشهد الكربلائي
وأخيراً، وصلنا إلى المكان الذي كان ينتظرنا فيه بعض الإخوة المجاهدين... بادرتهم قائلاً: لقد صنعتم لنا المعجزة، في زمن كنا نبحث فيه عن المعجزة... فكانت بنت جبيل هي المكان... وكنتم الإرادة الإلهية التي حقّقت هذه المعجزة التي لن تتكرر إلا بعد دهر، فكيف سارت الأمور؟ وما الذي جرى؟ وأين نحن اليوم؟

قال أحدهم: "في اللحظة التي صدر فيها بيان "حزب اللَّه" معلناً عن عملية الأسر... كانت الجهوزية الميدانية قد تمت. وفي الحقيقة لم نكن نتوقع تصعيداً كالذي حصل... إلا أنه مع مرور الوقت، بتنا نشعر بذلك التخبط العشوائي في نوايا العدو وخطواته... وصارت الأمور الميدانية تتحكم بمسار الأمور على الأرض... ومن ناحيتنا، كنا نعمل ضمن خطة تتواصل فيها الجبهة كلّها... لكن تتفاوت بين قرية وقرية حسب الامكانات المتاحة، فكان تواصل القيادة مع كل العاملين على الأرض قائماً حتى اللحظة الأخيرة من الحرب، بدليل إطلاق ثلاثماية وخمسين صاروخاً دفعة واحدة وبنفس التوقيت رغم الحصار الجويّ، والذي كان فاشلاً في تحقيق إصابات دقيقة، لأنه كان يقصف من مسافات بعيدة".

هنا، يشارك مجاهد آخر في الحديث فيقول: "كنا نتوقع كل تحرّك للعدو، ولقد التقيت الشهيد القائد خالد بزي في اليوم الثاني من الحرب، قال لي: إعمل حسابك يا حاج... حرب تموز استمرت سبعة أيام، وحرب نيسان استمرت ستة عشر يوماً، فلذلك، لن تعوّل على أول ستة عشر يوماً، كانت الخبرة والمعرفة بهذا العدو موجودة عند كل الإخوان... وعندما عرفنا باستشهاد الحاج خالد، حصلت حالة شحن عجيبة، وكأنّ دماً جديداً قد زاد في العزيمة والمعنويات، وهذه الأمور لا تفسّرها العلوم العسكرية والحربية". سألته: ماذا تقصد؟ أجاب: "أقصد المدد الغيبي... كان هناك ما قد تولاه اللَّه عنا". وأضاف: "أعتقد أنك تجوّلت في بنت جبيل وشاهدت حارة آل جمعة التي دمرت بشكل كامل... والمنطق يقول: إنه لم يبق فيها أيّ أثر للحياة... وإذا بالعدو يفاجأ بمجموعة من الإخوان يخرجون من بين هذا الدمار، وتمكنت من أن تستمر وتواجه...".

ويبدو أن إثارة هذه المسألة لفتت أحد الإخوان فقال: "كنا ثلاثة ونحن نستمع إلى الكلمة التي وجهها سماحة الأمين العام إلى المجاهدين والتي وردت فيها مفردة: "النصر... آت.. آت... آت". لا تتصوّر كم كان لهذه الكلمة من أثر معنويّ ونفسيّ، كانت كأنها اليقين، رغم أن الصورة لم تكن واضحة... إلا أننا نعرف أن سماحة السيد يملك كل المعطيات وكل المفاجآت التي وعد بها... فصرت تسمع كلاماً من الإخوان يقول: لا يهم بعد الآن كم ستطول هذه الحرب، وآخر يقول وهو يتوجه للرمي: هنيئاً لكم... قد أستشهد، لكنكم ستنعمون بنعمة النصر... ومن هذه الكلمة صار المشهد كلّه كربلائياً... صرت ترى المجاهد يقتحم الموت على الموت بالموت... هذه الثقافة التي تخالف كل منطق الدنيا... صرنا نسمع على الأجهزة؛ يا فلان... إنّ قدمي الآن هي على رأس الضابط الإسرائيلي... يا فلان، لقد دمرت الدبابة الأولى والثانية والثالثة... يا فلان، لقد صددنا محاولة تسلل عند كرم الزيتون... كان الإخوان يسمعون ذلك على أجهزتهم... فتدب فيهم الحماسة وترتفع التكبيرات والمعنويات، تحسّ بشي‏ء غير طبيعي يحصل... تتذكر أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، وتفتخر أنك من أصحاب "سماحة السيد حسن"، وأنك لم تطلب أمور الدنيا، ولم تجعلها هاجساً، وأنك تطلب إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة...

وهكذا جرت الأمور، وبدأ الإسرائيلي ينتظر المفاجآت... وبدأ يخسر... الميركافا... والمروحيّ... والعسكر.... والمعنويات. أغلقت بوجهه كل أبواب النصر، وفتحت له كل أبواب الهزيمة يعبر منها كيف يشاء... ولم يتمكن حتى من أن يحقق نصراً وهمّياً... ولو كان بالتقاط صورة مع العلم في ملعب بنت جبيل. لقد ضاع الإسرائيلي تماماً... حتى أن بعض جنوده سارعوا إلى الهرب عائدين نحو الحدود... وهكذا سقط هذا الجندي الإسرائيلي الأسطورة، المدجّج والمدرب والمؤهل بشكل يوميّ... لقد اكتشفنا أنه كان وهماً... كان قطعة من كرتون... سقط أمام بعض الإخوة المجاهدين، الذين يملكون القليل من الخبرة والتدريب، وليسوا خريجي المعاهد العسكرية العظيمة... لكنّ اللَّه كان يسدد ويُيَسِّر... وهذا ما أدهش العالم... وهذا ما كان يحصل، عندما يكون هناك إخلاص للَّه سبحانه وتعالى وثقة به وتوكل عليه".

يتوقف عن الكلام مطرقاً إلى الأرض متأملاً، وكأنه يستعيد تلك الصور والمشاهد التي تحدّث عنها، وكأن عينيه اغرورقتا بدموع العز والفرح، فيتحمس مجاهد آخر ويقول: "كنت في محور المستشفى محتمياً من القصف، عند مدخلها، وكان ينعكس ضوء في الممر يسمح بالرؤية... وإذ بي ألمح حيّة ذهبية اللون، ورأسها أسود تأتي من الشارع وتتجه صوبنا... اقتربت منها، ووضعت قدمي على رأسها وفركته... وقلت للأخ الموجود بجانبي: أنظر هذه الحية عدو، والإسرائيلي سيأتي الليلة، وإن شاء اللَّه سندوس رأسه ونطحنه كما فعلت بتلك الحيّة... وبالفعل حصلت مواجهات شرسة، لم يترك الإسرائيلي شيئاً لم يفعله، ولا سلاحاً إلا واستخدمه... لكنه فشل وتقهقهر وانهزم... وانتصرنا على كل الذين ظلمونا، واعتدوا علينا وعلى قرانا وبيوتنا وأطفالنا... وجميل أننا سمعنا عبارة "الوعد الصادق" وعبارة "النصر الإلهي"، وهذا حقيقي بالفعل... فبتوفيق من اللَّه عزَّ وجلَّ... وبدماء شهدائنا العظام هذا الدم جعل لهذا النصر طعماً خاصاً... وجعلنا نشاهد تلك المرأة التي قالت: أنا بيتي هنا راح... وبيتي في الجنوب راح... كلّه فداء للمقاومة... هذه هي الصورة... وهذه هي الحقيقة، وهذه هي الحكاية التي تتبعنا وتصل إلى قلوبنا... فلن يرهبنا هدير طواحينهم... فنحن اغتسلنا من ماء كربلاء وتنفّسنا من ترابها الهواء... وأمّا الذين اتهمونا بالمغامرة فلن يجدوا لوجوههم ماء... حتى مطر السماء... حتى مطر السماء...".

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع