حسين منصور
عند مربع التحرير، دخلنا مع الداخلين إلى قاعة الشهداء، في بنت جبيل. يتسابق الجميع للتحلّق حول "الشجرة المحتَطَبة" التي أقلقت العالم المتحضر، فكان كل واحد من الزائرين تعلوه الدهشة والذهول. وأمام المقولة الشهيرة والعظيمة لشيخ الشهداء راغب حرب رضي الله عنه "دم الشهيد إذا سقط فبيد اللَّه يسقط، وإذا سقط في يد اللَّه فإنه ينمو"، تتسمّر العيون بتلك الشجرة المحتطبة... شجرة أحرار هذا العالم... شجرة أوراقها أسماء... وأسماء... لها مع العشق الإلهي كل الحكاية... تحتار معها... أهي نسمة الغيب إلينا في هذا الزمن الحار؟!... أم هي رجاؤنا إلى عالم الغيب في هذا الزمن المظلم؟...
وتتساءل وأنت ترى بعينيك حقيقة لا يمكن أن تنكرها أبداً: من أين خرجت تلك البراعم النضرة؟ هل خرجت من أنفاس الأرواح التي جاهدت بصبرها وثباتها وإيمانها وإخلاصها فكشفت تلك الشجرة المحتطبة عن نفسها أمامنا بعد أن سمعت كلاماً مقيتاً ورفضاً لذلك النصر الإلهي؟ قد لا أكون أملك المعطيات العلمية والتفسيرات البرهانية، لأثبت أو أنفي ما رأته عيني حقيقة، ولكن في نفس الوقت لا أريد أن أكون جاهلاً متنسِّكاً ولا عالماً متهتِّكاً... ولكنْ، حين يكون رأيُّ أهل الخبرة، أنّ الشجرة المحتطبة قد يكون بقي فيها شيء من الرطوبة، فلربما يظهر على جذعها ما نسميه "الخزيز" وهو نوع من الطفيليات، ثمّ لنفرض أنّها ظلت رطبة... لكن بعد أن حُرِّقت وتمَّ طلاؤها... تصبح إمكانية تبرعمها ضعيفة جداً. وحتى لو تبرعمت، فإنّها سوف تذبل حكماً بعد مضي خمسة عشر يوماً... بينما براعم شجرتنا قد تجاوز عمرها الأربعين يوماً، حتى كتابة هذه السطور، وهذا أمر غير ممكن... ومع هذا الاحتمال الضعيف ونتائجه المتوقعة، يظهر لنا أنّ نمو هذه البراعم، كان بتوفيق إلهي وأنّ بقاء أوراقها نضرة وخضراء دون أن تذبل، هو فعل إعجاز... وأضيف وأشير إلى أنه لم يحصل أمر مماثل لبقية الأشجار التي احتطبت في نفس الفترة الزمنية... ولذلك فإن ما رأيت كان شجرة محتطبة منذ فترة ومتبرعمة بوهج الشهداء وحضورهم. أعتقد بكل بساطة أن هذه الشجرة هي رسالة لنا كي نعلم موقعنا في هذه الحياة بعد أن تخلّت عنه الأمة... وأن نعرف كيف نحدّد عدونا وكيف نواجهه... وما هو الثمن... وكيف تكون النتيجة...
وهذه أسئلة قد تجيب عن نفسها... هل هناك من نذر أن يحتطب حتى يحرق نصر هؤلاء الشهداء ودماءهم، فكانت تلك البراعم هي الرد الإلهي على أشكال الظلم والافتراء والبهتان؟ هل ارتأى الشهداء من عالمهم بكل جماله وكماله، أن تكون هذه الشجرة وسيلة لجلب هذا الزحف الإعلامي المحلي والأجنبي المتنوع والكثيف... حتى ينقل الحقيقة... حقيقة من قتل إنساننا وذبح أطفالنا وشيوخنا... ودمّر بيوت الآمنين، بالأسلحة الأمريكية الذكية؟ ثم بعد ذلك، كيف نحتفل بشهدائنا ونسعد بهم ولهم؟ أم هل تكون الشجرة رسالة تأنيب لضمير العالم المنحاز والغائب بل والميت؟... وهؤلاء الناس الذين يتوافدون من مسافات بعيدة، ومن دول عديدة... ليروا ويشاهدوا تلك الشجرة وبراعمها... ويطوفوا حولها ويتبرَّكوا بها... أوليس انجذابهم إليها يحصل لأن البعض تناول الشهداء بالأذى، وتناول انتصارهم بالتشكيك... فأتوا ليؤكدوا أن علاقتهم بهؤلاء الشهداء، هي علاقة التفاني والذوبان؟... وأن السِّرَّ بين أيديهم... سرَّ الكرامة بين أيديهم... فأناروا الطريق بالصدق والإخلاص للَّه... وبهذا، يمكن دائماً أن نفوز ونرى النصر؟!... أوليست الشجرة بهذا المعنى، هي رسالة لإنساننا وإنسان أمتنا ليتعلم كيف يقرأ ويكتب: "إن القتل لنا عادة وكرامتنا من اللَّه الشهادة" وأننا بذلك نختار طريق العزّ والجهاد والتضحية في سبيل اللَّه... وفي سبيل كرامة أمتنا وعزّتها؟... وهذه ليست خطيئة، وليست حسرة كبرى كما يصورها المتقاعسون والمتهالكون على هذه الدنيا... هل تبرعمت هذه الشجرة المحتطبة لتشدّ من عزيمتنا وإرادتنا فلا نتراخى أو نتهاون؟ ولا نشعر أننا غرباء عن انتصارنا ومقاومتنا، طالما نحن ندافع عن حقوقنا بثبات وبتوكل على اللَّه... فنغيّر كل الموازين المفروضة؟!... أو تكون تلك الشجرة المتبرعمة هي المعول الذي يحرث وحشة أرواحنا وفراغها في هذا العالم الذي يملأنا ألماً وظلماً... وينخر أجسامنا... ويأكل لحومنا... ويمتص دماءنا... ويطمع في حريتنا... لنكون أمة بلا عواطف ولا رغبات... ولا طموح... ولا إرادة ولا أمن... لنكون أمة جرداء بلا زرع... بينما نحن نعيش غليان وحشة "الانتظار"... وأنسها وطمأنينتها... نعم، لقد شعرت وأنا أطوف حول تلك الشجرة المحتطبة والمتبرعمة، أنها رسالة الشهداء للأمة. ولهذا إنّ ما رأيته هو حقيقة، وإن حقيقته تكمن في أنّ هذه الشجرة هي شجرة الأمانة الكبرى للدنيا والآخرة... وبعد، لا أدري وأنا أغادر القاعة لِمَ تبادر إلى ذهني نبيّ اللَّه إبراهيم عليه السلام، وقد احتشد الناس بعد أن جمعوا حطبهم ليحرقوه... "فقلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم"!؟