مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قلاع الوعد الصادق‏ الخيام‏: بسمة على شفاه عاملة

حسين منصور

 



كان موعدنا مع "الخيام" على ترانيم فراشات الحقول وتسبيح الأزهار. عقدت الخيام عزمها أن لا تعيش في غربة، بل أن تنطلق في موكب الأحرار... استقبلتنا عند مدخلها صورة كبيرة للشهيدين وقد هربت دبابات العدو من قبضتيهما... بدّلا آهاتنا ودموعنا بالانتصار... أمسكا بالريح من طرف السماء الآخر... فالمصباح لم يتحطّم، وسيبقى نوره يتوقد من الشعلة الإلهية الخالدة... شعلة الشهادة، قالا: "نحن الممر ونحن المعبر... فادخلوها آمنين...". ودخلنا إليها، كانت تتحرّك كنسمة الفجر في يومنا الحار... تركت آلامها خلف الحقول... وبدأت ترسم شكلاً آخر قرب الوجع وعند أول حرف للنهار... بعد أن حصل الطوفان...

* الهامات الشامخة
وصلنا إلى بيت الحاج حسين عواضة... شدَّ على يدي بعزم التاريخ، وقال: "أهلاً بكم في أرض التحرير والنصر". قلت له: جئت لأسمع منك الحكاية وأسرارها أيّها الجبل التّسعينيّ... الذي لم تنحنِ هامته، وتحدّى الريح وعاصفة الطاغوت، ولم ينكسر... قال: "عندما هبّت العاصفة، قرّرت أن لا أتحوّل إلى غبار منثور في الهواء، تعبث به يد الريح... لقد سكنتْ نفسي في تلك اللحظات جذورُ السنديان والملول... فرحت أردّد: لن أغادر... لن أغادر...". "وبقيت وحدي في "أراضي" البيت بعد أن رحل الجميع، أصعد كلّ صباح إلى الطابق الأول، وأشرب "المتّي" وأنتظر شباب المقاومة... كانوا يتفقّدونني يومياً، ويحملون لي الخبز والفاكهة، سألوني: ألستَ خائفاً؟ ولِمَ لم ترحل كما فعل الآخرون؟ قلت لهم: ومِمَّ أخاف؟ لقد أوكلت أمري إلى العليّ القدير... وهو مسؤول عني... فلماذا أخاف؟ وأنتم أيّها الأبطال حولي... تحاربون بقوة اللَّه، وتقهرون العدو. ألم تدمروا دباباته؟ ألم تمنعوه من الدخول إلى الخيام؟ وها هي "الدردارة" تبتلعهم، فيهربون من أمامكم!... وأنا أعرف أنّ ما بقي من عمري محدود، وأقضيه بالصلاة والدعاء لكم، فأنتم أُنسي الأخير، وبكم هامتي تشمخ، ويبقى رأسي مرفوعاً...".

ثم يضيف، "كنت أضي‏ء الشموع، وأضع ستاراً على النوافذ حتى لا يتسرب الضوء إلى الخارج... وأكلت البطاطا المسلوقة "الممعوسة" بالملح والزيت...". "في آخر أيام الحرب، قصفت الطائرات ذلك البيت الذي يبعد عنا عشرين متراً... طار أحد أعمدته واستقر على جدار "الأراضي" وكنت أتهيّأ للصلاة، فدعوت اللَّه فيما لو أصبت أن تكون إصابتي مميتة... حتى لا أتعذّب، لأنه لا يوجد أحد قربي... ثم ذات صباح لمحت أولاد أخي من بعيد، يتفقدون المكان... لوحت لهم وصرخت: أخبروا العالم أنني ما زلت بخير... وبدأ الناس بالعودة... كانوا يعانقونني ويبكون، فقد انتهى الطوفان..." وظلّ الجبل ثابتاً ليروي حكاية صموده والنصر...

* بيوت العز والشرف‏
انتقلنا إلى منزل الحاج عباس أبو عباس... أحسست كأنّهم يحتفلون بعيد... ويتلألأ من أعينهم مطر من ياقوت... صافحونا بحنين الورد وشوق الياسمين، قالوا: "أنتم من رائحة السيد... كلنا فداه... اللَّه يوفقه ويحميه وينصره على أعدائه أجمعين". "نحن نعلم أنه يرسلكم لتتفقدونا، وتنقلوا له أخبارنا..." كان كلامهم عن السيد يجري كالنهر فوق بساط من الحرير، ولا أدري من أيّ محراب أتوا به: "المعركة كلها، كانت "السيد حسن"، رجلاً بأمة... أحضرت زوجة الحاج عباس صورتين للسيد وقالت: صوّروا... خلوا العالم كلّه يرَ سيدنا... وتاج رؤوسنا، دماؤنا كلّها... فداه، بيوتنا كلّها... فداه، أولادنا، أحفادنا كلّها... فداه...".

ثم يتدخل الحاج عباس هادراً: "كنت قوياً كالحديد، إيماني باللَّه، وبسيد المقاومة وبشباب المقاومة كان قوياً... والحمد للَّه لم يخذلونا كما فعلت "جماعة الشاي". لقد ظلت الخيام منيعة وعزيزة لم يقتل فيها "صوص" ولم يتمكنوا من دخولها" ثم يقول: "طيارات ومدافع ما بتدافع‏ رب السما بيدافع عنك يا خيام" حاولت أن أدخل إلى قلب هذه الحماسة، وفي نيتي أن أخفّف اندفاعته، فقلت للحاج: "أرى أنك تعيد بناء البيت". يا اللَّه... وكأنني حملت إليه هدية ثمينة، أجابني بفرح عارم: "الحمد للَّه الذي أكرمني بأن هدم بيتي مرتين، لقد دمروه فيما مضى وأعدت بناءه أفضل مما كان... وصار يضم المجاهدين، ويرفع راية حزب اللَّه وصورة السيد حسن... صار بيتاً للعز والشرف والكرامة ولا يعرف الهوان...". "واعلم أنني سميت حفيدتي التي ولدت خلال الحرب "وعد"، وهذه "الوعد" هي نسمة الصباح إلى قلبي من بين ثلاثة وثلاثين حفيداً".

سألت الحاج عباس عن أيام الحرب وكيف قضاها فأجاب: "أقول إن إسرائيل لم تعد تخيفنا، وهذه حقيقة يجب أن يعلمها الجميع، ولماذا نخاف ونحن أصحاب حق؟... لقد مارست كالعادة كل حقدها ولم أخف من ذلك كلّه... وبقي الناس في الحارة حتى اليوم السابع عشر فبدأوا يغادرون... وغادرت زوجتي مع الآخرين، إلاّ أنّها عادت لتصحبني معها في اليومين الأخيرين، فرافقتها إلى البقاع وهناك علمت أنّ منزلي قد دمّر...". "لم ألتقِ بأولادي طيلة الحرب، ولم أعرف عنهم شيئاً... وكنت أحلب البقرات الثلاث، وأوزع الحليب على السكان؛ لم ينقصنا شي‏ء، كل ما كنا نحتاج إليه كان متوفراً في البيت". "عدت إلى الخيام، لأجد البيت مدمراً فوق سيارتي البيك آب، والبقرات الثلاث... ولم أكترث... وكما كنت آمل كانت عودتي سريعة بفضل اللَّه، وبطولة رجال المقاومة وشجاعتهم، وكما نَصَرَ اللَّهُ نبيَّه موسى على فرعون، كذلك نَصَرَ وليَّه وحبيبَه السيد حسن على إسرائيل وأبقى هامته شامخة ومرفوعة...".

* رائحة الحرية
ثم توجهنا نحو بيت نازك سلمان... كان منزلها قرب العين، بين "الدردارة" والسهل... خرجت مع أمّها وأخيها من تحت الشجر لتشمّ ريح الحرية بعد أن كانت أسيرة، لم تبق في الظل، رأت الفجر يبزغ أمام عينيها... وعمود النور يندفع نحو السماء... أشجار و"دردارة" وناس صمدوا في المغارة... كأنهم ذهبوا باتجاه الحسين (ع)، كانوا في غاية السعادة، وأظهروا لكل الوجود حبّ سيد المقاومة وقائدها فتلمسنا منهم البركات والتبريكات لقدومنا إليهم... أمّها لا تقوى على المشي لإصابتها "بغضروف الركبة" وأخوها يعاني من انفصام الشخصية... انتقلت بهما إلى منزل شقيقتها بعد أن تصدّع البيت قرب العين لشدة القصف حوله... وقررت الصمود والبقاء في الخيام، ولم ترحل...

شعرت بالأسى والمرارة نحوها، إلا أنّها انتشلتني ممّا أنا فيه وقالت: "لقد ظنّت إسرائيل أنّها إذا هجّرت الناس ودمرت البيوت، وقتلت الأبرياء، أنّ هؤلاء سينقلبون على المقاومة، ويبتعدون عنها... خسئت إسرائيل ومن هم مع إسرائيل ووراءها... المقاومة نحن... هي روحنا ودماؤنا وكل ما نملك فداء لها ولسيدها ولشبابها...". "ومع ذلك، فإننا بعد أن اشتدت علينا الغارات، وتعاظم قصف البيوت وتدميرها، لم نفكر بمغادرة الخيام، رغم وجود السيارة معي... بل انتقلنا إلى المغارة المحفورة لجهة المطبخ في بيت خالتي" وأشارت بيدها إلى بيت يبعد عنا حوالى خمسمائة متر تقريباً. "ولقد انقطعنا من المياه، فانتظرنا ابتعاد طائرة الاستطلاع "الMK" وتسلّلنا عبر أشجار الزيتون، ومددنا الخراطيم وتزودنا بالماء من بيت يبعد عنا خمسين متراً... كنا نعتبر أننا نشارك في الدفاع عن الخيام، مع شباب المقاومة الذين كانوا يتفقدوننا، ولقد فتحوا لنا أحد المحلات في الساحة، وقالوا خذوا ما تحتاجون إليه من مواد غذائية وسجلوه لندفع ثمنه فيما بعد وهكذا فعلنا...".

"ومن الأمور الطريفة التي حصلت لنا، أننا سمعنا صوت دجاجة شاردة، فخرجنا والتقطناها... وطبخنا عليها "ملوخية" طازجة من الحقل... ثم إننا عثرنا على خروف تائه أيضاً، فأمسكناه، وربطناه خارج البيت، إلا أنه فرّ بعد أن قُصف البيت المجاور لنا لكنه ما لبث أن عاد بعد أربعة أيام، فأحضرناه وسط انهمار القذائف، وفي يوم النصر ذبحناه... واحتفلنا مع العائدين..." أضافت "لذلك لا تسألني عن الخوف والرعب وما إلى ذلك... فأنا تعوّدت على هذه المواقف الصعبة عندما كنت أنقل أخبار المعتقلين الذين كانوا يأتون بهم إلى المستشفى في الجديدة، فأزودهم بكل ما يحتاجون إليه... كان ذلك في أيام الجمر... أيام الاحتلال واليوم أنا هنا باقية... أسمع "سقسقة" الزعتر تناديني، وألمس بشغف لون الزنبق والريحان... فقد نبتت على صخر قلعتنا راية اسمها السيد حسن... وسنحملها بدون حدود ولا أسوار...".

* الإرادة المنتصرة
... وحان وقت الصلاة، فسلكنا طريقنا نحو المسجد... لم يسلم هو الآخر من وحشية العدو الإسرائيلي عليه وحواليه... الجهة الجنوبية والجهة الغربية مدمرتان تماماً والتصدعات تخترقه من كل جانب، لكنه لم ينهزم وبقي النداء "اللَّه أكبر" يتعالى منه، ولن تسكت لغة النخيل، ودعاء الغيم وتسبيح البشر... وسيبقى يسكن في عينيك يا خيام... ثم التقينا بالأستاذ إسماعيل العبد اللَّه الذي قال: "لقد غادرت الخيام من بداية الحرب، ونزلت عند ولدي إبراهيم في منطقة بعبدا، لكنني غادرتها بعد أن قصفت إلى منطقة الكورة... ثم عدت إلى الخيام لأجد البيت ركاماً... ولا بأس في أن أكون أحد المظلومين من حقد إسرائيل، فأنا لست حزبيّاً ولم أدخل يوماً في أيّ حزب وما حصل يجعلني أنحاز تلقائياً إلى المقاومة. وهؤلاء الأعداء لم يفهموا بعد كيف نفكر عندما نُظلم. لقد اتصل بي ولدي من السعودية قائلاً: لا تهتم أَعِد بناء البيت أكبر مما كان وأجمل مما كان ولك كل ما تحتاجه من مال، المهم أن تبقى إرادتنا منتصرة، وبلدتنا حرّة، لا يدنسها العدو. وهذه هي المرة الثانية التي أعيد فيها بناء البيت... وها أنا أعود إليه من جديد، والحمد للَّه لم تحقّق إسرائيل مبتغاها، لوجود ذلك القائد الفذ والملهم الربانيّ أعني به سماحة الأمين العام السيد حسن نصر اللَّه".

* جبروتهم تحت أقدامنا
عدنا صوب البلدية فالتقينا بالأخ حسن بيروتي الذي قال: "لقد بقيت في الخيام سبعة عشر يوماً... الإسرائيليون أبلغوا قوات الطوارئ أنهم سيقصفون المدنيين وكل شي‏ء يتحرك على الأرض، ولم أكترث فقد أخرجت عائلتي قبل ذلك وبقيت في الخيام". "كنت موجوداً في أحد البيوت قرب البلدية، حين أغار الطيران على المنزل المجاور فدمّره، لم أصب بالشظايا، ولكن حصل تمزّق في حوضي نتيجة الضغط القوي، فارتميت على الأرض، لا أقوى على الحراك. كان كل شي‏ء يهتز حولي وتحتي والغبار الكثيف يغرقني فيه، فلا أرى شيئاً بعد أن فقدت القدرة على السمع. واستمرّ القصف لساعات طويلة، فأيقنت أنها النهاية، وتصوّرت نفسي شهيداً... ولما هدأ القصف، قدم الإخوان، وحملوني ثم نقلوني إلى أحد المستوصفات خارج الخيام...".

"واليوم كما ترى تعافيت من الإصابة، وأنا جاهز من جديد للصمود والمقاومة، ولتعلم إسرائيل أن شوكتها كسرت، وجبروتها تحت أقدامنا، ونحن اليوم أقوياء في كل شي‏ء، لم تعد أسلحتهم ترهبنا، وقد جربوا ووجدوا أنّ إرادتنا قوية، وعزيمتنا صلبة وفي النّزال وجهاً لوجه كنّا كالريح التي تصد كل شدة متوكلين على اللَّه واثقين أنه لن يتركنا... وأنّ قيادتنا الحكيمة والصادقة سوف تحقّق النصر النهائي وتزيل هذه الغدة السرطانية إسرائيل من الوجود...". وكان لا بدّ من زيارة معتقل الأحرار... ما زالت بوابته قائمة ترحب بالزوّار... وما تبقى دمار... كلّه دمار... لكنّ المعتقل ظلّ مستيقظاً... ظل حيّاً... فحكاياته لا تموت، لقد رسمت خارطة الأجساد فيه طريق الوطن في قلب المرجان، صنعت لوناً أحمر تتدفق منه كلّ الألوان...

حان وقت العودة... تركنا الخيام ساكنة هادئة... لكن في قلبها بركان من العنفوان والإيمان والإباء... ونفوس نقية هي المقدمات الأولى لآخر تسميات العصر... رجال اللَّه. تركناها بريئة طاهرة لا يهمها الأصفر والأبيض... بسمة ترتسم على شفاه عاملة إلى حدّ الفداء والشهادة... أطعمتنا بكلامها عسلاً... فكأننا في زمن الأئمة عليهم السلام .. نعم لقد سمعت الخيام نداء البيعة... فكانت كالطفل الذي يتلألأ وجهه بياضاً وعلى خده خال التحرير...
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع