نسرين إدريس
كانت حبّات الجوز تتكسر تحت ضربة الحجر ليبرز لُبهّا الناصع البياض فتسارع رؤوس الأصابع المسودَّة لانتزاعه والتهامه بسرعة وسط قهقهاتٍ وأحاديثٍ تجعل من الغروب قارباً يتهادى في بحيرة الاستئناس بالطبيعة الغنَّاء الغافية على وسادة الهدوء الساحر... افترشوا التراب تحت شجرة الجوز العتيقة على تلّةٍ مواجهةٍ لأحد مواقع القوات الإسرائيلية اللَّحدية المندحرة حيث يرفرف علم المقاومة الإسلامية على حطامه معانقاً السماء، ولكم منعت مدافع العدو آنذاك عبور الناس من هنا، فشجرة الجوز كانت خط نار لا يجرؤ على الاقتراب منه سوى المجاهدين العابرين إلى الداخل المحتل... استلقى رضوان على التراب فيما بقي صديقاه يكسران الجوز، وهو يستذكر كيف وقع أسيراً بأيدي جيش عملاء لحد بعد إصابته إصابةً بالغة في بطنه أثناء قيامه و"الشهيد حسام" بالتسلل من هنا إلى إحدى القرى المحتلة ووقعا بكمين لحديٍّ لم تنتهِ المواجهة معه إلا بعد أن فرغت ذخيرة حسام الذي بقي يقاتلهم على الرغم من إصابته برصاصات مباشرة في كل أنحاء جسده! ذلك المشهد لا يُنسى، فكأنما حسام تعاهد ورصاصاته أن ينتهيا معاً، ولا أحد يعلم ماهية شعور رجل فارقت روحه جسده المتفجرة دماؤه ويبقى ذلك الجسد يقاتل! وحده الشهيد يدرك ذلك...
لقد قتلا يومها خمسة لحديين وأصابا ثلاثة قبل أن يستشهد حسام ويُصاب هو... في لحظةٍ ما أحس ببرودةٍ تنسابُ من رأسه إلى أطرافه، وهو شبه فاقدٍ للوعي على ترابٍ التصقت حبّاته بجرحه... كان الظلام حالكاً، وتمتماتُ رجالٍ يشقون طريقهم الوعرة مستعينين بكاشفٍ جلبته القوة المساندة لانتشال الجرحى وسحب جثث القتلى، وصوت الطائرة المروحية يضغط في أُذنيه وهو يُسحب على بطنه رغم جرحه العميق، ولا يأبه الرجلان اللَّذان يمسكانه من ساعديه بصخرةٍ أو حفرة. وعندما وصلا إلى الطريق رمياه على الإسفلت بقسوة فارتطم رأسه بحافة جيبٍ عسكري وغاب عن الوعي كلياً... لم يعرف كم مضى عليه من وقت في مستشفى مركز ال17 في صف الهوا بنت جبيل، فإن العناية هناك، خصوصاً، بمصابٍ من المقاومة الإسلامية، أشبهُ بعملية تشريحٍ يومي لجثة هامدة، ولم يستطع أن يفعل شيئاً سوى انتظار الشفاء ليتلقى جرعة جديدة من العذاب مختلفة عن ما يقوم به مسؤول أمني رفيع المستوى يزوره يومياً إلى أن أبلغه بعد شهرين من العناء بقرار نقله إلى معتقل الخيام. في معتقل الخيام رأى وجهاً لا تزال ملامحه القاسية محفورة في ذاكرته... لم يستطع رضوان إلا أن يسوي جلسته بعد أن استذكر ذلك الوجه، ونظر إلى رفيقيه اللذين أسلما الانتباه لذكريات صديقهم وقد بدا عليهما الوجوم وصار الهدوء صمتاً قاسياً...
تابع رضوان حديثه:
كلما جلد ظهري بسوطه على عامود "الشهادة" في معتقل الخيام، كان عزمي يشتد ويقوى، وكلما ضرب بحذائه العسكري بطني لينزف جرحي من جديد، شعرت بجراحات الزمن تلتئم... لقد رافق وجهه سنوات العذاب في معتقل الخيام، في السجن الافرادي، في أسلاك الكهرباء التي اقتاتت من أعصابي، في ليالي الألم، في ضياع الأيام، كان هو هناك معي، وكنت أمنّي نفسي بأنه غداً عندما أكون هنا لن يكون معي! وكلما نظر إلي استشاط غضباً وحقداً، لم يستطع يوماً أن يتحمل النظر في عيني!!
قام رضوان من مكانه، وفرد ذراعيه للهواء:
انظروا، إنه النصر الذي حوّل معتقل الخيام إلى ساحة حرية، إنها دماء الشهداء التي زينت تلك الجبال براية الجهاد... وعندما ركع على ركبتيه ليغرف حفنة من التراب، بدا كأنه مارد في قمم تتردد بداخله صرخات الحسرة... وتابع قائلاً: لماذا الآن تُقيدني الأصفاد من جديد، لقد أصبح الوطن سجناً آخر لأسير كتب عليه أن يرافقه وجه سجّانه طوال عمره... لم أتمالك نفسي عندما رأيته يترجل من سيارته وسط المهنئين له "بالسلامة" كأنه (بطل قومي) وسط حاشية مزيفة من أقرباءٍ لطالما أطعمهم من تعب غيره... تلاقت نظراتنا للحظة واحدة، لحظة غيّرت الكثير من سنوات الاعتقال، كأنه أراد بها أن يجلدني... لا... لم يؤلمني سوط معتقل الخيام، ولا الصلب على العامود في الشتاء القارس، ولكن صفعتني نظرته صفعة ألمٍ تنزف بداخلي لآخر العمر، طالما يجمعني به وطن واحد؛ وطن لأسير وجلاده... الأوطان لا تنبذ أبناءها يا رضوان... الصالحين منهم والطالحين، فتصبّر على ذلك... وأيضاً لا تأوي من باعها بحفنة دراهم... الحياة عادة، وغداً تتعود على وجودكما في القرية نفسها! أدري، ولكن ذلك لا ينفي ألمي... لا ينفي أن سوطه سيبقى موجعاً في نفسي! حلّ الظلام، ورضوان جالس تحت شجرة الجوز يتكئ على جذعها العجوز، يخبره حكايا المجاهدين، عن شهيد سقط هنا، وآخر هناك، وأسير جُلد وعذب في معتقل الخيام، وجلاده يعيشُ هنا!!!