مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

تحقيق: يوميات الصمود على خط النار

إعداد: منهال الأمين‏



الحرية.. السيادة.. الاستقلال.. الهواء الذي يتنشقه أهل الجنوب، مفعم بهذه العناصر. أما تدمير المنازل على الرؤوس فيعتبر في اللغة الجنوبية فعلاً ناقصاً، يقدم عليه عدو يائس من النيل من عزيمة مقاوم.. حينما يظن أن فتكه وإجرامه يعود عليه بنصر مزعوم، ولكن.. آن له أن يعلم أن التراب يؤاخي تلك الأجساد الشامخة والعزائم الحديدية. من عيتا الشعب ورميش وراميا ويارون.. إلى مربع البطولة والكرامة والصمود بنت جبيل عيناتا مارون الراس عيترون، مروراً بكونين والطيري وبيت ياحون وبرعشيت وشقرا وصفد والجميجمة. إنها قرى قضاء بنت جبيل، الشاهدة والشهيدة.. حيث مالت البيوت على البيوت وتعانقت الأرواح، بين مقاوم وصامد، فلم تسقط العاصمة ولم يتزحزح حماة القلعة، أباة قاتلوا.. وأباة صمدوا.. لم يخلفوا عهداً تعاهدوا به مع الأرض، أن لا ذل بعد عز التحرير.. ولا شفاء للأرض إلا أن ترويها دماء أبنائها.. فهنا أم العز.. وهنا مدينة النصر والتحرير.. وهنا عيناتا و"كرم الزيتون"(1) والسفوح التي ابتلعت كيد المحتل، والبيوت التي اختلط ترابها بدماء المجاهدين والمدنيين من أبنائها، والمواجهات الخالدة في محور "الإشراق".. إلى الملحمة "عيترون" وألفي قذيفة أو قل أكثر في مساء جنوبي طويل.. إلى الطود الشامخ في مارون. إلى ميس الجبل وحولا ومركبا والطيبة والخيام ووادي الحجير (والتي ستكون لنا معها وقفات أخرى في أعداد لاحقة).

* عيتا.. منها تبدأ الحكاية
الرحلة تبدأ من هنا .. ولكنها لا تحط رحالها خوف أن يفوت الظاعنين شي‏ء من كراماتها.. من عيتا الشعب نبدأ، القرية المتاخمة لحدود الوطن الجريح، "فلسطين المحتلة"، من جهات عدة، حيث يطل عليها من الجنوب الغربي موقع الراهب الذي يشرف على قرية "تربيخا"، إحدى القرى السبع، والذي دارت عند تخومه وفي محيطه أعتى المعارك خلال حرب تموز 2006. وإلى الجنوب منها تقع مستوطنة "فسوطا" الصهيونية. من الغرب يحدها "حدب عيتا" وهو مرتفع مشرف على الأراضي المحتلة. من الشرق حانين ورميش، التي تحدها في العمق من حدودها ثكنة "برانيت"، وهي أكبر ثكنة صهيونية في شمال فلسطين المحتلة، شمال شرق "دبل". من الشمال قرية "القوزح"، وشمال غرب قرية "راميا". عدد سكانها يتجاوز 12 ألف نسمة بين مقيم ومغترب وأكثر من 90% من سكانها يعتمدون على زراعة التبغ في معيشتهم. لم يمر يوم في حرب تموز، لم تُذكر فيه عيتا الشعب، إما مقصوفة من قبل الدبابات والطائرات المعادية حيث أحصي سقوط الآلاف من القذائف والصواريخ، أو بالحديث عن توغل إسرائيلي في أراضيها ينتهي بكارثة على القوات المتقدمة.

* الصمود.. الخبز اليومي‏
هنا في الحارة الغربية، حيث يطل عليها شامخاً جبل "أبو طويل"(2)، في واحد من تلك البيوت التي ذاق الصهاينة فيها مر الهزيمة، جلس الحاج عبد الكريم دقدوق (مواليد 1914)، محاطاً ببعض من بناته و"كنائنه"(3) "يشكّون"(4) الدخان، بعد مرحلة القطاف التي تمتد بضعة أسابيع أحياناً، حيث كانت "الميابر"(5) والخيطان بين الأيادي السمر، تحكي بعضاً من فصول حكاية شتلة التبغ التي رافقت الوجع الجنوبي ردحاً من الزمن، ولا زالت شاهدة على همة الجنوبي العالية وعزمه الهادر، رغم "جفاف" الموارد في أرضه المعطاء. يستقبلك الشيخ التسعيني الحاج أبو مصطفى دقدوق (وهو جد الشهيد عبد الكريم دقدوق) في باحة داره التي لم تسلم من القصف والتدمير (دمار جزئي)، ولكنها كانت أشفى حالاً من منزل "حسن هيدوس" أحد أبناء عيتا الشعب الذي لجأ إليه أبو مصطفى مع بعض من عائلته. كانوا 5 أشخاص، لا أكثر، عند الرابعة فجراً، الجميع يغطون في سبات عميق قلما تهيأ لأحد خلال الحرب، وخاصة في عيتا الشعب حيث القصف على مدار الساعة، والطائرات الحربية لا تغادر الأجواء. استفاق الحاج عبد الكريم من نومه الهانئ، على صوت مخيف، سرعان ما تبعه تساقط للحجارة والتراب على جسده، وأحس بألم في كتفه لا زال يرافقه حتى الآن، بسبب حجر سقط عليه، إلا أنه يؤكد أن "التتخيتة" التي كان ينام تحتها، دفعت عنه موتاً محققاً، حيث سقطت فوقه بشكل مائل...

قصف المنزل من قبل الصهاينة. لم يدرك الحاج عبد الكريم ما حصل إلا أنه سمع صوت صهره الحاج أحمد عبد النبي يرتفع مخنوقاً "كشفولي وجي".. أخذ يردد ذلك مراراً، إلا أن أحداً لم يستطع الوصول إليه بسبب الظلام الدامس والغبار، حتى أن أرض الغرفة المدمرة امتلأت بالوحول الناجمة عن انسكاب المياه الموجودة معهم للشرب. عمت الفوضى المكان. سمع الحاج عبد الكريم صوت ابنته تنعى زوجها "راح الحاج أحمد".. وبالفعل فقد استشهد صهر الحاج عبد الكريم على مقربة منه، وكان هو بحاجة لمن يساعده على الخروج من المكان الذي حوصر فيه، حيث كان حجر كبير يجثو على ركبتيه.

يروي الحاج عبد الكريم روايته بكل التفاصيل، ويتذكر كيف أنهم في الأيام الأُوَل للحرب كانوا يترددون على منزلهم بين الفينة والأخرى، فيجلبون ما يحتاجونه من المونة ويقفلون راجعين إلى ملجئهم القسري، حيث خبزت بناته خلال أيام قلائل كيسين كبيرين من الطحين، خبزاً للمقاومين وللصامدين في البلدة. إلا أن اشتداد حدة المعارك، حيث كان العدو يحاول جاهداً التقدم من جهة موقع الراهب الحدودي لسحب إحدى دباباته التي دمرها المقاومون عند أطراف البلدة، بعد عملية الأسر الشهيرة، ألزمتهم المنزل المذكور (والذي لم يكن آمناً على ما يبدو كما المئات من بيوت عيتا الشعب ) فانقطع عنهم الطعام، وصاروا يقتاتون على خبز يابس مبلول بقليل من ماء. وتروي الحاجة فضة ضاحكة كيف أنها صارت تمنع عمها (أبا مصطفى) من إطلاق العنان لنفسه بالكلام كما هي عادته في أوقات السلم، حتى السعال منع في تلك اللحظات الحرجة، إذ لم نعد نميز صوت الصديق من صوت العدو.

* أم العز.. مصيدة الصهاينة
لم يصدق أحد أن الحاج أبا مصطفى خرج من ذلك المنزل حياً، ولكن الشيخ العنيد عاد يزرع أرضه من جديد، في الحقل قرب المنزل وفي غيره من أراضٍ في البلدة، فلا شي‏ء أقوى من انغراس يد الفلاح في أثلام الأرض السمراء المعطاء، فكيف إذا كانت أرض الجنوب التي رواها عرق ودماء أبنائها، كالحاج عبد الكريم الذي قدم حفيده وسميه شهيداً على درب التحرير، ثم صهره الذي استشهد على مقربة منه؟ وهو خرج من بطون الموت سالماً، إلا من بعض جروح التأمت سريعاً، وشح في النظر، حرمه لذة قراءة القرآن الذي به لهفة كبيرة لقراءة آياته كما كان دأبه دائماً. كما أنه يجد صعوبة في الانكباب على الشعر الذي يجيده، فتضيع منه فرصة تدوين بيت من الشعر عنَّ له عن سيد المقاومة وعن شباب أبطال، كان يرى خيالاتهم تسرح في الحارة الغربية وقرب مدرسة عيتا وعلى تخوم موقع الراهب وعلى قمة جبل "أبو طويل"، وعند الحدب، حصن الضيعة ورباطها، حيث قارعوا المحتل بين الحقول، وفي الوديان وعند السفوح، وحين توغل المحتل، أقسموا أن "لا عودة إلى ما قبل 25 أيار 2000"، فكانوا يتصيدون الجنود الصهاينة واحداً تلو الآخر، كالفئران، ويكمنون للآليات المتقدمة، ويلتحمون معهم في مواجهات الأمتار المعدودة. هم أهل الأرض وأدرى بشعابها، هم ملح الأرض، هم حياتها وروحها. في أزقة عيتا وعند أطرافها وفي كل مكان ظن المحتل أنه سيكون آمناً فيه، كانوا الجحيم للعدى، والثلة التي غيرت المعادلات. كانت ملحمة بطولية في عيتا الشعب، ولكنها كانت أيضاً مأساة كبرى لم يُحك عنها حتى اليوم كل شي‏ء.

* الشهادة... عز وفخر
يقول أبو رامز سرور (80 عاماً)، إن هذه الحرب قطعت رحمه فهو ظل يحرس منزل أخته المقعدة في الأيام العشرة الأُول من الحرب، فيأتيها بالطعام والشراب. وقد سعى جاهداً لتأمين سيارة إسعاف تنقلها خارج البلدة، إلا أنه لم يوفق (حتى أن الإسعاف تعرضت للقصف حينما اقتربت من المنزل).. ولكن كيف له أن يحرسها من الصواريخ المدمرة التي دكت منزلها فسوته بالتراب على من فيه، أم وأب وولدهما؟ الحرب حصدت أحبتنا، ولكنها لم تكسر إرادتنا.. هذا لسان حال الحاجة أم حسين دقدوق، التي استشهد زوجها الأستاذ علي دقدوق وهي ساجدة تصلي قربه. وتسترجع أم حسين برباطة جأش الجنوبية الأصيلة تلك اللحظات المشهودة في حياتها: "رفض أبو حسين الخروج من الضيعة مهما كان الوضع سيئاً، معتبراً أن التهجير مذلة والبقاء في الأرض أشرف ولو دُمرت البيوت على رؤوس ساكنيها". فعلاً، هكذا جهز الأستاذ علي دقدوق بندقيته الإنكليزية القديمة تحسباً لدخول اليهود إلى البلدة، ولجأ مع زوجته (جميع أولاده نزحوا من البلدة) إلى منزل ظنوه آمناً في حي الزهراء. "مرت علينا أيام صعبة جداً" تقول أم حسين "بعض الليالي لم نكن ننام أبداً لشدة القصف وأصوات الإنفجارات"...

كان أبو حسين على موعد مع شهادة يعد نفسه بها دائماً، تحسده أم حسين "نيالو.. طلع من الدنيا راضي.. انبسط كتير بالبارجة اللي انضربت بالبحر.. ولكنه كان يمني نفسه برؤية أولادنا الذين تفرقوا في البلاد".. وعن ليلة الفراق العصيب تقول الحاجة دقدوق: "كان ذلك بعد الهدنة بيومين، ليلتها لم يهدأ لنا جفن، لا أكل، لا شرب.. حتى أن الغبار والتراب كان يصل إلينا من البيوت المحيطة بنا والتي كانت تتعرض للقصف...". أعدت أم حسين لزوجها مما تيسر قرصين من العجين (طحينة بدل الطحين)، كوباً من الحليب، أتبعته بفنجان قهوة، ما شجع أبا حسين على تحضير "راس أركيلة".. وهكذا كان..

كانت أم حسين، والتي غالباً ما كانت تستعين على هذه الشدة بقراءة القرآن والدعاء إلى اللَّه تعالى بنصر المجاهدين، ساجدة تدعو وتتضرع. كان أبو حسين على بعد مترين منها جالساً يحمل الراديو (رفيق الحروب والحصار) بين يديه، متابعاً لآخر الأخبار، فجأة دوى انفجار قريب فتناثر الزجاج من حولهما.. لحظات قليلة سقط الصاروخ الثاني على المنزل مباشرة.. أظلمت الدنيا في عيني أم حسين، "وجدت نفسي تحت الركام، لا أستطيع أن أميز شيئاً من حولي، ناديت زوجي لم يجبني، كررت النداء فلم أسمع له حسيساً، حينها صرخت بكل قوتي، فسمعت أنيناً ضعيفاً.. ناديته مرة أخرى ولكن.. دون جدوى". حينما أيقنت أم حسين أن زوجها استشهد، خرجت من المنزل باتجاه الشارع، سمعت الجنود الصهاينة يتحدثون على الأجهزة اللاسلكية، فتوجهت نحو الشارع الرئيس في البلدة، حافية القدمين، مصابة بإحداهما، وتكمل: "التقيت بشابين من البلدة، طلبت منهم المساعدة على انتشال جثة زوجي من تحت الركام، فأخبراني أن هذا حال الكثيرين ممن استشهدوا في البلدة، وأن لا سبيل لرفع الأنقاض خاصة بعد أن انقطعت عيتا عن العالم الخارجي بشكل كامل". صممت أم حسين على أن تشد على قلبها، وأن تكمل الدرب إلى نهايته، فلا هي انهارت مما حل بها، ولا شكلت في الوقت عينه عبئاً على المقاومين، بل كانت سنداً وعوناً لهم، تعد الطعام وتعجن وتخبز، وتحضر الفريك والبرغل وحتى المهلبية.. وسلواها دائماً الدعاء وتلاوة القرآن.  كل هذا والمعارك على أشدها في الحقول والأودية المجاورة، حيث كانت تسمع اليهود يدعون أهالي عيتا للاستسلام وإلا.. فالمصير الدمار.

لا ترى أم حسين نفسها من أصحاب المصائب، وهي تتأسى بالكثيرين ممن فقدوا أحبتهم وأهلهم في هذه الحرب.. وهي رغم خسارتها الفادحة وحنينها إلى زوجها الذي قضت معه أجمل أيام عمرها، وأنعما عيناً بأولادهما يكبرون ويتعلمون ويتزوجون وينجبون.. إلا أنها ما برحت تردد "هنيئاً له الشهادة جنباً إلى جنب مع المجاهدين الأبرار".

* بنت جبيل.. حياة تحت الركام‏
تأخذك الرحلة على جناح من قوة العزم الجنوبي، تكمل مع الحدود فتمر في "رميش" جارة الرضى، التي يحفظ لها أهل عيتا الشعب والقرى المجاورة، أنها كانت لهم ملتجأً ساعة الشدة، حيث أووا إلى بيوت "الإخوان في رميش" كما يدعوهم أهالي عيتا الشعب، يقاسمونهم طعامهم وشرابهم على قلته . ثم تميل إلى يارون التي أتى الدمار على كثير من القصور والبيوت الفخمة التي تتميز بها البلدة، التي هاجر كثير من أبنائها زمن الاحتلال. تنحدر شمالاً إلى حاضرة الجبل الأشم، جبل عامل، بنت جبيل الصامدة حجراً على حجر، حياة تنبض تحت الركام. تغيرت معالمها بشكل كامل، فصح فيها قول القائل: إنها "ستالين غراد" جنوب لبنان 2006. الدمار شامل كامل، البلدة القديمة شبه مدمرة، السوق، حي المسلخ، حي الجامع... كل المعالم تبدلت، يلح عليك السؤال فيعييك الجواب: كيف كان الناس يختبئون من القصف؟ كيف كان المقاومون يكمنون لجنود العدو ودباباته.. حيث حاول الجيش الإسرائيلي أن يجعل من المدينة أرضاً محروقة حتى يتقدم، ولكن.. هيهات؟

ولأن هذه القرى انقطعت حقاً عن العالم الخارجي، فإنك لن تصدق أنه هنا صمد الشيوخ والنساء والأطفال جنباً إلى جنب مع المقاومين. لم يكن وحيداً ولكنه كان الأكثر تحركاً ما بين البيوت وما بين الحارات. إنه الحاج محمد علي أيوب، خادم مسجد الزهراء عليها السلام في بنت جبيل. أبى أن يترك مسجده وأرضه ومرتع الصبا. أربعة وسبعون من الصبر والقهر والعراك مع الدهر، هي خلاصة تجربة الرجل الذي عاصر الكثير من الحروب وعاش مرارة التهجير (أيام الدكوانة وتل الزعتر...)، لذا فقد مل الترحال قسراً، فلم يستجب لأي دعوة إلى الخروج من مدينته بدايةَ العدوان. بقي يروح ويجي‏ء في بنت جبيل، يقصد منزل ابنته في الحارة الجنوبية قريباً من يارون، قاطعاً كل هذه المسافة تحت القصف والطيران، ليسقي "الزريعة" في الدار المتطرفة في آخر البلدة. كما أنه تولى نقل الخبز والكعك والحلويات من أحد أفران المدينة (في الفترة الأولى من الحرب)، حيث كان يوزعها على الصامدين من جيرانه. وذات ليلة لم يستطع النوم فيها لشدة القصف، شعر الحاج بالملل، ولكونه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فإنه غالباً ما كان يتسلى بالراديو وما يمكن أن يسمعه فيه من أخبار أو دعاء أو قراءة قرآن. وبعد أن هدأت كل الموجات في الراديو قريباً من وقت السحر، فكر بالذهاب إلى المسجد، وبالفعل وصل إلى المسجد وهو بعيد نسبياً عن منزله وجد البطارية وقد بقي فيها رمق، فأطلق العنان لآيات القرآن عبر مكبر الصوت. وما هي إلا لحظات حتى كانت الأجواء تشتعل بعشرات القنابل المضيئة، ولكن لم ترف له عين، "انتظرت طلوع الفجر، أذنت للصلاة صليت الفريضة وقفلت عائداً إلى الحارة". إنها حارة "الحجّارة"، التي سويت بيوتها بالأرض، إلا بيت الحاج محمد، تضرر جزئياً، ولكنه بقي شامخاً يتحدى كصاحبه الحديد والنار.

لم ينج الحاج محمد أيوب من الموت مرة أو مرتين، بل كل يوم كان له مع الموت صولات وجولات. وفي إحدى المرات سقطت قذيفة بالقرب منه، فظن المحيطون به أنه استشهد، ولكنها كما يقول استقرت في التراب فلم تصبه بأذى!.
يحفظ عن ظهر قلب سورة يس، يرددها باستمرار، وهي كفيلة بدفع الأذى والخطر عنه. دائم الذكر، مطمئن القلب، شعاره ببساطة مطلقة "من ذكر علي وابن عمو زال الهم عنو". كان كلما أطل على مشهد المدينة وجد كأن الغيم يغطي سماءها، لشدة الغبار والدخان المنبعث من البيوت المدمرة والمحترقة. وكان يرى الفرش واللحف والوسائد والثياب منثورة في الطرقات. وبعد جولة من القصف الشديد، خرج يتفقد الحارة، فلم يجد الشارع، حيث البيوت أزيحت من مكانها وتناثرت ركاماً غطى الطرقات وغير معالم الأحياء.

اشتد وطيس الحرب، وطال أمدها. يروي الحاج أيوب وهو إسم على مسمى كيف صارت الأمور تضيق عليه، ولكن لم ينقطع الخير في تلك الديار، الطعام والشراب متوفران، حتى آخر يوم من الحرب، "بدل أن يجدوني ميتاً بعد الحرب، تفاجأوا بأنني ما زلت أحتفظ بكميات وفيرة من الطعام والحليب و...".. ولكن مشكلة المشاكل بالنسبة إليه كانت النوم، فيؤكد أنه خلال ما يزيد على العشرين يوماً، لم ينم إلا لماماً، حيث كانت القذائف تسهّره غصباً عنه وهو المعتاد أن يأوي إلى فراشه بعد أن يصلي العشاء. "تخدر جسمي من شدة النعس.. استلقيت، سندت راسي عالمخدة.. غمض جفني دقيقة.. سقطت قديفتان قربي بيني وبينهما حائط أحسست وكأن جسمي يشتعل، ولم أعد أقوى على المشي".. صارت القذائف تتساقط على المنزل الذي أوى إليه الحاج محمد علي، الذي يروي كيف أخذت الناس تهرب من منزل إلى آخر ومن غرفة إلى أخرى.. "انهار السقف فوق رأسي، الحائط الصخري رد عني الحجارة، أصابتني شظية في يدي وأخرى في رجلي، تحاملت على جرحي وذهبت إلى منزلي، وقبل أن يبرد الجرح، عالجته بالسبيرتو و"صبغة اليود".. في الليل اشتد الوجع عليّ، حتى أنني أدخلت أصبعي في الجرح من شدة الوجع". تمنى الحاج محمد علي أن يواجه اليهود، حتى يقاتلهم ولو ب"البلطة".. وهو يتأسف كثيراً لأن اللَّه لم يختره شهيداً.. ولكن.. "اللي مكتبلو عمر ما بتقتلوا شدة".

* عيناتا.. كلنا مقاومة
عيناتا.. الجرح لا زال طرياً.. البلدة غارقة في ورش إعادة الإعمار، إلا أن لا شي‏ء سيغير حقيقة أن البلدة كانت مسرحاً لمواجهات حامية بين الجنود الصهاينة الغزاة ومجاهدي المقاومة الإسلامية من البلدة ومن غيرها.
ومن هنا في "السدر" و"فريز" وغيرهما، كانت تسدد الضربات الموجعة للعدو من إعطاب الدبابات عبر الصواريخ التي كانت تطلق من البلدة، إلى إصابة الطائرة المروحية فوق مارون... إلى مواجهات مدرسة الإشراق، التي كانت تدور من طابق إلى طابق ومن غرفة إلى أخرى. ولعل قليلين جداً من المدنيين هم من بقوا في البلدة. وقد سقط عشرات الشهداء في عيناتا بين مقاوم ومدني، بينهم 12 مقاوماً استشهدوا في مواجهات المربّع خلال يومين، و19 مدنياً قضوا في منزل واحد دمرته الطائرات المعادية على رؤوسهم.

أبو شوقي، الحاج عبد النبي نصر اللَّه، بقي في البلدة إلى اليوم العشرين تقريباً، شهد خلالها مواجهة كرم الزيتون، حيث يقع منزله بمحاذاته. وقد أفردت لها صحيفة معاريف الصهيونية حيزاً واسعاً، نظراً لشراسة التصدي الذي أبداه المقاومون. كان أبو شوقي يسمع تكبيرات المجاهدين وصيحاتهم التي كان يخترقها صراخ الجنود الصهاينة واستغاثاتهم، حيث سقط لهم عدد كبير من القتلى والجرحى، في حين كان "ناظم نصر اللَّه" يرتفع شهيداً على بعد أمتار من والديه اللذين لم يكونا يعلمان أن المعركة الحامية الوطيس بطلها فلذة كبدهما. وكان أبو شوقي كثيراً ما يلمح المجاهدين في تلك النواحي، وقد لجأ إلى منزله بعض الجرحى الذين استطاعوا أن يخرجوا من مارون الراس. يروي فيصل خنافر، من أبناء عيناتا، كيف أن تلفونه الخاص ظل وحيداً يعمل في البلدة.. وقد بدأت الأمور تزداد تعقيداً مع فقدان البنزين والمواد الغذائية، "ما اضطرنا لاستعمال الدراجات الهوائية لتلبية متطلباتنا". ثم كان منزله القريب من كرم الزيتون المذكور عرضة للقصف مرات عدة، فأصيبت والدته وابنه، الأمر الذي اضطره لإجلاء 14 نفساً كانوا في منزله، هم عائلته وبعض الأقارب الذين التجأوا إليه. ويؤكد خنافر أن الوضع كان يزداد سوءاً يوماً بعد آخر، إلا أن وجود المقاومين في تلك القرى الحدودية كان "سياجاً يحرس سيادتنا، وكان يبعث فينا الأمل بالنصر الذي رأيناه بأعيننا في معركة مارون الراس وسلسلة مواجهات مربع الكرامة والبطولة".

* عيترون.. إرادة الصمود
في عيترون مجازر متنقلة، حتى أن النازحين منها كانت تلاحقهم الطائرات إلى الساحل. البلدة التي كانت تسقط عليها في بعض الليالي آلاف القذائف، وعشرات الصواريخ من الطائرات، كانت على موعد مع الملحمة التاريخية، في تموز 2006. يروي لنا أحد أبناء البلدة أن الشهيد محمد حجازي (20 عاماً) ممن استشهدوا خلال التصدي للعدوان داخل البلدة اتصلت به أمه في اليوم السابع للحرب لتطمئن إلى أموره، فأخبرها أن كل شي‏ء على ما يرام. فقالت له الأم: "لا تدعوهم يمرون يا بني.. دوسوا عليهم بأرجلكم.. فإذا دخلوا الضيعة لن تبقى لنا كرامة بعد اليوم".

الحاجة غادة حجازي عواضة، بقيت 33 يوماً مع بناتها الثلاث، في حارة "كرحبون"، في الجهة الشمالية من عيترون. في بداية الحرب، مونت غادة بشكل بسيط، 4 علب طون، وصارت تقسمها بمعدل علبة يومياً. ولكن بعد أن وجدت أن القصة طويلة، صارت تسعى لتأمين قوتها وقوت عيالها بطريقة أخرى، إذ أحضرت من غرفة المونة كيساً من الطحين وصارت تخبز على صاج الغاز خبزاً بشكل شبه يومي. ولم تحتج إلى أي نوع من المواد الغذائية طيلة هذه الفترة، "كل شي‏ء متوفر والحمد للَّه: جبنة، عسل، بندورة من الحقول القريبة، خوخ" وأشجار مثمرة أخرى تنتشر حولها كانت مصدراً مهماً للفاكهة الصيفية. كان لديها راديو له 6 بطاريات، ثم ابتكرت تقنية لتشغيل الراديو ببطاريتين فقط. وكانت غادة تضع الراديو على كتفها لتلتقط الإذاعة التي لم يكن يصفو إرسالها إلا بهذه الحالة. لا بأس المهم أن يظلوا على اتصال بالعالم الخارجي، حيث إنهم لم يخرجوا من المنزل طيلة 17 يوماً، انقطعت أخبارهم عن زوجها الذي كان في العاصمة ولا يعرف عنهم شيئاً وكان شبه متأكد أنهم قضوا شهداء. زارها شقيقها بعد ذلك وأخبرها أن الصهاينة يتمركزون على بعد 50 متراً من المنزل. إلا أنها تؤكد أنها لم تخف ولم تتزلزل وكانت تنتظر كلام سيد المقاومة هي وبناتها بفارغ الصبر، "لأنه كان يرفع معنوياتنا بشكل كبير".

* مارون الراس: رأس العدو في التراب!
أما مارون فإننا منها نأخذ كلمة السر التي نلج بها إلى يوميات القرية الوادعة، المطلة على سهول الحنين والذاكرة في فلسطين المحتلة. هناك خاض المجاهدون أولى مواجهاتهم التي غيرت المعادلات وفرضت المعادلات الصعبة. عند أطراف البلدة، اجتمع الحاج موسى الشيخ علي وزوجته وخاله الحاج محمد علي حسيب ذيب، في منزل الأول. كان هذا الثالوث الثمانيني، شاهداً على الأيام الخالدة، حيث نظروا بأم العين وسمعوا كل حرف وأحصوا كل طلقة ولامسوا أجساد الشهداء.

يقول الحاج موسى إن الدبابة الإسرائيلية حاولت أن تغير اتجاهها في مدخل المنزل، فتهيأ هو وخاله الحاج محمد ذيب لإطلاق النار في حال أطل أحد الجنود، أو أحسا أن أحداً سيدخل المنزل. إلا أن الدبابة غيرت مسارها بعد أن هدمت جزءاً من حائط الغرفة وغادرت المكان. ومن العجيب أن أحداً من الصهاينة لم يشعر بوجودهم داخل المنزل. كان الليل عالماً آخر في مارون الراس. يروي الحاج محمد ديب أنه كان دائماً يحتضن سلاحه ليلاً تحسباً لأي طارئ. ويؤكد أن مواجهات عنيفة دارت في أطراف القرية بين المقاومين وهم قلة وعشرات الجنود الصهاينة، الذين كانوا يسمعون صراخهم، حيث كانت الطائرات تحط حصراً ليلاً لإجلاء الجرحى والقتلى، حيث كانت تعم المنطقة موجة من الضباب الكثيف.  يستهزئ الحاج موسى وكذا الحاج محمد بالجنود الصهاينة ويؤكدان أنهما لا يقيمان أي وزن للجيش الإسرائيلي كله، لأنه بعد كل هذه السنين من الخوف والرعب الذي كان يسيطر على النفوس من مجرد ذكر إسم الإسرائيلي، جاء نفر من المجاهدين المؤمنين ليقلبوا المعادلة رأساً على عقب، وليسقطوا مقولة الجيش الذي لا يقهر، "وهذا ما رأيناه بأم العين، ولم يخبرنا أحد". في مارون كان القتال عنيفاً وشديداً بين ثلة قليلة، وجيش جرار، لا ينقصه شي‏ء من العتاد والسلاح والتكنولوجيا... ولكن الإرادة.. من أين تشتريها لكم أمريكا أيها الجنود الصهاينة؟.. بالتأكيد هي لن تستطيع إلى ذلك سبيلاً. ذكرى حرب تموز، المسافة بين العقل والقلب، تختصرها إرادة مقاوم، أبى أن يدنس المحتل أرضه، أو أن يعود به إلى زمن قحط، فاستبسل وقاتل، وكان الشعب له خير عون وسند.


(1) كرم الزيتون، منطقة في خراج عيناتا، جرت فيها مواجهة عنيفة تحدثت عنها وسائل الاعلام وأطلقت عليها هذا الاسم.
(2) إلى الغرب من قرية عيتا الشعب الحدودية، شهد معارك حامية حرب تموز 2006.
(3) الكنة هي زوجة الابن.
(4) "الشك" عبارة عن توضيب أوراق التبغ في خيطان عبر استخدام الميبر كإبرة لشك الشتلة.
(5) الميبر هو لوح معدني طويل، قليل العرض (1 سنتم على الأكثر) يستخدم لشك الورق في الخيطان.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع