آية الله الشهيد مطهري
إن المذهب الاجتماعي المتكامل والأيديولوجية الصحيحة تحتاج إلى نظام فكري وفلسفي، وتحتاج أيضاً إلى الإيمان. بمعنى أن يكون قائماً على أساس رؤية كونية محكمة ومنطقية خاصة، ومجهزاً بالاستدلال والنظام، وبتعبير اليوم، يكون له رؤية منسجمة ومتكاملة حول العالم، وفي نفس الوقت يتمتع بالإيمان، ويكون له القدرة على إيجاد الانجذاب والعشق والمحبة للأهداف والغاية السامية التي تتجاوز الفرد نفسه والنقص الحاصل في بعض المذاهب الاجتماعية، بل في معظم مذاهب العصر كمذهب الوجودية هو أن هذه المذاهب كانت تريد وضع أيديولوجية بدون إيمان، أي بدون ذلك الشيء الذي يفوق الإنسان فيجعل فيه عشقاً وانجذاباً، ويكون سبباً لتوجه الإنسان وعبادته. فقد كانوا يريدون أن يوجدوا مذهباً على أساس الفلسفة المحضة، وهذا أمر لا يمكن أن يتحقق. فالأيديولوجية التي تقوم على أساس الفلسفة المحضة بدون الإيمان الممتزج بالعشق والانجذاب نحو الهدف الأسمى لا يمكن أن تكون أيديولوجية إنسانية كاملة.
وأحياناً يصبح الأمر مشابهاً للدور، حيث يُعلم أنه خيالي مستفاد من قوة الخيال عند الإنسان، فيأتون ليجعلوا الأيديولوجية موضوع الإيمان لأنهم يشعرون بهذا الفراغ الحاصل من فقدان الإيمان بالهدف الأسمى. في حين أن الأيديولوجية مشروع ينبغي أن يشتمل على الإيمان، ولهذا تصبح مقدسة، أما إذا لم تكن مشتملة على الإيمان وكانت مجرد نظام فكري بحت ثم أردنا أن ندخل إليها الإيمان فهذا لا يتناسب مع المنطق بأي وجه من الوجوه. ويكون ذلك أمراً مفروضاً بالقوة.
والآن لنراجع بعض الأفكار السابقة حول المذهب والدين: "فالدين عبارة عن نظام فكري عملي واحد". فهو ليس نظاماً فكرياً بحتاً يرتبط بالعلوم النظرية فقط. وبتعبير فلسفتنا النظام الفكري النظري هو الذي يبحث حول ما هو موجود. فإذا قلنا أن فيزياء أرسطو عبارة عن نظام فكري نظري فهذا يعني نوعاً من التفكير في ما هو موجود. أو إذا قلنا إن فيزياء نيوتن هي عبارة عن نظام فكري آخر فيما هو موجود.
أما النظام الفكري العملي فهو الذي يبحث فيما يجب أن يكون، وبتعبير الأقدمين هو الحكمة العملية التي هي الشق الآخر من الحكمة.
فالدين عبارة عن نظام فكري عملي واحد، وهو نظام للفرد والمجتمع الإنساني فيما يجب أن يكون. وفي تعريف المذهب الاجتماعي ينبغي أن نضيف كلمة أخرى فنقول: إن المذهب الاجتماعي عبارة عن نظام فكري اجتماعي عملي، فهو ليس مجموعة من الأفكار المتناثرة التي لا تشكل نظاماً واحداً.
ما هو الجهاز الصناعي؟ إنه مجموعة من الأجزاء التي تشكل وحدة تعمل بشكل منسجم. فالبناء عبارة عن جهاز واحد لأن كل جزء فيه يؤدي دوراً معنياً ويشكل الجميع هدفاً واحداً. ولهذا فإن الأفكار المبعثرة ليست ديناً.
ومجموع الأفكار المنسجمة التي ترتبط بالحياة العملية، أي ما ينبغي وما لا يجوز، تشكل مذهباً يقوم على أساس الأفكار النظرية. وتعد هذه الأفكار روح المذهب. ولهذا نحن نقول أن كل أيديولوجية تقوم على أساس رؤية كونية. تعني مجموع الأفكار حول العالم كما هو. ولكنها أيديولوجية ترتبط بالإنسان كما هو وكما ينبغي أن يكون.
فأساس المذهب هو تلك الروح التي تجمع الجميع تحت جهاز واحد وجسم واحد. فيكون الجميع بمنزلة الأعضاء والجوارح الأساسية وغير الأساسية حتى أن البعض يمكن أن يكون له جانب غير أصيل...
* الأيديولوجية تقوم على أساس فلسفي وإيماني
الفكرة الوحيدة التي يمكن أن تشكل روح المذهب هي التي تكون الأساس الكوني للمذهب من جانب، تحمل نوعاً من التفكير والتقييم للوجود، ومن جانب آخر تكون ذات هدف. وهذا ما ذكرناه بأن الأيديولوجية تحتاج إلى أساس فلسفي وأساس إيماني. فالرؤية الكونية التي لا تمتلك هدفاً لا يمكن أن تكون محرّكة. مثل أعظم المذاهب الفلكية، فهو يقدم لنا مسائل علم النجوم، فنحصل من خلالها على معلومات حول الكون لا غير. ولكن ذلك لا يجعلنا نرتبط بها. فسواء كانت تلك النجمة موجودة أم لا، فإن هذه الفكرة لا تؤثر على حياتنا وأهدافنا. خلافاً للدين الذي يقدم للإنسان ذلك الشيء الذي يحمل هدفاً للإنسان.
* التوحيد أساس الرؤية الكونية، التوحيد هدف
للتوحيد مثل هذه الخصوصية، فهو من جانب أساس الفلسفة الكونية ونوع من الرؤية حول الوجود أو من جانب آخر هو هدف ومثال. وكلمة "لا إله إلا الله" تبين التوحيد في الوجود. وللقدماء تعبير يقولون فيه أن التوحيد على أقسام: التوحيد في الذات والتوحيد في الصفات والتوحيد في الأفعال والتوحيد في العبادة فالتوحيد في الذات يعني الاعتقاد بالتوحيد الذاتي "ليس كمثله شيء". أما التوحيد في الصفات فيعني أن ذاته عين صفاته وأن صفاته عين بعضها البعض. فهو في عين الوحدة والبساطة جامع لجميع الكمالات.
وكذلك التوحيد الاأفعالي... كل هذه تعتبر مجموعة من الأفكار النظرية والفلسفية ولكن يوجد شيء آخر وهو التوحيد في العبادة. ينبغي أن يُعْبَد لأنه إله وهو أهل للعبادة، وعبادته مغروسة في عمق روح البشر: ﴿أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض﴾ (آل عمران: 83).
العبادة التي نؤديها هي عبارة عن نوع من التسليم والانقياد الاختياري إلى جانب العبادة التكوينية الموجودة في جميع الموجودات:
﴿يسبح لله ما في السموات وما في الأرض﴾ (الجمعة: 1).
﴿سبح لله ما في السموات وما في الأرض﴾ (الصف: 1).
﴿لله يسجد من في السموات والأرض﴾ (الرعد: 15).
من هنا، فإن التوحيد في العبادة يعني أن ذات الحق هو الهدف الوحيد للبشر. وكما نقول أيضاً أنه لا شريك له ولا مثيل، ولا تَركُبْ في ذاته وهو مبدأ العالم.
ولهذا، فنحن نقول أن التوحيد يمتلك هذين البعدين، فهو نوع من التفكير والرؤية حول الوجود، وأيضاً هو هدف بحد ذاته للإنسان...