نسرين إدريس
اسم الأم: ابتسام ذياب
محل وتاريخ الولادة: شمسطار 26 - 5 - 1990
الوضع العائلي: عازب
محل وتاريخ الاستشهاد: زبقين 5 - 8 - 2006
عندما كان رأفت يهمس لوالدته وهي منهمكة في أعمال المطبخ ليُريها أن خطاً رفيعاً من شاربه قد نبتَ، كانت والدته تسارع للابتسام باستهزاءٍ وهي تؤكد على قوله حتى دون أن تلتفت، فيجن جنونه لأنها لم تنظر إليه ولو بطرف عينها، فيركض إلى المرآة ليؤكد لنفسه: "بلى، هناك أثر، صغير جد".
لقد أراد منذ صغره أن يكبر بسرعة. رأفت الذي كان يطوي الأيام كمن يسابق الزمن، في ذلك المنزل المفعمِ بالإيمان والتقوى، والالتزام القوي بخط ونهج المقاومة، حيث لا يوجد هناك تاريخ لانتمائه إلى المقاومة. فهو منذ نعومة أظافره تشرّب مفاهيم الجهاد والشجاعة. فمن صفوف كشافة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف التي لم يستمر في الانضمام إليها كثيراً، إنطلق إلى الأفق الأرحب لأنه كان يريد أن يكون مع المجاهدين بأسرع وقت ممكن.
في صحراء الشويفات، تربى ونشأ، وبين مسجد الإمام زين العابدين عليه السلام والمنزل الذي كانت تعقد فيه بين حين وآخر حلقات دينية وسياسية وجهادية، وعى كل ما يدور حوله، فكان يقضي أوقات فراغه في المسجد تالياً للقرآن عابداً لله، ومع والده وإخوته متشوقاً للحظة يكون معهم في صفوف التعبئة العامة لحزب الله.
فتىً نشيط جداً ومبادر، حتى أن جارات الأم يغبطنها على رأفت الذي يساعدها في أغلب الأعمال المنزلية. أما الوالد فقد كان مطمئناً لوجود "رجل" يتكل عليه في بعض الأعمال الخارجية ويخفف عنه الكثير. فرأفت الذي لا يتعب ولا يكل ولا يمل من شيء يريد أن يعيش تجارب الحياة باكراً.
كان رأفت الطالبُ الصغير يعود من مدرسته إلى مسجد الإمام زين العابدين عليه السلام ليؤدي صلاته ولينهل من تعاليم الشيخ بلال ناصر الدين الذي كان الأب الروحي لرأفت كما لوالد رأفت وإخوته وأهل المنطقة. ورأفت صاحب الملامح الوسيمة، والأناقة المفرطة، والعاشق جداً للخصوصية والسرية، كان يصرّح في كل المجالس عن تشوقه لبلوغ العمر الذي سيؤهله للانخراط في صفوف التعبئة.
وأخيراً رأى في الدورة الثقافية بوابة الفرج، مخبراً والده أنه لن يستطيع بعد الانتظار هذه المدة الطويلة قبل أن ينخرط في التعبئة.
وفي الصيف الماضي، بينما كان يقضي أولى أيام الصيف في قريته سمشطار، أبلغ أخيراً أن الموافقة تمت على التحاقه بأولى دوراته العسكرية، فلم يصدق ذلك. كان دائماً يتقدم بالطلب ويُرفض لصغر سنه. وضّب حقيبته بأقل من خمس دقائق، وأرسل قبلات عبر الهواء إلى أخيه وسلامات إلى أهله وركض إلى الوعر الذي يصنع الرجال.
عاد رأفت من الدورة والسعادة تغمر قلبه. قبّل يدي والده ليطلب رضاه هامساً له: "أخيراً أنا معك في التعبئة". وبدأ بالتباهي، إنه ينتظر حفل الترفيع، وينتظر المراسم الرسمية التي يخفق لها قلبه بشغفٍ. ولسبب لم يكن ليعرفه أحد آنذاك صار يتحدث كثيراً عن الشهادة أمام أهله وبعض رفاقه، وهم يلاقون حديثه بالكثير من الاستغراب والاستهزاء معاً لصغر سنه، حتى أنه قال لأحد أصدقائه: "أنا سأستشهد" فضحك صديقه راداً عليه: "وما دخلك أنت بالشهادة؟! "، فأصر رأفت على قوله: "سترى غداً كيف".
إن تلك الروح الثورية هي نتاج تربية أصيلة. وعشق الجهاد هو ثمرة شجرة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء. وذلك الاندفاعُ الحقيقي المدموغ بالوعي الديني والسياسي والفهم العميق للمبادئ والقيم، هو خلاصة ما حملته شخصية فتىً لا يزال يتابع دراسته الأكاديمية في الصف التاسع أساسي. وكما تهيأ لتقديم الإمتحان الرسمي خلف الطاولة المدرسية، كان يدرك؛ كيف ولماذا هو اختار أن يكون في نفس الوقت في صفوف التعبئة العامة.
وحان وقتُ المرابطة الأولى؛ التي انتظرها منذ سنتين، ولم ينفع إقناع الإخوة بطوله الممشوق وبنيته القوية وخط رفيع لا يكاد يُرى من شاربه بالموافقة، ولكن إصراره الغريب حملهم على ذلك. هيأ الحقيبة بهدوء، وحاولت والدته إقناعه بتأجيل الذهاب إلى الجنوب بسبب مرضه وحرارته المرتفعة جداً، فابتسم لها وأشار إليها أنه سيكون هناك على أفضل ما يرام ولم ينسَ الأدوية التي سرعان ما رماها وهو في طريقه إلى الجنوب. ودّع الأهل والأصدقاء، الذين ترك رأفت سهراتهم الأنيسة به وبضحكه وأخباره ونكاته الجميلة.
قبل انقضاء الأسبوع الأول من وجود رأفت في المرابطة بدأت فصول العدوان الإسرائيلي على لبنان، وكما ثبت الرجال، ثبت رأفت، لم يخالج قلبه الخوف، ولا خطرت في باله العودة، بل بقي المبادر الأول والمسارع لتنفيذ أي مهمة.
في بلدة زبقين حيث رابط مع مجموعة من المجاهدين، كان مثالاً للمجاهد الصابر المحتسب، المشتاق إلى الجنة التي طالما سأل عن شكلها وطبيعة الحياة فيها. وحين ورد للإخوة خبر عن احتمال قيام مجموعة عسكرية من العدو الإسرائيلي بإنزال في البلدة، كان يجب عليهم أن يختاروا استشهادياً للمهمة، فسارع رأفت لطرح اسمه، ولأول مرة استخدم صغر سنه "نقطة في صالحه"، قال لقائد المجموعة وللإخوة معه: "أنا أصغركم، وليس عندي أولاد ولا مسؤوليات، فاتركوا المهمة لي". وافق مسؤول المجموعة، وتزنر رأفت بالرصاص والقنابل، ورابط في خندق لوقتٍ طويل إلى أن طلب منه الانسحاب، فعاد حزيناً منكسر الخاطر إذ أنه شعر أن الشهادة كانت قاب قوسين أو أدنى.
وفي يوم الجمعة طلب من رفاقه أن يتركوا له حصته من ماء الشرب ليغتسل غسل الجمعة بها، وصلّى صلاة أمير المؤمنين.
كان صباحُ السبتِ عندما تعرض مكان قريب من مكان الإخوة لغارة صهيونية، فأصيب رأفت بشظية في رأسه ما أدى إلى استشهاده على الفور، وعند ذلك بدأ الإخوة يصرحون لبعضهم أنهم كانوا يرون نوراً ينبثق من بين عينيه، ولكن أحداً لم يتجرأ على قول ذلك.
لم يتقدم رأفت للإمتحان الرسمي، وصحيح أنه غادر صفوف الدراسة، ولكنه لا شكَّ نال الشهادة.
أصغر شهداء الوعد الصادق، صار عنواناً من عناوين الفخر؛ فقد افتتح شارع باسمه في قريته وسميت مكتبة ثانوية شمسطار الرسمية باسمه أيضاً، ليكون رأفت ذياب، الشهيد الصغير، الذي لو أن اللَّه منحه عمراً مديداً لم يكن ليختار غير ما اختاره في تموز 2006.