نسرين إدريس قازان
اسم الأم: زينب عبيد
محل وتاريخ الولادة: الهرمل 1/ 04/ 1940
محل تاريخ الاستشهاد: مستشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم 13/ 01/ 2010 (متأثراً بجراحه منذ عام 1986)
الوضع العائلي: متأهل وله ابن وابنة (متوفاة)
رابطَ خلف متراس الصبر.. وطوال سنوات امتشق سلاح الصمت، فآلام الجراح كانت ساحة جهاده، تلك الجراح التي عاشها وأحبّ مرارتها لأنها بعين الله.
فتح عبدو عينيه على الدنيا في قرية الهرمل، وقبل أن يبلغ السنتين من عمره انتقلت العائلة إلى منطقة الكوكودي في الضاحية الجنوبية. وعملت أمه ليل نهار لأجل تربية أولادها بعد أن أقعد المرض زوجها.
كان عبدو منذ صغره فتىً حيوياً، طيّب القلب، طموحاً وذكياً. وفي سن الخامس عشرة من عمره التزم بالأحكام الشرعية، وتأثر كثيراً بشخصية الإمام السيد موسى الصدر، فيما بدأت ملامحُ ثورة الإمام الخميني الدينية والفكريّة والسياسيّة بالظهور، فوجد عبدو في النهج الخميني الخلاص له في الدنيا وفي الآخرة.
* في خندق واحد مع المجاهدين
غمر عبدو بطيبة قلبه وهدوئه إخوته وعائلته. وكان المعين لهم بما استطاعه وهو لا يزالُ تلميذاً على مقاعد الدراسة. وكان يقطع مسافة طويلة للوصول إلى مدرسته في منطقة بيروت الشرقية، التي نال فيها شهادة الثالث الثانوي حائزاً على المرتبة الأولى بين رفاقه. في هذه الأثناء تعرّف عبدو إلى المجاهدين والعمل المقاوم. ولأنه كان واعياً لكل ما يحصل في تلك الفترة من تغيرات اجتماعية وسياسية وأمنية، ترك السعي وراء تأمين مستقبله في وظيفة أو عمل، ليكون في خندق واحدٍ مع أولئك الرجال الذين تركوا كل شيء لأجل مقاومة العدو الإسرائيلي.
اختزل عبدو حياته في العمل المقاوم، ولم يمتهن أي مهنة أخرى، ذلك أنه شعر أن تلك الفترة تستلزم العمل ليل نهار وبذل كل الجهود لإثبات أحقية الجهاد وجدواه. وكان اليوم المفصلي لهذا التحدي هو يوم المواجهات التي خاضها المجاهدون ضد العدو الصهيوني أثناء اجتياحه لمنطقة بيروت، وكان عبدو من المشاركين في هذا التصدي البطولي.
* وهب حياته للمقاومة
وعلى الرغم من ضيق حالته المعيشية، إلا أنه لم يفكّر إلا بكيفية تأمين المال للمقاومة لشراء السلاح والعتاد، فما كان منه إلا أن تصرف بما تملكه أخته من الذهب بعد أن وهبته إياه، فباعه واشترى بثمنه سيارة صغيرة عمل عليها سائقاً وما كان يجنيه كان يضعه تحت تصرف المجاهدين.
حافظ عبدو على سرية كل خطوة كان يقوم بها، فكان يعود إلى المنزل بعد غياب بثيابه الممزقة مرهقاً متعباً، كما شارك في الدفاع عن المقاومة في كل الساحات وبكل ما أوتي من قوة.
مع صديقه المقرّب الشهيد أسعد موّاسي، شارك عبدو في العديد من العمليات العسكرية التي كانت تجللها الصعوبات نظراً لملاحقة المجاهدين وبث العيون عليهم. ولكن التضحيات الجسام أثمرت أولى بدايات النصر في العام 1985، فانكسرت "القبضة الحديدية" وانسحب العدو الصهيوني من معظم قرى الجنوب ليشكّل ما عُرف بـ"الشريط الحدودي". كانت تلك الأيام من أجمل الأيام التي شهدها عبدو، فأدرك ورفاقه أن ما بعد تلك المرحلة سيكون عليهم الحفاظ على ما حققوه من انتصار في سبيل تحقيق انتصارات أخرى.
* طينة مجبولة بالعطاء
تزوج عبدو ورزق بولدين هما: عباس وحوراء، وسكن بمحاذاة منزل ذويه. وكان يغيب لفترات طويلة عن عائلته بسبب طبيعة عمله الجهادي، ولكنه ما إن يعود إليهم حتى يغمرهم بعطفه وحنانه ورعايته.
أجاد عبدو حمل همّ الآخرين، فسعى إلى خدمتهم بكل جوارحه، وكأنّ طينته كانت مجبولةً بالعطاء، وكان عطوفاً يلتمسُ برّقة قلبه الأحزان التي يخبئها المرء في فؤاده، لكثرة ما أصابه الدهر من نوائب. فهو فُجع بوفاة شقيقه "خضر" البالغ من العمر 21 سنة إثر حادث سير في منطقة الزهراني ـ النبطية، وفي غمرة الحزن عليه، كان همُّه والدتَه وكيف يخفف عنها ألم الفراق، ولكن الزمن لم يمنحه الوقت الكافي، فسرعان ما انتقل والده إلى دار البقاء بعد معاناة طويلة مع المرض.
* تآخى والألم
في أحد أيام العام 1986، أصيب عبدو في خاصرته أثناء عمله الجهادي، فخضع لعدة عمليات جراحية لاستئصال الكبد والطحال. ورجع إلى بيته على كرسيّ متحرك حاملاً معه جعبة من الألم الطويل الأمد. ومع ذلك الكرسي مشى في طريقِ الحياة الصعبة.
تآخى عبدو والألم، ولكنه لم يركن إليه، فبدأ بتنظيم شؤونه الخاصة. وما ساعده في التعايش مع حياته المستجدة ومع الكرسي الذي صار جزءاً لا يتجزأ منه، ذلك الرضا المطلق بقضاء الله عز وجل، والتسليم لإرادته.
* في خدمة الناس
خاض عبدو غمار العمل الاجتماعي، واضعاً نفسه في خدمة الناس، ساعياً إلى تأمين احتياجاتهم، وحلّ مشاكلهم، ومساعدتهم في تخطي الظروف الصعبة، فما قصده أحد لطلب إلا ولبّاهُ وطيَّب خاطره، وكان يجمع المال من الجيران ويدفع من ماله الخاص لكي يحسن من وضع الحي، كما اهتم كثيراً بالبيئة فطلب إذناً من البلدية لتشجير الحي والطريق المؤدية إليه، وكان يسقي الشجر يومياً حتى صار مع الزمن باسقاً وارفاً.
لبث عبدو معظم وقته في المسجد. كان يستيقظ قبيل الفجر وينادي أمَّه كي تفتح صنبور المياه المركزي لأهالي الحي، فيما يتوجه إلى المسجد الذي حضنت جدرانه أسرار الحاج عبدو وآلامه وأحزانه، وشهدت على سيره وسلوكه نحو الله متقلّداً جرحه وساماً.
* وألم فقد الولد
عاش عبدو حياته الزوجية بمثالية، وكان أباً محباً وحنوناً لولديه عباس وحوراء اللذين انتظر أن يراهما في ريعان شبابهما بفارغ الصبر، فهما وردة تفوح سعادة وحبوراً في حياته الشائكة.. وما إن بلغت حوراء السابعة عشر من عمرها حتى بدأ يحلم بأن يراها في فستانها الأبيض، ولم يخطر في باله طرفة عين أبداً، أنه سيأخذ بطرف ثوبها الأبيض وسط البكاء والنحيب.. ففي العام 2005، انقلبت الحافلة التي كانت تعود بها حوراء من زيارة السيدة زينب عليها السلام في حملة إلى سوريا وهي في طريق العودة عند مفرق الكحالة وتوفيت على الفور. فغرق عبدو في حزن شديد على فلذة كبده وتحولت لقاءاتهما إلى زيارات لقبرها في القرية حيث يجلس بالقرب منه ليقرأ لها القرآن بصوت تخنقه الدموع.
* "أنا شهيد حي"
مع بداية عدوان تموز 2006، استهدف الطيران الحربي الإسرائيلي خزانات الوقود في مطار بيروت الدولي، على مقربة من الحي الذي يقطن فيه الحاج عبدو. وكانت طائرات العدو تروّع بصواريخها الآمنين في بيوتهم، فكان الحاج عبدو يهدّئ من روع الناس ويخفّف من آلامهم. وطوال فترة الحرب لم يغادر الحي، بل بقي على كرسيّه المتحرك، وبندقيته على ركبتيه، متحسراً على عدم استطاعته المشاركة في المواجهات ضد العدو الصهيوني.
خمسة وعشرون عاماً كان خلالها الحاج عبدو مثالاً للجريح المجاهد الصابر، للإنسان الذي وإن أقعدته الإصابة، فإنها لم تقمع بداخله روح المقاومة، فأنشأ لنفسه ساحات جهاد مختلفة، وكان دائماً يردد: "أنا شهيدٌ حي"، إلى أن اختاره الله تعالى إلى جواره، ليختم برحيله مسيرة جهادٍ طويلة، جهاد أوله الصبر وآخره الجنة.