مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

في ذكرى استشهادها: أم ياسر الموسوي في وجدان محبيها

تحقيق: ولاء إبراهيم حمود



أم ياسر... يا أجمل الأمهات شهيدةً وشاهدةً... أيتها المعلمة الأصيلة... طرقت بابكِ أتعلم من سيرتكِ... فإذا بي أمام حديقة من ضوءٍ وعطرٍ ولون... ضياء قلبك المشع حباً، أنار لنا دروب الحب حتى ضفاف الشهادة؛ وأمومتكِ حركت أراجيح العمر على أشعة قمر الوفاء حتى حدود التلاشي، فكان "حسين" وردتكِ التي قدَّمتها تحية حب عظيمٍ في آخر الرحلة... لكفَّي عباسك الذي سابقكِ فسبقتِه.. والله وحده يعلم أيكما وصل أولاً... ما عرفناه فيما بعد أنكما امتزجتما امتزاج السيف في غمده... والورد في ذوب عطره... وماء الحياة مع أديم الأرض، فأينعت شهداء مضوا على خطاكِ.. وانتصاراً كلَّلته منكِ مع "حسين" وأبي ياسر دماكِ. لم تختلف يا أم ياسر شهادتكِ التي "عزَّ نظيرها" عن مسيرة حياتك، فقد كتبتِ في رحلة الحياة كما رحلة الشهادة . صعبٌ أن أغادر روضتكِ اليانعة... صعبٌ أن أفارق وجهك السمح الشهيد.. لكنها ضرورات الاكتفاء بتحيةٍ عاجزةٍ حتى عن أقل العرفان في ردِّ الجميل، فاقبليها على قصورها وتقصيرها.. فأنت الكريمة ونحن المقصرون. في ذكراك وإليكِ باقة الحب هذه، مني ومن ياسر وبتول وأم زهراء.

* أم زهراء خاتون:
من لحظة التعارف الأولى في بيتنا في النجف عندما زارتني مهنئةً بزواجي، أحسستها امرأة مميزة. كانت تدرس عند زوجها السيد عباس، بعد أن توطدت العلاقة عبر الزيارات المتبادلة.. درسنا سوياً عنده في منزلهم. لفتني التوازن العام في شخصيتها الذي تجلى في نجاحها في علاقاتها الاجتماعية كزوجة عالم جليل يقصد الناس منزله، وفي دورها الأسري كزوجة وأم وربة منزل، فضلاً عن نجاحها في تحصيلها وحرصها على عباداتها وعلى أخلاقياتها. كنا رفيقتي درب واحد، معاً في الدرس والتدريس في حوزة الزهراء في بعلبك، ومعاً في التبليغ بين القرى، وجيراناً في البناية نفسها. كان استشهادها فاجعاً هزّني في الأعماق. حزنت جداً لفراق أغلى صديقةٍ وأخت في حياتي. لقد تركت فراغاً كبيراً، لم يملأه سواها وما زلت حتى الآن أشعر بغصةٍ كلما ذكرتها مع أنني الآن أغبطها، لأن شهادتها جاءت تتويجاً لمسيرة عمل جهادي وعبادي عظيم. وهي وصلت إلى ما كانت تتمناه من بلوغ أعلى الدرجات عبر الشهادة. والآن وبعد مضي هذه السنين، أرى أن أم ياسر تمتلك جوهرة من الأخلاق التي تشع وتترك أثراً، تماماً كالماء الذي يحيي يباس الزرع أينما حلّ. هي تركت آثاراً لا تُرى بالعين المجردة. وقد ظهَّر الله سبحانه هذا الأثر عندما اختارها شهيدة. لقد تركت أثراً في كل من عرفها. لقد جمعت بين جهاد العلم والشهادة فأحيت بذلك نفوساً اقتدت بسيرتها. كانت تمتلك شجاعة المواجهة وتصويب الأخطاء بلباقة.. كانت تمتلك الصبر الجميل. كانت تحمل آلامها بصمت: ما شكت يوماً، حتى مرض ابنها الذي أضاف إلى مسؤولياتها الجسام مسؤوليات أخرى حملته بصبر جميل. بفقدها افتقدنا روحيتها القدوة. بقي الحنين إليها مرافقاً للشعور بالعجز عن التعبير عما تمثله هذه السيدة الجليلة والشهيدة العظيمة.

* بتول (ابنة الشهيدة):
بالرغم من السنوات القليلة التي قضيتها مع الوالدة، لمسْتُ فيها مدى عمق علاقتها وإيمانها بالله تعالى. في كل عمل تقوم به تذكر الله ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب. وهي التي عملت على تربيتنا تربية صالحة مؤمنة، بحيث رسّخت في أذهاننا بأنّه (كلّ يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء)، وأنّ هذه المقاومة وهذا النهج الذي نسلكه هو امتداد من كربلاء، وممهِّد لعصر ظهور بقية الله الأعظم عجل الله تعالى فرجه. قلبها النابض بحبّ الحسين عليه السلام وزينب عليها السلام دعاها لتكون شريكة العلم والجهاد مع السيد عباس، من النجف وكربلاء، إلى معقل المقاومة في بعلبك وجبل عامل. سلكت مع والدي سبيل أهل بيت محمد الأطهار الميامين عليهم السلام، طريق ذات الشوكة المحفوف بالمخاطر. فحياة الوالد كانت مهدّدة بشكل دائم؛ ومع ذلك كانت مطمئنّة بأنّها ستنال الشّهادة مع والدي، وتدعو لنا الله دائماً أن يرزقنا الشهادة، وأن يكرمها بالشهادة مع والدي، لتكون شريكة الجهاد والشهادة. ربّتنا على حبّ الجهاد، وكانت تفرح عندما يصحب والدي إخوتي معه إلى ساحات الجهاد أو يرسلهم إلى معسكرات التدريب، رغم صغر سنّهم..

عندما كانت تغيب عن المنزل، كانت تستدعي خالتي لمجالستنا والبقاء معنا، فيسألها البعض: (تتركين أولادك وتحاضرين هنا وهناك؟) فتجيب: الله يرعاهم ويتكفَّل بهم. وبالنسبة لشدّة تعلّقها بالوالد، سألتها مرّة عن سرّ تعلّقها الشديد به وحبّها له، فأجابتني: (لأنّي أشمّ في أبيك رائحة عليّ بن أبي طالب عليه السلام). كانت مواظبة بشكل دائم على الاستيقاظ لصلاة الفجر، تصلّي وتقرأ القرآن مع الدعاء، وكانت ملتزمة بأوقات الصلاة ومكان مصلاّها. وغالباً ما كنت أقصدها لحاجة ما أثناء صلاتها، فأرى الخشوع والدموع وطول السجود والبكاء، وكانت مواظبة على عدّة أدعية وزيارات (زيارة الحسين دعاء كميل والتوسل والعهد ودعاء السمات..). وكنّا نتشارك دعاءَيْ التوسّل وكميل أثناء وجود الوالد معنا، فكان يقرأه بصوته الحنون وكانت لحظات لا تُنسى، ولا أنسى قراءته لدعاء النّدبة عند جنّة الشهداء في بعلبك.

كان لها رضوان الله عليها علاقتها الخاصّة بالله وأوليائه، دائماً كانت تشعرنا برقابة الله عزَّ وجلَّ، وهذا يظهر من خلال ذكرها الدائم له سبحانه، عاملة بمقولة أمير المؤمنين عليه السلام: "ما نظرت إلى شي‏ء إلاّ ورأيت الله قبله ومعه وفيه وبعده". إذا وصفها إنسان بالكرم مثلاً كانت تقول: "كيف لا أكون كذلك وجدّتي فاطمة الزهراء عليها السلام"؟ وكانت تحدثنا دائماً عن علامات الظهور والتهيؤ لظهور الإمام، وكيفيّة التمهيد لدولته المباركة، والدعاء بتعجيل الفرج، وقصص العلماء الذين حظوا برؤيته عجل الله تعالى فرجه الشريف، رابطة ذلك كلّه بثورة الإمام الخميني قدس سره. حبّها الكبير للإمام روح الله الخميني، زرع فينا عشقه ومحبّته: أثناء مرض الإمام الذي توفّي فيه وقبل ليلة من إعلان وفاته، وعند تحسّن حالة الإمام كانوا قد طلبوا أن نكبّر من على أسطح المنازل، فأذكر أننا كبّرنا لسلامة الإمام، ووعدنا والدي بالسفر معه لرؤيته قدس سره. وبعدها بيوم على ما أذكر، تدهورت صحّة الإمام. وبعدها، وصل خبر وفاته. حتى الآن لا أنسى ذلك اليوم، وأسمّيه بيوم الفجيعة عند والديّ. استيقظنا صباحاً على صوت البكاء والنحيب، بحيث اعتقدنا بأن والد أمّي (جدّي) هو الذي مات، وإذ بنا نفاجأ بأنّ الإمام قد رحل. وكانت والدتي كلّما سافرت مع والدي إلى إيران، التقت بالإمام. وبعد عودتها كانت تحدّثنا عن كيفيّة اللقاء به تفصيليّاً. وعندما رافقها في إحدى زياراتها الشهيد حسين (أخي)، حدّثتنا عن كلام الإمام عنه عندما وضع الإمام يده على رأسه، ودمعت عيناه قائلاً: "حسين مظلوم"، فكانت مستبشرة حينها بكلام الإمام، بأن حسيناً سيُرزَق الشهادة.
دماؤها التي سقطت في الجنوب تتحدّث عن عطائها وعن قربها من الله عزَّ وجلَّ.

* ياسر عباس الموسوي‏
كنت في أمسِّ الحاجة إلى حنانها عندما فقدتها، في الخامسة عشرة من عمري. هي من سهرت على تربيتنا وتهذيبنا. كانت تشرف على أبسط التفاصيل اليومية في حياتنا، الأمر الذي لم يتيسر للوالد بحكم موقعه وتصديه للشأن العام. وكرجل قيادي، كان منزله مفتوحاً لقاصديه. إن ثمة مواقف للوالدة لا أستطيع نسيانها. كانت أماً لستة أولاد، بينهم مريضٌ يحتاجها دائماً؛ ومع ذلك، عرفتها منذ الطفولة مجاهدة على جميع الأصعدة. كان منزلنا منطلقاً لمرحلة التأسيس لحزب الله. كانت أكثر اللقاءات التأسيسية تتم فيه. ولم تكن الوالدة تتذمر أو تشكو من أي ضغط نفسي أو مادي يسببه هذا الأمر، كان أحب أمر إلى قلبها. ما كانت تحبه دائماً، هو مجي‏ء الإخوان أي (العسكر)، وأن تكون في خدمتهم. أذكرها إنسانة متعلمة، تتلمذت على يد السيد عباس والشهيدة بنت الهدى. وصلت مرحلة السطوح وأنهتها... كانت إضافةً إلى دورها التبليغي مع صديقتها "أم زهراء"، سيدة منبر. وللأسف، ليس لها سوى محاضرتين مسجلتين. كانت تمتلك فصاحةً وبلاغةً، قلَّما امتلكتهما امرأة في ذلك الوقت الذي كان يفتقد إلى الشخصيات النسائية؛ حتى الأسيرات اللاتي عرفنها قبل استشهادها بفترةٍ وجيزة، تألمن لفراقها وتأثرْن بها.

صدِّقي أو لا تصدِّقي، من عمر الخامسة عشرة حتى الواحدة والثلاثين، لا أذكر يوماً مرَّ إلا وتذكرت فيه الوالدة المعطاءة، التي كانت على استعداد لإعطاء كل ما تملك. لجأت إحداهن لها، تشكو خلو بيتها من المازوت ومن سجادةٍ يجلس عليها الصغار في طقس عاصف جليدي، فما كان منها إلا أن طوت لها سجادتين لم يكن لدينا سواهما، فلم يكن من السيد الوالد عندما عرف بالأمر، إلا أن احتضنها أمامنا وقبَّل جبينها شاكراً لها هذا العطاء الجميل. ربما كانت أصعب محطات حياتي في غيابها لحظة طلبتُ يد زوجتي. كنت أتمنى وجودها قربي، تبارك لي، تقاسمني فرحتي. كانت فرحتي كئيبةً؛ ولكن ما خفَّف عني وطأة الكآبة، هو وجود سماحة السيد حسن نصر الله إلى جانبي، يملأ فراغ الوالدين معاً، مصراً على مرافقتي إلى البقاع.

كان تقديرها للوالد ومحبتها له كبيرةً جداً. أذكر أنها في أول رحلةٍ لها إلى الجمهورية الإسلامية، أخبرتنا أنها طلبت ضمن أول طلباتها، أن يحمي الله السيد عباس، وأنها تستطيع أن ترى رؤوس أولادها مقطعة في سبيل الله تأسياً بالإمام الحسين، ولكنها لا تستطيع أن ترى إصبع السيد عباس مجروحة. وعندما اعترضت عليها، أجابتني أن الأمة الإسلامية وصحوتها الجديدة، تحتاج السيد عباس قائداً موجهاً، ومرشداً.. وإن كان لا بدَّ من قرابين تضحية، فليكن أنتم "ألا ترضى أن تواسي أمك الزهراء بولد أو ولدين..".

كانت علاقتها بوالدي قائمة على كثير من الود والاحترام المتبادل، لدرجة كنت أستغرب معها كيف يختلف زوجان اثنان. كان قبل أن يطلب منها أي طلب.. يسألها إياه معتذراً... وعندما انتخب الوالد أميناً عاماً للحزب، فرحت كثيراً كأي فتىً يسعده ارتقاء والده، وعندما ذهبت أخبرها، وجدتها باكيةً، لأنه صار أكثر عرضةً لمحاولات الاغتيال، بعد تعرضه لمحاولتين فاشلتين. حتى السيد كان يقول: "طالما أم ياسر مش معي، أنا ما بستشهد". لقد كانت رفيقته الدائمة، حتى في الرحلة الأخيرة.. حيث أصرَّت على أن لا تستقل سيارةً غير سيارته. كانت تصرُّ أيضاً على دور المرأة الجهادي واحتضان المقاومة، وحاولت الارتقاء بالمرأة فكرياً عبر نشاطها التبليغي إلى أحسن حال.

أذكر أننا كنا نحرص على إحياء عيد الأم، وكان الوالد يشجعنا على ذلك وأن لا نعلمها، حرصاً على رونق المفاجأة. في آخر عيدٍ أمضيناه سوياً قبل عامٍ من استشهادها، أذكر أنها احتضنتني بحب كبير وقبلتني وهي دامعةٌ، بعد أن ألقيت قصيدة كنت قد حفظتها جيداً لهذا اليوم. وعندما سألتها بعد حين عن سبب بكائها في ذلك اليوم بالتحديد، أجابتني وقد استعادت دمعة تلك اللحظة : "خُيِّلَ لي أنني استشهدت، فتساءلت: لمن سيحيي ياسر عيد الأم بعدي؟ فبكيت حينها". وما زلت حتى اليوم أحرص في عيد الأم على زيارة ضريحها، وقراءة القرآن ووضع باقة الورد عليه. كانت أمي تحرص على زيارة الشهداء، وكانت تتعاطى مع أبنائهم بحنان مميز، وتعتبرهم أمانة الله عندها، كما دماء الشهداء. تمنيت كثيراً في لحظات الشدة... لو أبقاها الله لنا، لأنها وحدها القادرة على جمع الشمل، ثم أعود لأقول: هنيئاً لها بلوغها ما كانت تتمناه من رفيع الدرجات عند الله. واليوم وأنا في هذا العمر أخاطبها عن بعدٍ قريب: كلُّنا مشتاقون يا أم ياسر، القلب يشتاقك يا أماه.. والعقل أيضاً... ستبقين في القلب زهرته الناضرة الحية، مهما طال الغياب...

أم ياسر: أيتها الجليلة العظيمة، دعيني في الختام أترك اعتذاري عن تقصيري في حقك، يرافق شوق ياسر وبتول إليك، وحنين صديقة العمر لإعادة الرحلة معك... هنيئاً لكِ فوز الشهادة الأعظم... يا جوهرة الجنان وزنبقة الوجدان في قلوب من عرفوكِ وأحبوكِ.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع