مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

صفحات من حياة سيِّد شهداء المقاومة الإسلامية

إعداد: إيمان علوية



لشباط سحرٌ خاصٌ يميزه عن باقي الشهور. وهو إن تباهى، فله الحق كل الحق في ذلك... كيف لا، وقد ارتوت حبات ترابه الربيعية الجنوبية من دماءٍ زَمْزَمِيَّة لقادةٍ طالما قد حجّوا ووجّهوا وجوههم شطر أرضِ عاملة، ومن هذه الدماء أزهرت انتصاراتنا التاريخية؟! وفي الحديث هنا عن سيد شهداء المقاومة الإسلامية السيد عباس الموسوي خصوصية، حيث جمعت هذه الشخصية صفة القيادة في كل حركتها على جميع المستويات. ولأجل هذه المناسبة، فقد اجتمعت كل الأحرف الأبجدية بحماسة في ميدان سباق الكلمات، لتبث عطر صفات هذا القائد. ولأن بضع وريقات تضيق لكامل الصفات، فقد اخترنا بعضاً من القصص لا لتأريخ الوقائع عن السيد عباس بل لتأريخ العظمة الإنسانية التي تسكن هذه الوقائع، يرويها لنا أحد المقربين الذين عايشوه في أغلب المجالات:

* القائد في معسكر التدريب:
طلب مني السيد مع بداية العمل الجهادي الحضور إلى مكان تدريب الإخوة المجاهدين للمشاركة في بعض التجهيزات، فقلت له خيراً، لكني أبديت في قرارة نفسي امتعاضاً، حيث إنه يجب عليّ الذهاب، بينما يبقى البعض للراحة. وصلت في اليوم المقرر، وفوجئت بوجود السيد عباس في المعسكر قبلي وقد ارتدى البزة العسكرية، وحمل المعول ليعمل على تهيئة الخيمة للإخوان... فما كان مني إلا أن أسرعت للعمل معه بكل لهفة.

* القائد والروح الجهادية:
أجزم القول إنَّ منزل السيد عباس الحقيقي هو محور الجهاد، وهناك تجد روحه مكانها الطبيعي. ولطالما مضت أعياد كثيرة قضاها السيد مع المجاهدين الذين بعدوا عن أطفالهم أو أهاليهم في مثل هكذا يوم.. فكان بمثابة الأب والأخ الحقيقي لهم، وكانت فعلاً أجمل الأعياد. أذكر عندما حصلت عملية الأسيرين الأولى في شهر شباط عام 1986، وكانت باكورة العمل النوعي للمقاومة، التي على أثرها عمد العدو الإسرائيلي إلى احتلال بعض القرى الجنوبية لسبعة أيام. هذه الأحداث لم تكن بمنأىً عن السيد، فقد كان حاضراً طيلة هذه الأيام في صريفا مع المجاهدين، فيما كان العدو على تخوم أو مشارف البلدة، ولم يكن معلوماً يومها إلى أين ستصل الأمور، وعاش السيد لحظات العزيمة القتالية بكل روحية.

* القائد والمجاهدون:
اعترضنا على السيد في إحدى المرات بسبب قراره زيارة المجاهدين في أحد أخطر المواقع "اللويزة" إبان الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الجنوبية. ورغم عِلْمِ السيد بمخاطر الذهاب إلى تلك المنطقة التي تختصر بعبارة: "الداخل مفقود، والخارج مولود"، بسبب وجود دبابة ميركافا كانت تتمركز على موقع سجد المقابل لها، ودبابة أخرى على موقع بئر كلاب، ما كان منه إلا أن أصرَّ على الذهاب، على اعتبار أنه ليس أفضل من المجاهدين الذين يتعرضون للخطر هناك. ولما وصلنا معه إلى المنطقة والتقى المجاهدين وعانقهم، شاهدت أحد المجاهدين قد انتحى جانباً وبدأ بالبكاء، فاقتربت ناحيته وسألته عن السبب، فقال لي: إن مواساة السيد بزيارته لهم هي التي أبكته، فعلمت حينها حكمة إصرار السيد على زيارتهم رغم المخاطرة بحياته.

* القائد الشجاع:
حيث إن الله كان هو الأكبر في نظر السيد، فقد صَغُر كل شي‏ءٍ دونه، ولم يهب أحداً على الإطلاق، وحادثة "باتر جزين" خير دليل على شجاعته، حيث ترجَّل من السيارة، وصفع الإسرائيلي. لكني سأروي قصة عن قوة قلبه حصلت بوجودي: تعوَّدنا أن السيد عباس جري‏ء القلب في مواقع الخطر، حيث يكون أول الواصلين إلى الأماكن التي تُغِير عليها الطائرات فيتفقدها. وفي إحدى المرات كان متجهاً إلى أحد الأماكن الذي أُغِير عليه من قِبل الطائرات، وهو لا يعلم أن هناك صاروخاً لم ينفجر بعد فقد انفجر الصاروخ قبل وصوله فما كان منه إلا أن تقدَّم باتجاه الانفجار ليرى ماذا يحصل وقال ممازحاً: هل ركَّبت الطائرات كاتماً للصوت أثناء إغارتها؟!

* القائد المتواضع:
ميزة السيد عباس أنه كان متواضعاً وسمحاً مع كل الناس، لكنه كان يولي خصوصية للإنسان المؤمن، فيقدمه على نفسه ببعض المواقف. وقد لفتني مشهد من علاقته مع المؤمنين، حيث دخل المسجد للصلاة فى إحدى المرات، فرأى شاباً مؤمناً يقف ليؤم الصلاة جماعة ببعض المصلين، فما كان منه إلا أن وقف خلفه ملتحقاً بالصلاة.

* القائد الرؤوف:
حين كان السيد ينظر إلى الأطفال، كان يتطلع إليهم بعين العطف والرأفة، ويبتسم لهم ابتسامة وادعة ملؤها الحنان، وكأنه يقول لهم: "أنتم المستقبل الزاخر". وللأيتام وأطفال الأسارى في السجون اهتمام من نوعٍ آخر، حيث يفيض عليهم كل ما يختزنه قلبه من رأفة: جلست لتناول الإفطار مع السيد في إحدى ليالي شهر رمضان المبارك، فيما جلست زوجة السيد في الغرفة الثانية تفطر مع زوجة أحد المعتقلين، وقد صحبت معها طفلتها الصغيرة. أثناء تناولنا للإفطار، جاءت هذه الطفلة إلى غرفتنا، وجلست قبالة صحن السيد وصارت تحرِّك "المرق" في الصحن بأصابعها والسيد ينظر إليها دون أن يقترب حاجبه من الآخر، ثم ما كان منها إلا أن أخرجت يدها من الصحن ومرَّغتها بلحية السيد التي امتلأت بمعظمها. للوهلة الأولى كنت أنظر إلى السيد لأرى ردة فعله لأن أي أب حقيقي لا يمكن أن يتحمل ما فعلته هذه الطفلة. كما أن أيّ شخص مهما كان قادراً على ضبط أعصابه أمام الناس سوف تأتي لحظة لن يستطيع ضبط أعصابه فيغضب. لم يكن من السيد في تلك اللحظة إلا أن مسح ذقنه وحمل الطفلة ووضعها في حضنه وصار يطعمها بالملعقة.

* القائد وقضايا الناس:
عام 1992، وقبل استشهاد السيد عباس بفترة قصيرة جداً، قطعت طرقات البقاع وبعلبك على أثر تساقط الثلوج المستمر على هذه المناطق دون انقطاع، فحوصرت أغلب العائلات، فيما انقطعت الأخبار عن الأهالي فيما بينهم هناك، وكانوا بحاجة ماسة إلى بعض المؤن كالخبز والماء ومواد للتدفئة "المازوت". على أثر هذه الحادثة، رأيت مدى الاهتمام الشديد عند السيد لحل هذه القضية. وكان يتابع الاتصالات للمتابعة كل لحظة حتى آخر ساعات الليل. ولما أمَّن مبلغاً كبيراً من المال، طلب منا الذهاب لحل مشاكل الأهالي هناك.. وفعلاً، فلقد ذهبنا عن طريق طرابلس إلى حمص، ومنها إلى الهرمل فبعلبك قاضين وقتاً طويلاً على الطريق، حتى نفذنا ما طلبه السيد منا.. وكم كان مرتاحاً لما حُلَّت أزمة هؤلاء الناس.

* الروحية الإيمانية:
أستطيع القول إنه من خلال وجودي مع السيد في الأعم الأغلب، فقد تمكنت من رؤية مشاهدات لعلاقته مع الله تعالى. ففي إحدى المرات، قمت من نومي بعد منتصف الليل، وإذ بي أسمع صوت السيد وهو يناجي ربه في غرفةٍ لوحده. توجهت ناحية باب الغرفة ووقفت أتأمله وهو يدعو بطريقة شعرت فيها أنه بحالة وصالٍ تامةٍ مع الله عزَّ وجلَّ، وكأن الدعاء يصدر من كل جوارحه ولا يشعر بجسده، فتركته على الرغم من أنه لم يلتفت لوجودي أصلاً.

* القائد الزاهد:
لم يكن السيد عباس زاهداً في حياته، لأن الدنيا لم تُشرِّع أبوابها له، بل لأنه ورث هذه الصفة عن جده وإمامه علي بن أبي طالب الذي خاطبها قائلاً لها: "إليك عني..". وفعلاً، فقد رغب السيد عن هذه الدنيا وعاف حطامها، وعاش فيها كما يعيش أيّ فقير، بل أقول إنه عاش أقل من مستوى الفقير في عيشه، لأن أي فقير يمكن أن يمتلك في بيته نوعاً من المؤونة المنزلية ك"البصل" أو "البطاطا"، لكن هذه الأمور غالباً ما كانت تخلو من منزله... ولطالما رجعت وإياه إلى المنزل بعد منتصف الليل إثر متابعته لمجمل القضايا التي لم تسمح له بتناول فطوره أو غذائه، فيحضر سندويشاً قد لفَّ به قطعاً من البندورة ورش عليه الملح ثم يأكله على معدة خاوية، لأن منزله يكون خالياً تماماً من أنواع الطعام. أما على صعيد الأثاث، فلا تغيب عن ذاكرتي هذه الحادثة: عندما ذهبت لأبيت في منزله بعد ذهاب زوجتي وزوجته لزيارة الأماكن المقدسة، ولما استلقيت على السرير، فوجئت بأنه يتأرجح بشكل غير مستقر، فقمت لأتفحَّصه وإذا به سريرٌ مكسورٌ ومُدَعمٌ من الأسفل بحجارةٍ من الباطون لئلا يهبط، فصرت أفكر في نفسي: هذا الأمين العام لحزب الله يمكن أن يحصل على أجمل الأثاث المنزلي، أو ربما أثاث متواضع إن شاء ترك زخارف الدنيا، لكن أن يكون أثاثه بهذا الشكل، فهو دلالة واضحة على مدى عزوفه عن الدنيا.
وبعد هذه الشواهد الصغيرة التي تثبت أن لدينا قادة كَبُر المنصب بصفاتهم ولم يكبروا بالمنصب والزعامة، أفلا يحق لنا أن نفخر ونزهو بقادتنا أمام كل الأمم، كما يفخر شباط على إخوته من الشهور؟!
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع