مع الإمام الخامنئي | كلّنا مَدينون للنبيّ الأعظم* نور روح الله| هكذا كانت حياة الرسول* مع إمام زماننا | حين تزفّ السماء نبأ الظهور (2): في مكّة السيّد محسن شهيداً على طريق القدس مقاومتُنا بعينِ الله صُنعت حاجّ محسن! إلى اللقاء عند كلّ انتصار* أبو طالب: قائدٌ في الميدان والأخلاق المقاومة الإسلاميّة: ثقافتنا عين قوّتنا الشهيد على طريق القدس بلال عبد الله أيّوب تسابيح جراح | جراحاتي لا تثنيني عن العمل

تحقيق: شهر المدارس: أعباءٌ يخفِّفها النجاح

ولاء إبراهيم حمود


كانت رائحة الكتاب الجديد تحجب عن ذاكرتي رائحة تعب أمي وهي تسعى لتأمينه لي، بعد كل رحلة تعود منها مرهقة، تنوء بثقل ما تحمله لي، ولأخوتي الخمسة الباقين، من كتب وقرطاسية. رحلاتها كانت عديدةً مطلع كل عام مدرسي. كان الفرح باستقبال هذا الموسم يغيّب عني السؤال، ترى كيف كان أهلي يؤمِّنون لأفراد عائلة، أفرادها عشرة مع الأبوين، كل هذا المقدار من مُكدسات الكتب والدفاتر، لمقدسات النجاح والتفوق؟ ما كان يعنيني السؤال... ولا حتى الجواب. والآن وبعد أن أصبحت أماً لأربعة أولاد، أدرك حجم معاناة أمي وأعلم تماماً ما الذي كان يدفعها لإلقاء (شوالات الكتب) عند عتبة الباب قبل أن تَلِجَها.

فالتنقل بين المكتبات المختلفة، ما زال فريضةً واجبةً مطلع كل عام. وانتظار صدور طبعة جديدة لكتاب وجد مؤلفه أن طبعته القديمة لم تعد تحقق أرباحاً ما زال يرهق أعصابي في الرحلات المكوكية الخائبة بين بيتي والمكتبة التي تقع بعيداً عنه مسافة شارعين أو ثلاثة. أما الزي المدرسي فذاك شأن آخر، قماشٌ سريع التلف لوناً ونسيجاً ومع ذلك يكاد سعره يلامس سقف بزةٍ رسمية لأحد السياسيين. هذا دون أن أغفل عن السهر الطويل لتغليف أرتال الكتب التي أكون قد جمعتها طوال النهار من كل مكتبة كتاباً أو كتابين... كلها أمور أعانيها وأستعين بالله سبحانه في تخفيف عنائها. أما غلاء الأسعار وأمور أخرى كثيرة فسأترك الحديث عنها لشخصيات التحقيق... وذلك بعد أن أقول بالقلم الملآن حبراً: شكراً لأمي ولكل أمهات جيلنا اللواتي ربَّين عائلاتهن في ظلِّ عناء ذلك الزمن الذي كنا فيه صغاراً. وأمَّا وقد أعدنا على دروب المدارس والمكتبات خطواتهن فإن "شكراً" واحدة لا تكفيهن. ترى هل تفيهن صفحات هذا التحقيق بعضاً من ذلك العناء؟


اعتبرت أم طارق (أم لخمسة أولاد، أربعة صبيان وبنت) أنها كانت في شهر المدارس تحرم نفسها وبيتها من أمورٍ كثيرة، لتـأمين ثمن الكتب ومستلزمات الدراسة، من قرطاسية وثياب مدرسية. ولا يشكل لها نفس التصدي لمهمة شراء الكتب مشكلة. ولكن عدم إيجاد الكتب في آنٍ واحد، هو ما يزعجها. وعن استفادة الأخوة بعضهم من بعض، أوضحت أم طارق، أن اختلاف اللغة بين أولادها (الصبي الكبير دراسته في اللغة الفرنسية والبنت دراستها في اللغة الانكليزية)، كان يقلل من إمكانية الاستفادة من تخفيف العبء المادي والعملي، حيث تقتصر هذه الاستفادة على كتب اللغة العربية. هذا بالإضافة إلى تغيير المناهج السريع وأثره على زيادة الضغوطات المادية، كما أشارت إلى اعتماد الكتاب كدفتر تطبيقات يرمى بعد استعماله ولا يمكن الاستفادة منه. كما أعلنت أم طارق أن دخول أولادها المهنيات زاد الأعباء المادية والنفسية. فهم لم يدرسوا الاختصاص نفسه، الأمر الذي استوجب استمرار البحث عن كتب كل منهم على حدة مع ما في ذلك من جهد وتكاليف. وتعتبر أم طارق أن أعباء هذا الشهر قد تتواصل إلى شهور الفصل الأول حتى عطلته.

أما أم علي (أم لخمسة أولاد، صبيين وثلاث بنات) فقد تحدثت عن ارتفاع أسعار الكتب المدرسية بشكلٍ جنوني، لأنه موسمي، مرة في مطلع العام. وركزت على الناحية التجارية، التي تعتمدها بعض دور النشر حيث تروج لكتبها الباهظة الثمن بالمقارنة مع الكتاب الرسمي. كما تحدثت عن تغيير المناهج السنوي الذي يزيد في أعباء الأهل المادية من حيث عدم القدرة على شراء الكتاب المستعمل للتوفير، فضلاً عن عدم صلاحيته للبيع أصلاً. وتحدثت عن عدم وجود نشاط لحركةٍ تجارية تخفِّفُ من أعباء الأهل قليلاً (تبادل الكتب فيما بين الطلاب وعوائلهم). كما تحدثت عن ضغط تجليد الكتب لعائلة لديها أكثر من تلميذين. وأشارت إلى ضغط مواكبة اليوم الأول حيث يختلف بين حلقة دراسية وأخرى وبين ابنٍ وآخر الأمر الذي يسحب إرهاق شهر بدء المدارس إلى شهرٍ آخر. وتحدثت أم علي في آخر الأمر عن صعوبة إرضاء أذواق أولادها حيث يصرون على التماشي مع المظهر العام لرفاقهم من حيث نوعية الحقائب والملابس وجمال القرطاسية الفخمة من علب تلوين وأقلام وعلب هندسية. ولم تنسَ أيضاً شهر تأمين المؤونة المنزلية.

تحدثت أم أحمد (أم لخمسة أولاد أربع بنات وصبي) عن تراكم الضغوطات المادية والنفسية مع نمو أولادها وارتفاعهم من صف إلى آخر. واعتبرت أنها مع طفلتها الأولى والثانية، كانت تشعر بالبهجة والفرح في شراء الكتب مع مطلع العام المدرسي الجديد ولم تكن تشعر بعبءٍ مادي أو نفسي. ولكن ازدياد عدد أفراد العائلة، وارتفاع بناتها من صف إلى صف ومن حلقة دراسية إلى أخرى، كان يؤدي إلى ازدياد عدد الكتب واتساع الحقائب مما يؤدي في الوقت نفسه إلى اتساع دائرة الأعباء المادية والنفسية، حيث يُشغل أم أحمد دائماً البحث عن الأفضل من قرطاسية وثياب وحقائب فضلاً عن الإصرار على المساواة بين جميع الأبناء في تأمين المستوى نفسه للجميع من حيث الجودة والنوعية. وأشارت أم أحمد إلى أن دخول الكبار لديها إلى الجامعات خفف عنها ضغط مباشرة البحث حيث باتت بنتاها الكبيرتان تقومان بشؤونهما تلقائياً ولكنه لم يخفف الضغوط المادية التي سرعان ما تنساها أم أحمد مع نتائج كل سنة دراسية بتفوقهم جميعاً.

وأشارت أم أحمد في معرض حديثها، إلى تعاون زوجها معها في شراء الكتب وتجليدها، وأنهما يتقاسمان هذا العبء الذي ينقلب في ظل هذا التعاون إلى موسم فرحٍ وبهجةٍ لا إلى فترة إرهاق وضغطٍ نفسي وصحي فقط. لا تنفرد الأم وحدها بأعباء هذا الشهر المدرسي "الكريم". ولئن حملت الأم فيه حقيبة وزارة الأشغال الشاقة، فإن الأب أيضاً يحمل فيه فواتير حقيبة وزارة المالية منتفخةً في الأيام الأولى، وسرعان ما تصبح في أسبوعه الأول "جسماً بلا روح"، فارغة من مضمونها. وربما تفوق هذا الشهر بكونه الأول بين الشهور الذي يستلف فيه الآباء من رواتب الأشهر الباقية. وعندما انطلقت في تحقيقي، ظننت أن الآباء سيتحدثون إن استطاعوا عن هذا الجانب فقط، ولأنهم وبشكل منطقي يداومون في وظائفهم فلا يستطيعون التصدي لجمع الكتب والقرطاسية للأولاد الأربعة أو الخمسة فضلاً عن تغليفها المترافق مع إعداد "المؤونة الغذائية"، كالأم ذات الدوام المنزلي الحر.

لكن "أبا جهاد" (أبٌ لأربعة أولاد بنت وثلاثة صبيان) أعلن لي أنه وزيرٌ بالحقيبتين في آن معاً، وذلك لأنه يعمل في التجارة الحرة وزوجته فرنسية انتقلت معه منذ ثماني سنوات تقريباً من المهجر وهي بالتالي عاجزة عن التفاهم مع مدراء المدارس لتسجيل أولادها أو أصحاب المكتبات لشراء الكتب والقرطاسية لذلك تولى هذه المسألة بنفسه منذ عودته إلى لبنان، وقد ألفها واستسهلها من التسلية والفرح لأنه يؤمن لأولاده مصابيح العلم وأدواته. وعن الفاتورة يقول أبو جهاد "إنه أمر بديهي، "شرٌّ لا بد منه"، ولا علم بدونه مهما غلت الأثمان. فأولادي أهم وأغلى". وهو يتألم بعد فراغه من هذه المسؤولية لمن عجز عن حملها وتأمينها لأولاده فيتعاون مع بعض أبناء قريته في تأمين صندوق يستفيد منه المحتاجون وهم مرتاحو الضمير تجاههم. وعن تغليف الكتب وكتابة الأسماء يبتسم أبو جهاد قائلاً: إن زوجتي تتكفل بوضع الاتيكت وكتابة الأسماء باللغة الفرنسية تاركة لي العربية وجزءاً من تغليف الكتب لأنها تتعاون معي في القسم الأكبر.

بعد تجميع مصادر معاناة وأعباء أولياء الأمور في شهر انطلاق المدارس، حملناها كلها إلى مسؤول القسم التربوي في بيروت الحاج حسين يوسف، نسأله عن حلول وأدوارٍ لدى التعبئة ساهمت في تخفيف هذه الأعباء بدرجةٍ ما، فكانت هذه الإجابة: إن استقالة السلطة من واجباتها في الرعاية الجادة لقضايا التربية والتعليم التي تثقل كاهل أهلنا، جعلت من تأمين المقعد الدراسي وتأمين مستلزماته الأساسية وحتى المحافظة عليه عبئاً. وبطبيعة الحال تجد التعبئة التربوية نفسها معنية بمعاناة من يقع من أهلنا تحت وطأة هذا الهم. وهي تنطلق في ذلك من الإطار العام لناحية السعي مع الجهات المعنية في الدولة لمتابعة قضايا المدرسة الرسمية سواء لناحية زيادة قدراتها الاستيعابية لتشكل فرصة جدية تكون بمتناول عموم أهلنا خاصة في المناطق التي تقل قدرات هذه المدارس الاستيعابية فيها عن الحد الأدنى الموجود في عموم المناطق اللبنانية كالضاحية الجنوبية حيث يقل عدد طلاب المدرسة الرسمية عن 10% من عموم الطلاب، في حين يبلغ متوسط هذه النسبة في لبنان 37%. أو لناحية مواكبة حاجات هذه المدارس التي تعتبر ضرورية لنهوضها التربوي ولتطوير أدائها التعليمي. وفي مجال آخر، تلعب التعبئة التربوية دور وسيط الخير بين أصحاب المدارس الخاصة الذين يتقدمون سنوياً بتقديمات مشكورة من حسومات ومنح إلى التعبئة التربوية، لتتولى بدورها توزيعها على المحتاج والمستحق لها من أهلنا المستضعفين، في عمل يشكل بحمد الله واحداً من أبهى مصاديق التكافل في بعده التربوي في مجتمعنا.

ومع اشتداد الضائقة المادية، بات الكتاب المدرسي والقرطاسية سلعتين يصعب على الكثير من أهلنا تأمينهما. من هنا انطلقت التعبئة التربوية بمشروع مكتبة الإعارة حيث يصبح الكتاب المدرسي القديم صدقة جارية، يقدمها من انتهى من استخدامها لمحتاج إليها في العام الجديد، إضافةً إلى كمية لا بأس بها من الكتب الرسمية على وجه الخصوص يجري شراؤها جديدة لسد حاجات طلاب المدرسة الرسمية المحتاجين لها. وفي سياق آخر، تعمل التعبئة التربوية على متابعة ومعالجة المشاكل التي تنشأ بين المدارس وذوي الطلاب الذين أفقدتهم الضائقة الاقتصادية القدرة على الوفاء بالتزاماتهم تجاه المدارس الخاصة وذلك من خلال التوسط للوصول إلى تسويات غالباً ما تكون التعبئة شريكاً في تحمل مستلزماتها. وتجدر الإشارة في نهاية هذه العجالة إلى أن التعبئة تفتتح قبل بداية كل عام دراسي، العديد من المراكز لاستقبال مراجعات الأهالي وتسهيل متابعتها.

أما الدكتور طلال عتريسي مدير معهد العلوم الاجتماعية فقد عرض لنا حلولاً تخفف عن كواهل الأهل الأعباء النفسية:

في كل عام يتكرر المشهد نفسه: أوساط كثيرة من الناس تعجز عن تأمين مستلزمات التعليم لأبنائها. وتعيش أوقاتاً صعبة من الحيرة والقلق. وتبدو المشكلة أشد تعقيداً هذه السنة مع تزايد الأزمة الاقتصادية التي ينوء بحملها القسم الأوسع من الشعب. ومن المعلوم أن النفقات تزداد اتساعاً في المجالات كافة، وأن أي أسرة لم يعد يكفيها راتب الزوج أو حتى عمل الزوجة، ما يخلق حالة من القلق والتوتر العائلي ناجمة عن التمزق بين حالتين الأولى هي الدافع إلى تعليم الأبناء والثانية هي العجز عن توفير مقومات هذا التعليم. وربما انعكس هذا التمزق على الوضع الأسري بحيث تتحول أي قضية بسيطة إلى مشكلة بين الزوجين.

لذا لا بد من التفكير والبحث عن سبل أخرى تخفف وطأة هذا الواقع. ومن ذلك على سبيل المثال نقل الأولاد إلى المدرسة الرسمية إذا كان من الصعب تأمين أقساط المدرسة الخاصة حتى لا يضطر الأهل إلى الاستدانة أو الطلب من هذا وذاك المساعدة المالية. ومن المهم أيضاً أن يعرف الأهل أنهم ليسوا الوحيدين الذين يعيشون هذه الأزمة، فكثيرون يشتركون معهم فيها. أي أن هذا الواقع لا ينبغي أن يسبب الخجل أو الإحراج. ولعل البحث عن شراء الكتب المستعملة يساعد أيضاً في توفير المال. وقد بدأت هذه الظاهرة تتسع شيئاً فشيئاً. ولا بد من مصارحة الأولاد بالواقع المادي للأهل حتى يتحملوا المسؤولية ويقبلوا أن يكون مصروفهم أقل من المعتاد، أو من رفاقهم الآخرين.

ولا بأس بعمل مقبول للأولاد في أيام العطل وفي عطلة الصيف. طبعاً ليس من السهل حل المشكلة الاجتماعية والاقتصادية. ولكن التفكير فيها بطريقة مختلفة هو الذي يساعد على تقبلها وعلى إيجاد الحلول المناسبة والمعقولة لها، بدل أن يقف الإنسان ساخطاً على حظه السيئ أو ينتظر من يمد له يد العون. وفي كل الأحوال إن النجاح في الحياة لا يشترط على الإطلاق أن يكون الإنسان ميسوراً أو متخرجاً من مدرسة مرتفعة الأقساط أو أن لا يواجه الأزمات في مراحل حياته المختلفة. ومع الكلمة الأخيرة للدكتور عتريسي نختم تحقيقنا بالدعاء لتلاميذنا بقطف ثمار العناء التربوي نجاحاً باهراً في كافة مجالات الحياة، ولأهلنا تيسير أمورهم ومشاركة أبنائهم فرح قطف الثمار في مواسم النجاح.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع