نجاح وعمل وآفاق مفتوحة
ولاء إبراهيم حمود
أجمعت شخصيات هذا التحقيق على اعتبار هجرة المتفوقين في القطاع المهني وبطالة معظمهم فوق أرض الوطن، واضطرار بعضهم إلى تغيير اختصاصه، وعمل البعض الآخر في غير اختصاصه، مشاكل يعانيها هذا القطاع. وقد أعادها البعض من شخصيات هذا التحقيق إلى اضطرار بعض المدارس الخاصة إلى اختصار ساعات التدريس أو غياب المصانع التطبيقية، أو غياب القدرة الشرائية للأجهزة المتطورة، أو غياب لجنة توجيه لاختيار الاختصاص الصحيح. وقد ظهرت لنا أثناء أحاديثهم مشاكل أخرى وأسباب مختلفة نعرضها فيما يلي من صفحات:
الحاجة نهى العمار مديرة معهد الرسول الأعظم التقني: تعتبر الحاجة نهى أن التعليم المهني في لبنان قديم من عهد العثمانيين، حيث كانت أولى مدارسه مدرسة الصنايع.. وترى العمار أن غياب التوجيه المهني ولو حصة في الأسبوع في المدارس الأكاديمية يؤدي إلى سوء النظرة إلى قيمة هذا القطاع ودوره وتعطيل الدور الإعلامي أيضاً، حيث لا تحرك (صاحبة الجلالة) ساكناً في هذا المجال. وعرضت الحاجة نهى تجربة بلدان "النمور السبعة" ماليزيا وأندونيسيا وكوريا، وغيرها وهي بلدان تعتمد على (إنسانها) لا على مواردها الطبيعية. ولكي لا يبقى الوضع سيئاً، أقامت مباشرة شجرة اختصاصات تعتمد قانون شهادة لكل فرع في الاختصاص الصناعي مثلاً، حيث لا يضيع الطالب وقته في دراسة ما لا يحتاجه. وفي ألمانيا يستطيع الطالب المهني العمل حين يشاء ويستطيع أن يتابع دراسته الجامعية خلافاً للقوانين اللبنانية، التي تجمد طموحاته. فـ L.T المعتمدة في لبنان لا تعادل بأي شهادة أخرى. وقسمت الحاجة نهى مشاكل التعليم المهني إلى قسمين: ذاتية وخارجية ترتبط باهتمامات الدولة التي تعنى بأمرٍ وتغفل أموراً مثلاً: اهتمامها بالقطاع الزراعي أو الصناعي يدفعها إلى الاهتمام بالمدارس التي تخرج صناعيين أو زراعيين. وهذا الاهتمام بسيط يتم على حساب قطاعاتٍ أخرى تعاني الإهمال، وغياب كادر بشري مهني (معلمين وحرفيين).
وعرضت في هذا المجال لتجربتي الهند والأردن الذي حذا حذوها. فالهند عدد سكانها أكثر من مليار نسمة، يتخرج منهم سنوياً فائضٌ لا تحتاجه، فنظروا إلى حاجة السوق عالمياً ووضعوا خططهم على هذا الأساس. فاليوم أكثر المهندسين الموجودين في عملاق شركات الكمبيوتر الأميركية (مايكروسوفت) هم الهنود. والأردن سبقنا كثيراً بمناهجه وسياساته التربوية. فقد اكتشف أن سوقه الأساسي هو الخليج، الذي يحتاج إلى مهندسي بترول ومنقبين عنه، وإلى الممرضين، فركز الأردن على هذين الاختصاصين. أما لبنان الذي هو بلد الموارد الطبيعية التي يمكن تصنيعها كالأدوية والمواد الغذائية فإننا مع ذلك نستهلك ما نستورده من الخارج لا ما نصنعه بأيدينا، وذلك لغياب تأهيل وبرمجة وتنظيم الاختصاصات المهنية وفق حاجات سوق العمل. وأشارت إلى إمكانية تشغيل قطاع "إعادة التجميع" لا العجز أمام غياب التصنيع. أما مشاكل التعليم المهني الذاتية فقد رأتها بكثرة الشهادات التي لا فائدة منها. أكثر من ثلاث شهادات حتى تصل إلى المهنية التكميلية من المفيد توحيدها في شهادة واحدة، تختصر أوقاتهم وتساعدهم طبقاً لحاجاتهم في خوض غمار العمل المنتج باكراً لمن لا يستطيع متابعة الدراسة، بدل التسيب والانحراف في الشوارع. وأشارت إلى سرعة التطور التكنولوجي التي يعجز التعليم المهني عن مواكبتها وغياب الكتاب الرسمي. ورأت الحاجة العمار أن اللبناني لا يتكل على الدولة. ولأن مبادراته الفردية تعاني كثيراً من الضعف، فإن أفق هذا التعليم غامض بغياب السياسات الموجهة في ظلِّ وضع عام غير مستقر. لذلك، تنصح الحاجة العمار بأن لا يوجه الأهل طلابهم إلى التعليم المهني قبل إنهائهم شهادة البكالوريا القسم الثاني، حيث يكونون قد امتلكوا نضجاً وتجربة، علماً أن الطالب المهني قد يمتلك قدرة اتخاذ القرارات وحرية الخيارات انطلاقاً من حريته الاقتصادية إذا ما توفق في مباشرة سوق العمل. د. غازي قانصو مدير المعهد الفني الإسلامي المهني وأمين سر الجمعية الخيرية الثقافية:
لاحظ د. قانصو أن المدارس الرسمية المهنية في طور نماءٍ في ظل اهتمام الدولة بها في السنوات العشر الأخيرة، وقفزت أعدادها إلى ما يزيد عن الضعف عما كانت عليه في التسعينات، لأنها حاجة طبيعية حقيقية؛ والنظرة الدونية إليها نظرة قديمة تجاوزها الزمن، لأنه كان منذ أكثر من أربعين سنة تدريب حرفي (تقشيش كراسي، حدادة ونجارة)، لم تكن له آفاق علمية تفرض على الناس احترامها، كما هو اليوم وتحت عنوان الشهادة والاختصاص وفي كل بلدان العالم كألمانيا وفرنسا، حتى في الكيان الإسرائيلي تبلغ نسبة خريجي المهني فيه نسبة ستين بالمئة. ويعيد د. قانصو عدم القيام بتكريم متفوقي القطاع المهني سنوياً إلى تقصير وزارة التربية ودوائرها المهنية، ويعتبره خطأ فادحاً يجب تصحيحه. واعتبر د. قانصو أن مشكلة التعليم المهني الأساسية في لبنان هي غياب استراتيجية حقيقية له تحت سؤال: إلى أين نريد أن نصل بهذا التعليم بعد تزايد عدد طلابه إلى عشرات الألوف؟ وتخفيف الازدياد العشوائي في هذه المدارس وخاصة في القطاع الرسمي، واعتماد المدارس التخصصية، أي توزع الاختصاصات على المدارس، لا حصرها في كل مدرسة في آن واحد مجتمعة (اختصاص أو اثنان لكل مدرسة يكفي)، ثم عدم التأهيل الكافي للمعلمين الآتين إلى التعليم المهني من بين حملة الإجازات الجامعية (مهندسين إجازة فنية) وهذا لا يصيِّرهم معلمين، إذ لا بد من التأهيل التربوي المستمر الذي يمنحهم كفايات كافية في إدارة الصف وطرائق التدريس.
وللإعلام دور هام في تخفيف آثار هذه المشاكل وهو بحاجة لاستراتيجية على مدى بعيد مرتبطة باهتمام القنوات التلفازية عبر برامج خاصة. ويعتبر د. قانصو أن دراسة الكمبيوتر لا يجب أن تتم بمعزل عن الاختصاصات، بل يجب أن يمتهنها صاحب أي اختصاصٍ. ويخشى على بعض الاختصاصات الهامة من الانقراض، كاختصاص الميكانيك الصناعي وسائر الاختصاصات الصناعية الأخرى، حيث نجد قلة انتساب لدى طلاب التقني الصناعي وإقبالاً على دراسة الكمبيوتر لدرجة التضخم. وقد أعاد جذور هذه المشكلة إلى تفاوت الاحترام في النظرة إلى اختصاص وآخر، حيث يحترم طالب المعلوماتية والمحاسبة أكثر من طالب التقني الصناعي رغم الحاجة الماسة إليه أكثر من سابقه. وفي ختام حديثه، شكر د. غازي لمجلتنا لفتتها الرائدة وتمنى: "حبذا لو تحذو سائر الوسائل الإعلامية حذو مجلة "بقية الله" في الإضاءة على جوانب هذا القطاع كافة للمساهمة في تطويره بعد الحفاظ على إنجاز ما وصل إليه من انتشار يشمل في المستقبل القريب كل الاختصاصات المفيدة لمجتمعنا وإنسانه". الحاجة عايدة همدر، مديرة معهد المبرات للعلوم الصحية في مستشفى بهمن، اعتبرت أن النظرة الدونية للتعليم المهني موجودة في كل البلاد العربية، ولكنها تتفاوت بين منطقة وأخرى. وأعلنت جملةً من التحفظات على نظام التعليم المهني في لبنان، كان أبرزها:
ـ اشتراط الدولة لمن حاز شهادة B.T التكميلية المهنية النجاح في البريفيه الرسمية لمنحه ترخيص مزاولة مهنة. في حين أن لهؤلاء الطلاب مجال العمل في طوابق المستشفيات. واعتبرت أن الدولة فتحت له مجال النجاح في المهني بعد فشله في البريفيه ثم أغلقت عليه باب سوق العمل بعد نجاحه في المهني، بعد أن يكون قد درس في المعهد حتى شهادة B.T.
ـ الزام الطالب الدراسة حتى تحصيل T.S لكي يمنح ترخيص مزاولة مهنة وبذلك يكون قد أمضى خلافاً لسواه مدة سبع سنوات تقريباً حتى يدخل سوق العمل خلافاً لسائر الاختصاصات.
ـ تغيير تراتبية مزاولة المهنة، فبعد أن كان الحاصل على التكميلية المهنية يستطيع أن يعمل ممرضاً مساعداً، أصبح الممرض المساعد ملزماً بالحصول على B.T أي البكالوريا الفنية. وفي هذا ظلم وإجحاف كبيران لكليهما.
ـ عدم تمكن طالب T.S من الحصول على الوظيفة، وذلك في ظل نظام التصنيف العالمي الجديد الآتي من وزارة الصحة الاسترالية، حيث بات البحث عن التلميذ الحائز على ليسانس تمريض B.S وفق المعايير العالمية الصحية، فيصبح مجموع السنوات المطلوب دراستها للحصول على ترخيص مزاولة مهنة ثلاث عشرة سنة تقريباً.
وأكدت الحاجة عايدة همدر أن طالب T.S سيعاني أيضاً عدم قدرته حتى على التعليم في المعاهد التمريضية المهنية، ما خلا المعاهد التجارية. ولذلك يجب أن تكتفي الدولة بإجراء معادلة لهذا الطالب فيكتفى للحصول على الإجازة الجامعية (B.S) بسنة واحدة لا بثلاث سنوات تؤخره عن سوق العمل، مع أنه في الواقع في المستوى نفسه الذي كان يمتلكه كخبراتٍ ومعلومات عندما حاز T.S. وفي إطار الحلول لهذه المشاكل، أعلنت أن بعض المعاهد يحاول مواجهة الواقع بتحسين مستواه. ومن المفترض أن يتم التنسيق بين المعاهد وبين مديرية التعليم المهني، لأن أحدهما ـ منفرداً عاجز عن الحل برمته. والأمر يحتاج برأيها لتخطيط تفصيلي شامل وفتح المسارات المغلقة. فكيف تفتح الدولة في معهدها شهادة L.T تمريض وعندما يأتي زمن التوظيف تعلن الدولة نفسها عدم اعترافها بها كمؤهل توظيفي؟ وقد ختمت الحاجة حديثها بإصرارها على إنشاء لجنة تخطيط معتبرة أن من يفشل في التخطيط فقد خطط للفشل، وعلى التدقيق في معايير ومواصفات فتح معاهد التمريض. وطلبت من نقابة التمريض دوراً يتكامل مع دور الدولة.
كل هذا كي لا يبقى مستقبل التعليم المهني في لبنان قاتماً مظلماًَ في ظل التحفظات القائمة. أما د. محمد كرشت مدير معهد علي الأكبر المهني والتقني للمبرات، فقد رأى أن التعليم المهني يعتمد على الطلاب المتميزين، لأن هذا النوع من التعليم يحتاج إلى تنسيق أكبر بين المهارات اليدوية. إنه "خيار مرغوب ومقبول للطلاب والأهل والمجتمع"، نظراً لتوافر فرص عمل عديدة ومختلفة. وفي هذا الإطار رأى د. كرشت أن مدة التعليم المهني اقصر من غيرها وأن الطالب يستطيع أن يتحول إلى إنسان منتج مباشرة بعد نيله شهادة البكالوريا الفنية أو يتابع دراسته. وقد طلب د. كرشت في هذا المجال التعاون من جميع وسائل الإعلام والصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة في تعزيز هذا النوع من التعليم، وتسليط الضوء على أهميته وعلى حاجة المجتمع الاقتصادية والتجارية والصناعية إلى متخرجيه. ولاحظ د. كرشت أن أبرز مشاكل ومعوقات هذا التعليم تقادم البرامج التي تشرف عليها مديرية التعليم المهني والتقني، وندرة الدورات التدريبية للمعلمين في هذا القطاع، إضافةً إلى الكلفة العالية للتجهيزات في ظل وضع اقتصادي صعب وسياسي متشنج لا يساعد على فتح فرص تدريب ضرورية داخل الشركات لمتخرجي التعليم المهني والتقني. ودعا د. كرشت إلى التعاون البنّاء بين المؤسسات الخاصة والرسمية مع مديرية التعليم المهني لإزالة هذه المعوقات.
وقد لاحظ د. كرشت أن المتخرجين من هذا التعليم المميزين في مهاراتهم المهنية يفرحون بمتابعة الدراسة لتحصيل شهادة الامتياز الفني (T.S) والإجازة التعليمية (L.T) من المعاهد المهنية العليا، فضلاً عن سرعة حصولهم على فرص العمل في لبنان وخارجه في مختلف المؤسسات التعليمية والإعلامية والصناعية والخدماتية. ومع هذه النظرة المتفائلة للدكتور محمد كرشت، تترك مجلة "بقية الله" ملف التعليم المهني مفتوحاً، آملةً أن تكون قد ساهمت في الدعوة إلى مشروع تطوير قطاع التعليم المهني، لأنها هدفنا وأمنيتنا ومعها نأمل أن نكون قد ساهمنا في رد اعتبار هذا القطاع على مبدأ الرضا بما يرضي الله، آملين اعتماده أساساً للنجاح والعمل في آفاق مفتوحة على احتمالات التفوق والإبداع في كل مجالات الحياة.