تحقيق: زهراء عودة
حسام، شابٌّ عشريني، أُجبر على ترك دراسته بعد وفاة والده، والتوجه إلى ميدان العمل لإعالة أسرته في "ورشة الميكانيك" التي تركها له والده كي لا تضطرّ عائلته "للطلب من القريب والغريب". وإذا كان قدره قد حرمه من متابعة دراسته وتحقيق أحلامه، فإن الناس تعاونوا مع القدر على زيادة حزنه، إذ باتوا ينظرون إليه نظرةً ملؤها السخرية وقلّة الاحترام. ولكن، هل من الأفضل أن يمدّ الإنسان يده للناس ويتذلّل لهم، أم أن يعمل بكرامة ويصعد سلّم الحياة درجة درجة؟ وهل يكون المجتمع منصفاً حين يتعاطى مع أصحاب المهن البسيطة بهذا الشكل؟
* النظرة الدونية للمهن البسيطة
عاماً بعد عام، والعمالة الأجنبية آخذةٌ في الازدياد في لبنان، وفي الكفّة الأخرى سهم البطالة منطلقٌ صعوداً دونما توقف في صفوف شبابه، وسبب ذلك رفض معظم الشباب اللبنانيين العمل في المهن البسيطة، حفاظاً على "برستيجهم" العالي. فالأعمال الحرفيّة والمصالح العادية لا تدخل في جدولهم العملي، بل على العكس تراهم ينظرون بعين الدونيّة إلى هذه الأعمال وممتهنيها.. وفي هذا السياق، كان لنا لقاء مع بعض العاملين والعاملات الذين أكّدوا على مضيّهم في أعمالهم وعدم الاكتراث لما يقوله الناس. الحاجّة خديجة، عاملة التنظيف في إحدى المستشفيات، خير نموذج للمرأة المجدّة العاملة، فقد بدأت العمل بعد وفاة زوجها، وتشرح بحرقة والدموع تملأ عينيها: "اضطررت للعمل في قسم التنظيفات نظراً لعدم حصولي على شهادة. ربما كان هذا العمل في البداية محرجاً لي ولبناتي، ولكنه يبقى أفضل بكثير من مدّ الأيادي للناس". وبدوره، لا يبالي العم أبو علي بتعليقات الناس، ويصدح صوته باستمرار وهو يجرُّ عربة الحلويات، فكلّ همّه توفير حاجات عائلته، "كلام النّاس لا يقدّم ولا يؤخّر، إذا الواحد بيلحق كلام الناس بيبقى بلا أكل". كما يعتبر أبو علي أن العمل باختلاف مستوياته ليس عيباً، "بل العيب أن ينتظر الإنسان شفقة الناس ومساعدتهم".
* الرحلة تبدأ بخطوة
استطاع الكثير من العاملين في بعض المهن البسيطة أن يبنوا أنفسهم ويقهروا صعوبات الحياة، ويؤسسوا بكدّهم وإصرارهم مؤسسات. فالسيد ياسر افتتح حياته العملية كحامل أمتعةٍ في أحد الفنادق، أما اليوم فهو شريك في مجموعة مطاعم في الخليج، وهو لا يخجل أبداً من ماضيه، ويقول: "مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، وإذا تأثر المرء باستخفاف الناس بعمله لا يتقدم، بل يتراجع ويفقد احترامه ووجوده في المجتمع. من هنا أنصح الشباب أن لا يتوانوا عن الإقدام على العمل ولو كان بسيطاً، فبالإقدام والاجتهاد لا بدّ أن يكبروا ويتطوّروا في الحياة". في المقابل، لا يقتنع حسن بالبدايات الضعيفة، ولا يناسبه العمل أينما كان، فمستوى العمل ورقيُّه ضروريّان بالنسبة إليه، وغروره لا يسمح له أن يكون إلا محطّ إعجاب الناس، "أفضّل البقاء دون عمل على القيام بتلك الأعمال التي ستحرجني أمام أصدقائي وجيراني".
* خجل الأبناء من مهن الآباء
ينظر الأبناء للآباء على اعتبارهم قدوة يفتخرون بها. ويترجم هذا الافتخار من خلال سعيهم لامتهان مهنة الأب. لكن في المقابل، بعض الأبناء يخجلون من وظائف آبائهم ويعتبرونها غير لائقة، وتراهم يُحرجون حين يُسألون عن عمل والدهم وكثيراً ما يكذبون للتملُّص من الموضوع. يغصُّ الحاج ماهر (بائع في دكان المدرسة وسائق حافلات مدرسية)، عندما يحدّثنا عن ابنه الأكبر: "لا أدري لماذا يتحسّس هذا الولد من عملي ويخجل به، فنحن أبناء مزارعين ورعاة ولم نخجل يوماً بأهلنا. لو كنت أعمل في الحرام ما كان ليخجل مني كما يفعل الآن"، إلا أنّه يعود ويواسي نفسه قائلاً: "لا بد أن يدرك يوماً ما خطأه ويكتشف أنّ كَدّي وتعبي بهدف كفايته هو وإخوته، ولعلّ طيشه وغيرته من أصدقائه الميسورين دفعاه إلى ذلك". في المقابل، لا تخجل عائلة الحاج محسن من عمل ربّ الأسرة، وتعيش حياةً متواضعةً وهادئة نوعاً ما، فلا يتردَّد الأبناء في الإفصاح عن عمل الوالد الذي يشتغل حمَّالاً في المرفأ، ويقول مهدي، الابن الأكبر: "لا داعي لأن يختبئ المرء وراء إصبعه، ويتعالى أمام الناس ويضع نفسه موضعَ الكذب، فالعمل الشّريف ليس عيباً ونحن مقتنعون بعمل والدنا ووضعنا، فمن مردوده تعلَّمنا واعتشنا، ونحن ندعو الله أن يرزقنا لنعوّض والدنا ونرفّه عنه".
* العمل وسام شرف
ترسّخت ثقافة معظم الناس على مفاهيم خاطئة صاغتها التغيّرات والتطوّرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي طرأت على المجتمع، فشكَّلت قيوداً وحواجز حالت بين الناس وبعض المهن. واليوم وفي ظل الطفرة الاقتصاديّة وبروز شبح البطالة تنبَّه بعضهم للأمر، وعلت الأصوات الدّاعية إلى عدم الاستهتار بالمهن البسيطة التي لا غنى عنها في أيّ مجتمع، والتي تشكِّل مصدر رزقٍ ينفع ولا يضرّ. فالعمل هو آية الحياة ودليل الوجود, به يسمو الإنسان معنوياً، ويغتني كرامةً وفخراً، فها هو رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وآله كان راعياً، وها هو سيدنا داوود عليه السلام كان صانع دروع، وها هو نبينا زكريا عليه السلام كان نجاراً... وأمثلة أنبيائنا وأئمتنا تبدأ ولا تنتهي في هذا المجال، فكلهم كانوا يقومون بأعمالٍ متواضعة، ويحظون بشأنٍ كبير عند الباري عزّ وجلّ. وهذا ما يؤكّد بشكلٍ أو بآخر أهميّة العمل الشريف مهما كان نوعه ومكانه وصفته, وأنه وسام شرف نتقلّده على صدورنا دون أن نخجل منه. فبوركت تلك الأيادي المعطاءة. وكل عام وجميع العمال بخير..