مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

كيف تنتصر الأمم؟

السيد علي مرتضى

 



لقد واجه المسلمون في بداية الدعوة الإسلاميّة تحدّيات عدّة، وكان القائد في تلك التحدّيات هو ذلك الإنسان الكامل، أعني النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله، لكن لا يعني ذلك ارتهان النصر في أيّ من التحدّيات الجديدة إلى وجود شخص هذا الإنسان العظيم، لأنّه كان يقرّ في كلِّ تحدٍّ قواعدَ النصر، ويرسم معالم النجاح، ليؤكّد أنّ الانتصار ليس أمراً عفويّاً يحصل عليه الإنسان، وأنّ الصدفة لا موطئ قدم لها في ساحة المواجهة. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه القواعد في مواضع عدّة، كالآيات التي تتحدّث عن معركة بدر، وغزوة أُحد، والأحزاب، وخيبر، وحنين، وغيرها.

•في معركة بدر:
لقد كان عدد المسلمين في معركة بدرٍ أقلّ من عدد المشركين، وهذا يعني طبق الموازين الماديّة، أنّه لا يمكن أن يعتمدوا على قوتهم وعددهم، وهو يعني أيضاً هزيمتهم وخسارتهم المحتّمة في هذه المعركة. ولكن مع ذلك، نجد أنّ النصر كان حليفهم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (آل عمران: 123)، وجاءهم النصر من عند الله سبحانه، ومدّهم بالعون من الملائكة: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (آل عمران: 124)، ولتدركوا من هذه المعركة، وليدرك كلّ إنسان أنّ النصر ليس بالعدد، ولا بالقوّة الماديّة، ولكن ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (آل عمران: 126).

•في معركة أحد:
بينما نجد أنّ عدد المسلمين في غزوة أُحد كان كبيراً، وهذا يعني طبق الموازين الماديّة اعتمادهم على أنفسهم، واغترارهم بها، وأنّها يمكن أن تحقّق لهم النصر، وتجلب لهم الفوز، وهذا ما كان موجوداً في مكنون أنفس المسلمين، فأراهم الله ما أصابهم من انكسار وهزيمة في هذه المعركة، كما أصاب المشركين الهزيمة في معركة بدر ﴿انْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ (آل عمران: 140).

•في معركة حنين:
وفي هذه المعركة كان التصريح بمكنون المسلمين أوضح، وباغترارهم بكثرتهم أصرح؛ ﴿لَقَدْ نَصرَكمُ اللّهُ في مَوَاطِنَ كثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَينٍ إِذْ أَعْجَبَتْكمْ كَثرَتُكمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكمْ شيْئاً وَضاقَت عَلَيْكمُ الأَرْض بِمَا رَحُبَت ثمّ وَلّيْتُم مّدْبِرِينَ * ثمّ أَنزَلَ اللّهُ سكِينَتَهُ عَلى رَسولِهِ وَعَلى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا وَعَذّب الّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِك جَزَاءُ الْكَافِرِين (التوبة: 25، 26).

النصر سنّة إلهيّة:
وبملاحظة هذه الآيات الكريمة نجد إضافة النصر والهزيمة للمسلمين، بمعنى أنّ الذي انتصر هم المسلمون، والذي هزم وخسر المعركة هم المسلمون. وأمّا رسالة السماء، فلم ينسب لها لا النصر ولا الهزيمة؛ "لأنّ رسالة السماء فوق مقاييس النصر والهزيمة بالمعنى الماديّ، رسالة السماء لا تُهزم، ولن تُهزم أبداً، ولكن الذي يهزم هو الإنسان، الإنسان حتى ولو كان هذا الإنسان مجسّداً لرسالة السماء"(1). ونلاحظ أيضاً من هذه الآيات أنّ النصر النازل على الإنسان منحصر بالله سبحانه وتعالى، أي لا يكون إلا من الله؛ ﴿لَقَدْ نَصرَكمُ اللّهُ في مَوَاطِنَ كثِيرَةٍ، ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. يقول صاحب الميزان إنّ في هذه الآية "بيانَ انحصار حقيقة النصر فيه تعالى، وأنّه لو كان بكثرة العدد والقوة والشوكة كانت الدائرة يومئذٍ للمشركين؛ بما لهم من الكثرة والقوّة على المسلمين على ما بهم من القلّة والضعف"(2).

والقرآن الكريم يريد أن يشير في هذه الآيات إلى أنّ النصر أو الهزيمة عندما يلحق أحدهما بالمسلمين، إنّما يلحق بهم طبق حكمة الله التي أبت أن تُجري الأمور إلا بأسبابها، وأنّ الحاكم في هذا العالَم هو نظام الأسباب والمسبّبات، والأمور تجري طبق قوانين وضوابط وسنن، وليست المسألة أنّ الله يمنح النصر في مواطن بشكلٍ مزاجيّ إن صحّ التعبير ولا يمنحه في مواطن أخرى بشكل عفويّ، وإنّما الأمور في هذا الكون تسير بحكمةٍ إلهيّة، وبوضع الأمور في مواضعها، فهناك شروط وأسباب إن تحقّقت تحقّق النصر، وإلا فلا نصر ولا فوز، وهذه هي سنّة الله في النصر والهزيمة، "لا تتخيّلوا أنّ النصر حقٌّ إلهيٌّ لكم، وإنّما النصر حقٌّ طبيعيٌّ لكم، بقدر ما يمكن أن توفّروا الشروط الموضوعيّة لهذا النصر، بحسب منطق سنن التاريخ التي وضعها اللّه سبحانه وتعالى كونيّاً لا تشريعيّاً"(3). "نصرُ اللّه قريبٌ، ولكن اهتدِ إلى طريقه، الطريق لا بدّ وأن تعرف فيه سنن التاريخ، لا بدّ وأن تعرف فيه منطق التاريخ؛ لكي تستطيع أن تهتدي إلى نصر الله سبحانه وتعالى"(4).

•من شروط النصر:
لقد نصر الله المسلمين في معركة بدر ومدّهم بالملائكة، لكن هذا المدد وهذا النصر ليس هبةً مجانيّة، وليس أمراً جزافيّاً، وإنّما له شروطه وأُسُسه؛ ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ (آل عمران: 125)، ففي هذه الآية إشارة إلى شرطين أساسيّين من شروط النصر وهما: الصبر والتقوى.

أولاً: الصبر، فلكي تحقّق الأمّة النصر، عليها بالصبر، الصبر على الأذى من قتلٍ وجراحٍ وجوعٍ وكلّ ما تستدعيه المعركة وما تستلزمه.
ثانياً: التقوى، وهي هنا تعني استحضار الله سبحانه في كلّ الآنات، وأنّه هو حاضرٌ كلّ شيء، ممّا يعني مخافة الله من إشراك غيره في أيّ أمرٍ من الأمور.
ثالثاً: الثبات، وهو شرط ضروريّ في كل معركة، وقد أشار إليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الأنفال: 45). وفي المقابل من لا يثبت في المعركة، فمن الطبيعيّ أن لا يحقّق النصر كما هي صفة الذين كفروا: ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (الفتح: 22).
رابعاً: التوكل على الله، وهذا الشرط يرجع إلى ربط النصر بالله سبحانه، وأنّه هو الذي يعطي النصر، وهو الذي يجري الأمور، قال تعالى: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (آل عمران: 122)، ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (آل عمران: 160).

•الحرب مدرسة وامتحان للأمّة:
إنّ الحروب التي يستتبعها النصر أو الهزيمة تجري أيضاً ضمن معايير الحكمة الإلهيّة، فلم تكن حربٌ على أمّة جزافاً، كما لم تكن نتائجها إلا خاضعة لمعايير النصر أو الهزيمة، ممّا يعني أنّ الحروب التي تنتاب الأمم عبارة عن امتحان كبير للأمّة كل الأمّة، ليُرى هل تحقّق هذه الأمة شروط النصر فيأتي المدد الإلهي وتنتصر، أم أنّها تتخاذل وتتقاعص فلا تدرك الفتح؟ ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (البقرة: 214) فلا تطمع أمّة أن يكون لها استثناء من هذه السنّة الإلهيّة، سنّة الامتحان كأمّة، فلا تظنّ أمّة أن تدخل الجنّة من دون أن تمرّ بامتحانٍ عظيمٍ كبيرٍ، تقيّم على أساسه هل حقّقت شروط النصر والفوز والفلاح، أم قصّرت وبالتالي لن تكون عاقبتها الجنّة؟

خلاصة واستنتاج:
بعد هذا العرض للآيات القرآنيّة، نستنتج أنّ الزلازل والحروب التي تمرّ بها الأمم تسير وفق مخطّط الحكمة الإلهيّة، وهي امتحان ومدرسة للأمة. فإذا حقّقت الأمّة شروط النصر الموضوعيّة، كان النصر حليفها مَنّاً من الله تعالى، وإلا فلا تتوقّع إلا الهزيمة والخزي لها دون أن تتأثر رسالة السماء لأنّها فوق النصر والهزيمة، هذه ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (الأحزاب: 62)، ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (فاطر: 43).


(1)الصدر، محمد باقر، المجموعة الكاملة، المدرسة القرآنية، دار التعارف للمطبوعات، بيروت لبنان، ط. 1990 م، ج 13، ص49.
(2)طباطبائي (ت: 1412 هـ)، محمّد حسين، تفسير الميزان، منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلميّة قم المقدسة، ج 9، ص 11.
(3) الصدر، محمد باقر، المجموعة الكاملة، المدرسة القرآنية، دار التعارف للمطبوعات، بيروت لبنان، ط. 1990 م، ج 13، ص 50.
(4) م. ن، ص 59.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع