مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قرآنيات: سورة الكهف: لا للحوار العقيم

نبيل سرور

 



سيظل القرآن الكريم مصدر المعارف الإنسانية في كل مناحي الحياة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وستظل أنواره تتلألأ حاملة إعجازه على مر الزمن. وجانب الحوار في القرآن نبع تربوي فريد، يرسم الخط المستقيم للحوار المنتج العظيم، وينبه إلى الحوار العقيم الذميم. والقارئ لسورة الكهف – من كتاب الله تعالى – قراءة تدبر وإمعان، يجد مشاهد من الحوار تجلي نوعية الآنفين: المنتج والعقيم – وكأنها تهتف بالقارئ وغيره ممن يعي – أن يلتزم حوار الحق في حياته ليحيا سوياً سعيداً في كل أحواله، وأن يتجنب حوار اللجاج والمكابرة، لأنه – فوق عقمه وذمه – مرهق للأعصاب، ومربك للفكر، ومسئم للنفس.

* أولويات في الحوار
ونعيش في رحاب السورة الكريمة، سورة الكهف، لنشهد المشاهد الحوارية التي تدعم ما نقول. ولحكمة جليلة، نجد السورة الكريمة تبدأ بالتذكير بحمد الله تعالى الذي أنزل الكتاب الكريم قيماً لا عوج فيه، وكأن القرآن الكريم – ضمناً – نهى عن كل حوار معوج يبتغي به الكبر والعناد، لأن الحوار الإنساني السوي لا عوج فيه. يقول بدء السورة الكريمة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْه (الكهف: 1 – 2).

ثم تصل بنا السورة الكريمة إلى أول مشهد حواري من حوار الحق والصفاء، ذلك الذي جرى بين الفتية – أصحاب الكهف – بعد يقظتهم أو بعثهم، فهم يمثلون العنصر البشري السوي، وحوارهم نموذج للحوار الصافي من أوران العناد والمكابرة، وكأن السورة تقول: هكذا ينبغي أن يكون الحوار، فبعد يقظتهم سأل واحد منهم بقية أصحابه: كم لبثتم في الكهف؟ قالوا: ﴿لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ... (الكهف: 19) فلم يعلُ صوتٌ منكِراً هذا القول، ولم يحدث هياج أو لجاج، وإنما أغلقوا باب الحديث والتساؤل برتاج يمنع اللجاج، وأراحوا أنفسهم بأمثل الآراء التي تبقي على المودة والإخاء، بقولهم: ﴿... رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ... (الكهف: 19) وانصاع الجميع لهذا القول الرشيد، واشتغلوا بما هو أهم وأجدى لهم في هذه اللحظة. إذ ماذا تفيد معرفة مدة لبثهم وهم يحسون وخز الجوع، ولهيب الطوى، فليبعثوا أحدهم ليأتي لهم بالطعام، وكأن في سرعة لجوء الفتية إلى الحديث في شأن الطعام تنبيهاً لمن يلجأ إلى الحوار أن يمعن النظر في جدواه ليقدم عليه ما هو أهم في دنياه وأخراه، فبذلك المنهج السليم يحسم كثير من المواقف الحوارية التي تودي بالمتحاورين إلى ما لا تحمد عقباه.

تقول الآية الكريمة في تصوير ذلك المشهد: ﴿... وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا... (الكهف: 19 – 20)، نقرأ هاتين الآيتين الكريمتين المصورتين لمشهد الحوار بين فتية أوقظوا أو بعثوا بعد اختفائهم في الكهف فراراً بدينهم وعقيدتهم من أذى الجبابرة العتاة – فلا نحس صياحاً أو صراخاً، ولا نجد من يكذب أو يدحض، ولا نسمع الأيمان تصك الآذان، وإنما نحس الهدوء والصفاء والاقتناع والانصياع، وإرجاع الأمر غير البين إلى علم الله تعالى، ثم الاشتغال بما يجدي ويفيد، وما يفيد الآن هو الحصول على ما يقيم الأود من غير أن يحس بهم أحد. ففي هذه الظروف ينبغي أن يصب السؤال والحوار في الأمور المجدية لا في الجدل العقيم، والحديث السقيم، فليتنا نعي هذا المنهج الحواري الرشيد لنحقق المفيد بعقل مستنير فنوصد أبواب الشرور.

ثم تطالعنا السورة الكريمة بمشهد اختلاف الناس في عداد أصحاب الكهف، فيتحاورون، وتحكي السورة ما كان بينهم من حوار، وتعلم كل قارئ أو مستمع للقرآن أن ينهج السديد في الحوار حول شيء لا يعلم أبعاده الحقيقية سوى الله تعالى، فترشد السورة إلى وجوب إنهاء الخلاف وحسم الحوار بإرجاع العلم والدراية إلى الله عزَّ وجلَّ، فذلك صمام أمان يقي المتحاورين الخصومة والشنآن، تقول الآية الكريمة في تصوير ذلك المشهد المعلّم: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (الكهف: 22).

* بين الحوار السقيم والسليم
ثم نصل إلى مشهد حواري من مشاهد الحوار العقيم الذميم الذي يحتدم بين من يطغيهم المال والنعيم فيصرفانهم عن الحق والمنهج السليم، ومن حرموا زخارف الحياة فحمدوا الله، ورضوا بما قسمه لهم: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ (الكهف: 31 – 32). وهنا يبدأ الحوار، فيقول صاحب النعيم لصاحبه المحروم: "فقال لصاحبه وهو يحاوره: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا.. (الكهف: 34) ثم ينطق أمام صاحبه ليغيظه بعبارة الطغيان والجحود حينما ﴿دَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً (الكهف: 35)، وقد دفعه غروره وطغيانه إلى حسبان أن الله تعالى سيبدله خيراً منهما في أخراه إن فنيتا في دنياه فيقول: ﴿... وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (الكهف: 36).

هذا نموذج لمتحاور فظ، أغلق النعيم كل منافذ فكره السقيم، فما عاد يفكر فيما يجيء عليه تجاه الخير الذي أسبغه الله عليه، استخفته النعم فنسي المنعم، وافتخر بالنعيم على صاحبه المحروم، وكان المتوقع أن يوغر صدره، ويخرجه على طوره، ولكن قوة إيمان صاحبه المحروم عصمته من ايغار الصدر، ومن الغل والشر، فالتزم مع صاحبه المغرور جانب النصح والتحذير، تقول الآية الكريمة في تصوير هذا الجانب من ذلك المشهد: ﴿... قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ... (الكهف: 37 – 39)، فهذا نموذج بشري سوي، لم يخرجه الحوار الداعي إلى الغيظ والإيغار إلى الأسى، فاعتصم بقوة إيمانه، ونطق بكلمات تنم عن زهده في نعيم يودي بصاحبه إلى الجحيم إن ملكه الغرور الذميم، ثم نظر إلى صاحبه نظرة السليم إلى السقيم، فصاحبه المغرور حقاً سقيم – ناصحاً ومنبهاً إلى ما كان ينبغي أن يكون منه اتجاه نعمة الله التي أفاضها عليه: ﴿... وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ (الكهف: 37 – 39) ويستمر المشهد لنرى فيه جانب الإيمان يؤول إلى العزة والأمان مع تغير الأحوال والزمان، وهذا التغيير سنة الله في كونه عبر الحياة، يقول المؤمن المحاور لصاحبه المغرور: ﴿... إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (الكهف: 40 – 41)، ما صاح وما هاج، وما انتفخت منه الأوداج، وما افتخر على صاحبه بنعمة أخرى لديه، وإنما نبهه إلى أن الذي أعطاه النعيم قادر أن يعدل الميزان ويقلب الوضع، فيحرم الجاحد ويعطي الشاكر الحامد، وقد حدث ما توقعه المؤمن لصاحبه المغرور: ﴿َأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ (الكهف: 42 – 43).

وقد ذكرت آيات ختام المشهد – ما توقعه المؤمن لمحاوره الملحد، ولم تذكر ما توقعه المؤمن لمحاوره الملحد، ولم تذكر ما توقعه لنفسه من خير حينما حاور صاحبه، وأرشده إلى ما ينبغي أن يكون منه اتجاه نعم الله المفاضة عليه: ﴿فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ (الكهف: 40) – للإشارة (والله أعلم) – إلى أن نعيم الدنيا ليس هو مطمح المؤمنين الصادقين، وإنما مبتغاهم وقرة عيونهم في ثواب الله تعالى، وفي نعيمه المقيم في جنات النعيم، ومن ثم جاءت الآية التالية تبين ذلك، وتشير إليه: ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (الكهف: 44). من هذا الحوار، نرى حوار الحق والإيمان ثابت الجنان، قوي الدعائم والأركان، وحوار الغرور والبهتان واهي الحجة جانحاً إلى الخسران.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع