مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الأم النموذجية في عصرنا: أمهات الشهداء والمجاهدين‏

خديجة سلوم‏

 



"رحم الله الأمهات اللواتي يرسلن أولادهن الشجعان إلى ميدان الدفاع عن الحق ويفتخرن بشهادتهم العظيمة" الإمام الخميني قدس سره(1) هفا قلبها وعقلها إلى لقياه فأحبته قبل أن تراه. احتوته تسعة أشهر وما غادرها إلاَّ في آلام مريرة تكوِّن فلسفة الحياة وأقرب ما تكون فيها إلى الموت، ومع هذا احتضنته مبتسمة وكأنها قد حظيت بكنوز الكون. سلخت من أجله السنين من العمر بأيامها ولياليها، ترعاه بحبها، تكفله بحنانها، فكبر، وكبرت معه آمالها والأحلام. علّمته الذوبان في الحق ونُصرته، فكانت تقص عليه قبل أن ينام قصص الإباء. حدثته عن رجل يأنس بالموت أنس الطفل بثدي أمِه، ويسير في طريق الحق والهدى ولو قلَّ سالكوه. ناغته وشدّت فوق مهده بأراجيح تحكي عن شهيد حفظ بدمائه دين الله، وتقاطرت من عينيها عندما كانت تلهج باسمه "حسين" دمعات حارة غسلت بها وجنتيه فبدا وكأنه يشاركها البكاء. أخبرته عن إمام يُنتظر، وعلّمته أن يتجه قبل أوان صلاته إلى قبلة الصلاة، فكان له مع كل صبح موعد يبدأه ب"اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن..." ويختمه ب"حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً واجعلنا من أنصاره والمستشهدين بين يديه...".

*أطروحة تربية كاملة
تلك هي معايير التربية التي تعرفها الأمهات النموذجيات، أمهات المجاهدين والأبطال أينما كنّ وفي أي زمان حللن. إنها التربية الإسلامية على طريق الشهادة والتضحية والجهاد وبذل الدماء، في سبيل الله في عزة وإباء ووعي وإيمان. تفضيل للموت على الحياة، وعلى العيش باستسلام وخضوع للظالمين ومنحهم حق وسهولة الظلم والقهر للناس دون مانع، من أجل إعلاء كلمة الحق كلمة الله. تربية يكون فيها الموت المقدس ميزان الشهادة، والشهادة مولد الحياة الخالدة العزيزة والمؤثرة في الدنيا والآخرة، ويكون بالمقابل العيش بذلة واستسلام للظالمين مولداً للموت والضياع والخسران في الدنيا والآخرة أيضاً. هذا النوع من التربية كان له تأثيره الفاعل في تركيز دعائم مجتمع المقاومة، مجتمع يعرف عدوه ويواجهه بكل شرائحه مجتمع يجسّد قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (آل عمران: 170) هي أطروحة جهاد كاملة، بل أطروحة تربية عَجِزَ عن فهم أصولها وقوانينها الكثيرون من المنظّرين لأصول التربية وفنونها الصحيحة، قدمتها أمهات الشهداء والمجاهدين، علمننا فيها حالة الموازنة الدقيقة بين مواقف المرونة والصلابة، بين مواقف الحب والحنان ومواقف العز والإباء، وأن الذي يبخل بالعطاء (المال والدماء) وهو قادر عليه، سوف يظن بالله ظن السوء وأنه ليس عند الله من شي‏ء، ويكون بخله جريمة كبرى لا تغتفر، وانحرافاً كبيراً في الجانب الفردي والاجتماعي لا يقوَّم، واعتداء على القيم والمبادئ لا يتغاضى عنه.

*الأم المعلمة الأولى‏
لقد كانت أم المجاهد أو أم الشهيد، الأستاذة الأولى في مدرسة الحياة التي تلقِّن فيها طالبي الحياة الحقيقيين دروساً لا تُنسى، لأنها دروس من نوع آخر، دروس مستقاة من عاشوراء الحسين عليه السلام التي أثبتت أن الحق منتصر على الباطل على مرّ التاريخ، فقدمت الفن على أنه "هو موت الحسين عليه السلام الذي ليس في العالم رجل غيره يعرف كيف يجب أن يموت ولماذا!! قام ليعلمهم أن الشهادة ليست خسارة! إنها اختيار، اختيار المجاهد، للتضحية على أعتاب محراب الحرية، اختيار الجهاد والنصر"(2) فرسمت بيراع حنانها على صفحات قلب ولدها لوحات من هذا الفن، وعلمته أن الحياة وقفة عز. ولكي تضمن له مستقبلاً زاهراً، لم تكتفِ بالعلوم التي جعلته يتلقاها في المدارس والاختصاصات التي تعرّف إليها على مقاعد الجامعة، بل علّمته أصول تجارة لا تبور وأن يكون من فئة ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (النور: 37).

ولم تكتفِ بتقديم الدرس تلقيناً، بل قدمته فعلاً وتطبيقاً، فكانت تسبقه إلى التجارة مع الله، تساعد المجاهدين، تنقل السلاح، وتخبئه تارة تحت شجرة الليمون، وطوراً في قبو منزلها تحت صاج التنور وكيس الطحين. وتتعدى ذلك إلى مرتبة تقدم فيها أخاها قرباناً بين يدي الله وتستقبله شهيداً مضرجاً بدمائه، فتزفه إلى الشهادة بزغاريدها، وتقول له بصوت جلي "بيَّض الله وجهك يا حبيبي كما بيضت وجهي عند الزهراء عليها السلام" وتأبى أن تلبس السواد وتوزع الحلوى فرحاً بنيل ابنها مرتبة الشهادة. فهي أم الشهيد، وأي فخر أكبر من هذا الفخر؟ جعلته يتوق إلى أن يدخل على قلب أمه وكيانها ما أدخله أخوه من قبله، ويكون له هذا حيث ينقل عنه رفيقه أنه وقبل سويعات من نيله شرف الشهادة خطرت أمه على باله فقال له: "أتمنى أن تراني أمي، وأن تعرف أنني أفعل ما أرادت، وأنني قد تاجرت تجارة رابحة لا تبور كما علمتني"، تسمع تلك الكلمات فتبتسم وتقول: "هنيئاً لك يا ولدي جنتك، أذكرني عند الزهراء عليها السلام". أما الولد الثالث فيمنحه الله مرتبة وسام الجريح فتقوم برعايته وتكفله بكل امتنان ورضى، ولا يبقى لديها إلاَّ ولد وحيد تصرح جهارةً بأنها لن تبخل به في سبيل الله. غدت مصداقاً للإيمان الكامل والتام الذي تحدث عنه قسيم الجنة والنار، الذي لطالما لهجت باسمه وذابت في حبه والولاء له وعلمته أبناءها، أمير المؤمنين علي عليه السلام، حيث يقول عليه السلام: "الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد"(3).

*أمهات الفخر والعزة
هؤلاء هنَّ أمهات المجاهدين والشهداء في بلادي اللواتي لو أردنا استعراض وذكر مواقفهنَّ وكلماتهنَّ ومآثرهنَّ لاحتجنا إلى مجلات ومجلدات. هنَّ، من لو أردت أن تذهب لتواسيهنَّ بأبنائهنَّ ظناً منك أن هذا ما يحتجنه، وجدت أنك أنت من يحتاج إلى المواساة وشد الأزر أمام عبارات الافتخار والاعتزاز بأبنائهن وما فعلوه، والاطمئنان الأكيد والكبير أنهم عند رب كريم في جوار الأنبياء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، وتسمعهنَّ يقلنَ أنه لا يمكنهنَّ إلاَّ أن يكنَّ كذلك إن أردن أن يكنَّ صادقات مع سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام، ومع ابنتها السيدة زينب عليها السلام عندما يقلن: "يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً"، وفي الدموع التي يذرفنها على سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام وما لقيه من قلة الناصر والمعين، فيشعرن أنه لو فصلت بينهن وبينه سنين وقرون، استطعن تلبية ندائه بطلب الناصر وقلن له "لبيك يا حسين" قولاً صادقاً مقروناً بالفعل، حيث قدّمن فلذات أكبادهن بين يديه وفي سبيل نصرة وبقاء نهج الإسلام المحمدي الأصيل، الذي خرج لأجله كما فعلت النسوة اللواتي كنَّ معه في كربلاء.

بالأمس واليوم بل وفي الأيام القادمة، نحن في أمسّ الحاجة إلى أمهات كهؤلاء يخرّجن أبطالاً وشهداء يقُونَ أمتنا المخاطر والخسائر الكبيرة، يعطيننا الدف‏ء ويمنحننا روح المقاومة والاندفاع والاستشهاد المقدس، ويرفعن معنوياتنا من أجل مواصلة الطريق. فالأمة التي لا تاريخ لها لا مستقبل لها. والشهداء هم التاريخ الحي الذي لا يموت. هم حماة الإسلام وحراس العقيدة والحصن الحصين لقيم ومبادئ المسلمين، بل لقيم ومبادئ الشعوب أينما حلّوا وأي ديانة اتخذوا. وأمهات الشهداء هنَّ صانعات هذا التاريخ بشكل شبه حصري وشبه دائم. نسأل الله أن يمن علينا بأن نكون منهن وأن نساهم ولو بخط سطر من سطور تاريخ هذه الأمة، فنكون أمهات نموذجيات عرفن أصول التربية الصحيحة التي يعود أثرها الإيجابي والسليم على الأمة جمعاء وربين أبناءهنَّ على أساسها.


(1) الإمام الخميني، الكلمات القصار، ص‏287.
(2) د. علي شريعتي، كتاب الشهادة، ص‏67 68 (بتصرف).
(3) نهج البلاغة، قصار الحكم 31.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع