أميرة برغل*
لطالما مجّدت كتب الأدب "الأم" وكُتب حولها أجمل ما كتب من نثر وشعر.
ولطالما أيضاً قدست دورها الأديان والمعتقدات كافة، فلا نكاد نجد ديناً أو مذهباً أو معتقداً إلاَّ وأثنى على دور الأم ومجّد تضحياتها.
وكذلك فعل علماء التربية والاجتماع وقادة الأمم، صالحهم وطالحهم.
ولو أردنا استعراض ما كُتب وأُلقي وأُنشد حول الأم وفضلها، لما كفتنا آلاف بل ملايين الصفحات.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما سبب كلّ هذا التمجيد يا ترى؟
هل لأن الأمومة قيمة أخلاقية وحسب؟ أم لأنها حاجة إنسانية؟
وهل هذه الحاجة، حاجة فردية فقط؟ أم أنها حاجة إجتماعية أيضاً؟
*قيمة الأمومة
قد تتساءل أخي القارئ، ما الداعي لكل هذه الأسئلة؟ وما الفرق بين أن تكون الأمومة قيمة أم حاجة؟ أو أن تكون حاجة فردية أم اجتماعية؟ ألاّ يكفي الأم فخراً أن يُعلي رب الخلائق قيمتها فوق كل قيمة، ويجعل جنته تحت قدميها! ولكننا نرى أن طرح هذه التساؤلات أضحى ضرورة ملحّة من أجل الحفاظ على هذه القيمة للأمومة. إذ إننا نعيش في زمن براغماتي بامتياز، لا يتمسك أهله إلاَّ بما يعتقدون أنهم ينتفعون منه بشكل مباشر. ألم تكن العفّة، في يوم من الأيام، قيمة، وحيث إن الكثير منّا لم يدرك مكاسبه منها على الصعيد الفردي والإجتماعي، زَهِدنا فيها وكدنا نفتقدها؟ وألم تكن الحكمة، في يوم من الأيام، قيمة أيضاً؟ واليوم ما نراه مرتسماً في مخيلة الصغار عن الراشدين، مخالف تماماً للحكمة! فالكبار، حتى بعض قادتهم، يتصرفون، في كثير من الأحيان، وفق نزواتهم، ويتلفظون بما لا يليق..!
ليس المهم، إذاً، ما نكتب عن العفة أو الحكمة أو ما نُنشد لهما، ولكن المهم كيف نتعامل معهما على أرض الواقع. وكذلك الأمومة!! إن نظرة سريعة لما يجول في أفكار فتيات اليوم وأمهات المستقبل حول دور الأمومة، تكشف لنا خطورة الواقع. فلا أظننا بحاجة إلى كثير من العناء حتى نرصد تراجعاً في اعتزاز المرأة بهذا الدور وفي إهتمامها بإعداد نفسها له. وهي قد تكون في ذلك غير ملامة. إذ إنّ الاعتزاز والاهتمام يتولدان من ثقافة المجتمع والنسق العام الذي يحكم منظومة القيم والعلاقات فيه. إن الفتيات اللواتي يعشن في مجتمع يُعدّهن لكل المهام إلاّ مهمة الأمومة، ويمتدح إنجازاتهن في كل الميادين عدا ميدان الأمومة، ويسلط الأضواء على البارزات منهن في وظائف اجتماعية شتى مغفلاً المتقنات منهن لوظيفة الأمومة، ويضمن تقاعد العاملات منهن في الوظائف الاجتماعية كافة غير آبه بمصير المتفانيات منهن على مذبح الأمومة. إن مثل هؤلاء الفتيات لن يتحمسن للقيام بهذا الدور، وإن كن مدفوعات إليه فطرياً، ولن يبذلن جهوداً من أجل تحضير أنفسهن له والنجاح فيه. بل ستكون التضحيات المبذولة من أجله، في نظرهن، شيئاً فشيئاً، ضرباً من المثالية أو الغباء.
*الأمومة خيار أم وظيفة؟
من هنا تتأتى ضرورة طرح الأسئلة التي ذكرنا وضرورة حسم الإجابات عليها، وضرورة ترجمة هذه القناعات في واقعنا العملي، إن على صعيد القيم والمفاهيم أو على صعيد التشريعات والقوانين. فإذا كان قد أصبح من المسلَّم به أن بناء الشخصية الإنسانية لا يتحقق إلاّ في ظل تربية تتم في بيئة آمنة، يتوفر للفرد فيها عنصران أساسيّان: العاطفة والسلطة(1)، وإذا كانت الأسرة هي البيئة الأمثل التي يمكن أن يتحقق في كنفها الأمان والسكن(2)، وإذا كانت الأبوة والأمومة مصدري العاطفة والسلطة، وإذا كان قيام المجتمعات وتماسكها، يتوقف إلى حد بعيد على ترابط الأسرة وتماسكها، وإذا كان ترابط الأسرة وتماسكها، يشتد بقدر ما يتحقق بين أعضائها من مودة ورحمة، وإذا كان أداء المرأة، كزوجة وكأم، من أهم مصادر تحقق تلك المودة والرحمة(3)، وإذا التفتنا إلى أن أداء المرأة مرتبط بمدى وعيها وكفاءتها(4)، تأكد أن الأمومة ليست ضرورة وحاجة فردية وحسب، بل ضرورة وحاجة اجتماعية أيضاً، وتأكد أيضاً، أن الأمومة تتعدى كونها خياراً شخصياً إلى كونها وظيفة اجتماعية.
وعليه، يصبح من الخطورة بمكان أن يُترك الإعداد لها وتوقيت القيام بها وتقرير الاستمرار فيها أو تركها، خياراً شخصياً محضاً، تحكمه المصالح الفردية البحتة. كتب أحد المفكرين الغربيين في أوائل القرن العشرين محذراً من المخاطر التي ستواجه المجتمعات الغربية في المستقبل القريب: "إنك إذا أردت أن تبني جسراً، أوكلت هذا الأمر إلى مهندسين بارعين. ولكننا نوكل بناء أسرنا إلى شخصين "هيبيين" التقيا صدفة. لذلك فإن جسورنا أفضل بكثير من أسرنا". وللأسف، فإن هذا الكلام وأمثاله وإن قرع ناقوس الخطر لدى المفكرين وعلماء الاجتماع حول هشاشة وضع الأسرة في الغرب لم يحملهم على التفكير الجدي في كيفية إعداد الشباب والفتيات لتحمل مسؤولياتهم الأسرية، بل زهدوا في بنائها أصلاً وأحلوا مكان الزواج علاقات المساكنة والأسرة الآحادية القطب، وآلت بذلك مجتمعاتهم إلى ما آلت إليه من معاناة فردية واجتماعية. فهل نسير على نفس الخطى؟؟!
إن اكتفاء المسلمين بالنظر إلى دور الأمومة بقداسة واحترام انطلاقاً مما ورد حول قيمة الأم في القرآن والسنة. وانحصار هذا التقدير والاحترام في تقدير معاناة الأم وآلامها الجسدية وسهرها وتفانيها من أجل رعاية أولادها، من دون الالتفات إلى أثر هذه الجهود على أوضاعها النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وإلى ما تحتاجه من إعداد ودعم مع تعقّد مهمة التربية وتبدّل ظروف الحياة، جعل قسماً كبيراً من أمهات المستقبل يزهدُ في دور الأمومة ودفع الأمهات للتخلّص من أعبائه، مفكرات في مخارج كثيرة: فلنحضر خادمة للعمل في المنزل ومعلمة لتدريس الأولاد، ولنستعن بالنوادي والجمعيات لملء أوقات الفراغ، وما تبقى منه يتكفل به التلفاز والكمبيوتر. ولتذهب الأم بدلاً من ذلك إلى التعلّم والعمل واحتلال المراكز الاجتماعية المرموقة.. لتحقق ذاتها.. لم لا؟ أليست بذلك تسهم، في مجتمعها، بتعب أقل وفعالية أكثر؟! علينا أن نحسم خياراتنا! فإذا اعتقدنا بأن الأمومة حاجة أسرية ووظيفة اجتماعية وأدركنا مدى خطورة افتقادها، فلنتناول المسألة بشكل أكثر علمية وموضوعية. فالنظرة الطوباوية للأمور لن تقنع أحداً، والانسياق وراء مفاهيم وأساليب مخالفة للحاجات الفطرية والضرورية للأفراد والمجتمعات، لن يعود علينا إلاّ بالويلات والثبور.
*إعادة تصحيح الصورة
والمدخل السليم لإعادة تصحيح الصورة، يتطلب من المنظّرين، علماء دين ومفكرين، ومن المشترعين في الإدارات الرسمية والمؤسسات الأهلية:
1 - أن يتعاملوا مع هذا الدور على أساس أنه وظيفة اجتماعية ذات بعد إنساني سامٍ.
2 - أن يُضَمِّنوا المناهج التعليمية والبرامج الثقافية والإعلامية، ما يلزم لتعريف الشباب والفتيات بأهمية هذه الوظيفة، وما يلزم لحسن تأديتها.
3 - أن يشترعوا القوانين التي تساعد على تكريس وظيفة الأمومة وتدعيمها:
القوانين التي تسهّل للمرأة الأم إكمال تعلمها المدرسي والجامعي.
القوانين التي تمكّن المرأة الأم من العمل بنصف دوام.
القوانين التي تؤمّن للمرأة الأم إجازة الأمومة الكافية لرعاية وليدها(5).
القوانين التي تسمح للمرأة الأم أن تحصل على راتب في عمر التقاعد أسوة بالوظائف الأخرى.
القوانين التي تضمن عدم حرمان أمّ من أمومتها بشكل تعسفي ومن دون أسباب موجبة.
القوانين التي تضمن عدم تكليف المرأة الأم بما يفوق قدرتها، مما قد يؤثر على نجاحها في تأدية دورها كأم.
4 - وأخيراً أن يسلطوا الضوء على إنجازات المرأة في حقل الأمومة، كما يسلطون الأضواء على إنجازاتها في بقية الحقول.
(*) مستشارة في الإرشاد التربوي والأسري
(1) يتفق في ذلك التربويون الإسلاميون وغيرهم.
(2) يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الروم: 21).
(3) ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ (النساء: 34) "جهاد المرأة حسن التبعل" "الجنة تحت أقدام الأمهات".
(4) يرتبط ذلك بنموها السليم على الصعيد الجسدي والعقلي والنفسي.
(5) تعطي بعض الدول الأوروبية إجازات أمومة مدفوعة الراتب تصل إلى سنتين أو أكثر.