السيّد علي مرتضى
فاطمةُ عليها السلام خير كلمةٍ واسمٍ يفتتح به الكلام، وبعدها تحتار العقول بما تصفها أو ماذا تقول فيها، فتلجأ إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليصفها ويكنّيها فهو من يعرفها، لنجده يقول فيها أشياء كثيرةً. وتبقى كلماته بحقّها خالدةً مدى العصور، ومحيّرةً مرّ الأزمان والدهور. وكلّ لقبٍ لها يشير إلى معنى معين، ويفيد كرامةً خاصةً، ويحكي روايةً لأهل الدراية. ففي الحديث عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام: "أنّ فاطمة عليها السلام كانت تكنى أمّ أبيها"(1)، كنّاها بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما اشتهر بين العلماء. وقد اختلفوا في معنى هذه الكنية العظيمة، وذهبوا فيها مذاهب تشعّبت فيها آراء الفضلاء الصائبة، وتفرّقت أنظار العلماء المستطابة. والملاحظ أنّ الوجوه التي ذكرت وسنذكرها لهذه الكنية كلّها تصلح لأن تكون عليها السلام أمّ بعلها أيضاً وأم بنيها كذلك. ولكن قبل ذكر الوجوه والمعاني الممكنة لهذه الكنية، نتعرّض لبيان معنى الأم، والاستعمالات الواردة فيه.
*الأمّ لغةً واستعمالاً:
الأمّ في اللغة العربية تطلق ويراد بها معانٍ متعدّدة، قال في تاج العروس: "الأمّ، وقد تكسر، عن سيبويه: الوالدة (...).
والأمّ المسكن (...).
وأمّ القرى: مكّة زيدت شرفاً؛ (...) لأنّها قبلة جميع الناس يؤمّونها، أي: يقصدونها (...).
قال قتادة: أمّ الكتاب: أصله"(2).
هكذا غيره في كتب اللغة. وما يذكرونه ليس إلا استعمالات العرب للكلمة. وقد جرت العادة على أن يذكروا أولاً المعنى الحقيقيّ، أو ما هو الأكثر استعمالاً، ثمّ يفرّعون عليه باقي الاستعمالات المجازيّة.
*الأم الحقيقيّة:
ومن الواضح جدّاً أنّ فاطمة عليها السلام ليست أمّاً حقيقةً للرسول، بمعنى أنّها ليست هي الوالدة له، وإنّما هي أمّ ابنيها الحسن والحسين ريحانتي رسول الله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه. فليس المراد بأمّ أبيها أنّها والدته، وهذا أمر بديهيّ. ولذا علينا أن نتحرى الاستعمال المجازي المناسب (لأمّ أبيها) دون التورّط بمعارضٍ. ومن هنا تُذكر عدّة وجوه لهذه التسمية، لكنّ معظمها لا يخلو من تكلّفٍ. ولذا نقتصر في هذا الصدد على ذكر الوجوه القريبة من الذوق العربيّ في هذه التسمية، والملاحظ أنها كلها تصلح لأن يُطلق عليها أمّ بعلها وأمّ ابنيها أيضاً:
1 - شدّة العلاقة بينهما والسكن إليها:
فمن جهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعاملها معاملة الولد أمّه: "كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم يثني بفاطمة ثم يأتي بيوت أزواجه، وفي لفظ: ثم بدأ ببيت فاطمة، ثم أتى بيوت نسائه"(3). وكان يقول فيها: "فاطمة حوراء إنسيّة، فكلّما اشتقت إلى رائحة الجنّة شممت رائحة ابنتي فاطمة"(4). وكان يقول: "إنّ فاطمة بضعةٌ منّي، وهي نور عيني، وثمرة فؤادي، يسوءني ما ساءها، ويسرّني ما سرّها (...)"(5). وهناك تعابير كثيرة منه في حقّها، كلّها تدلّ على شدّة تعلّقه بها، وعلى سكنه وهدوئه واطمئنانه كلّما نظر إلى وجهها الشريف.
ومن جهتها كانت عليها السلام تعامله معاملة الأمّ ولدها، والتاريخ يؤيّد ذلك، والأخبار تعضده. ففي الأخبار الكثيرة أنّها كانت تحتضنه، وتضمّد جروحه، وتمسح الدم عن جبهته، وتسكّن آلامه، تماماً كالأم المشفقة على ولدها، ففي البحار: "فلما دنت فاطمة عليها السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورأته قد شجّ في وجهه وأدمي فوه إدماءً، صاحت وجعلت تمسح الدم"(6). ولا شكّ أنّها كانت تعامل ابنيها وبعلها بنفس هذه المعاملة، فهي تواسي عليّاً عليه السلام، وتضمّد جروحه وتسكّن آلامه. كما أنّ الأئمة عليهم السلام كانوا يسكنون إليها ويستريحون بالنظر لها، فلذا هي بهذا المعنى أم بعلها وبنيها، كما هي أمّ أبيها.
2- فاطمة عليها السلام ثمرة شجرة النبوة:
ففاطم حاصل عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصدف درر العصمة ولآليها. وبعبارة أخرى؛ إنّ الولد هو المقصود للأب والأمّ، وفاطمة الزهراء عليها السلام خاصةً هي المقصود الأصلي والأصل الكلي من بين أولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم(7). فمعنى "أمّ أبيها" أنّ فاطمة عليها السلام أصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي الولد الذي كان يقصده ويريده النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويريد نتائجها الكريمة وفوائدها العظيمة المترتبة عليها من جهة البنوّة، ومن فضائلها النفسانيّة المطلوبة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وعليه يكون معنى "أمّ" أي القصد والأصل والمقصود والمراد. وهذا المعنى ينسجم مع رأي اللغويين، بل والمحدثين أيضاً، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لأنّك منّي وأنا منك، وأنت بضعة منّي وروحي التي بين جنبيّ"(8)، فهي أصل وجود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ومجمع أنوار العترة الطاهرة، ومنبع أسرار الرسالة. وبهذا المعنى يصحّ أن نسمّي فاطمة عليها السلام: أمّ بعلها، وأمّ أبنائها أيضاً، فهي المقصود الأصلي ومستودع سرّ عليّ والأئمة من ولدها عليهم جميعاً سلام الله، ولولا علي لما كان لها كفؤ(9).
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا الشجرة، وفاطمة أصلها(10)، وعلي لقاحها، والحسن والحسين ثمرها..."(11). وفي الحديث عن سلام بن المستنير قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى: "(...) ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء﴾ (...)(12) قال: الشجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسبه ثابتٌ في بني هاشم، وعنصر الشجرة فاطمة، وفرع الشجرة علي أمير المؤمنين، وأغصان الشجرة وثمرها الأئمة عليهم السلام(...)"(13).
3 - تعبير دارج عن فرط المحبة:
من الشائع على الألسن أن يخاطب الوالد ابنه ولا سيما ابنته بلغة الرأفة والرحمة، لذلك فإن التعبير ب"أم أبيها" هو تعبير مجازيّ، يراد به التعبير عن شدّة المحبّة والعطف، وعليه يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يخاطب ابنته فاطمة عليها السلام بهذه العبارة، وكأنّه يقول بتعبيرنا اليوم: "يا أمّي"، ليحكي عن شدّة حبّه لابنته، والذي يعضد هذا الوجه كلّ ما ورد عنه في حبها، سيما في مثل هذا السياق: "كانت فاطمة تكنى أم أبيها، وكانت أحبّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"(14). وهذا الاستعمال بمعنى شدّة الحبّ لها، يصحّ إطلاقه على زوجها وابنيها، لفرط حبّهم لها عليهم جميعاً سلام الله فهي أيضاً أم بعلها وبنيها.
4 - كرامة ومنزلة:
إنّ الله عز وجل شرّف أزواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فكنّاهنّ بأمّهات المؤمنين، فصرن في معرض أن يخطر ببالهنّ أنهنّ أفضل النساء، حتى من بضعة المصطفى عليهما أفضل الصلاة والسلام، فلأجل ذلك كنّاها أبوها ب (أمّ أبيها) صوناً لهذه الخواطر والوساوس، يعني يا نساء النبي إن كنتنّ أمهات المؤمنين، ففاطمة عليها السلام أمّ النبيّ، وأم الرسول، أمّ أبيها. وبهذا الشرف الذي أعطاها إياه النبي، وهذه المنزلة تكون أماً لأمير المؤمنين وأمّاً أيضاً لولديها عليهما السلام ولجميع العالمين.
هذه بعض الوجوه المذكورة في معنى أمّ أبيها، وهناك وجوهٌ أخرى نعرض عنها اختصاراً بذكر أهمها، وبقليل من التدقيق نلاحظ أنّ هذه الوجوه كلّها تصلح لأن تطلق على الزهراء عليها السلام تسمية أم بعلها وبنيها. وهكذا كانت الزهراء عليها السلام الأم المثاليّة التي يهدأ بالنظر إليها غضبُ رسول الله، وتسكن آلامه، والأمّ الرائدة التي يطمئن بكنفها زوجها، ولا تُثقل همومه، والأمّ القدوة التي يترعرع في حجرها الحسنان عليهما السلام وتغذوهما بالأخلاق الحميدة والخصال الرفيعة، والأمّ التي ينبع منها معين نور الأئمة وتتأصّل الشجرة، والأمّ التي يقتبس المؤمنون من سنا ضياها منارة الأمل في النجاة. فسلام الله عليها أمّاً وابنةً وزوجاً، ونبراساً للعالمين.
(1) الأصفهاني: أبو الفرج (ت: 356)، مقاتل الطالبيين، تقديم وإشراف: كاظم المظفر، منشورات المكتبة الحيدريّة النجف الأشرف، ط.الثانية 1965م، ص29، وعنه بحار الأنوار للعلامة المجلسي (ت1111)، تحقيق: محمد باقر البهبودي، دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان، ط. الثانية 1403ه، ج43، الحديث 19، ص 19، الطبراني (ت 360) المعجم الكبير، تحقيق حمدي عبد الحميد، دار إحياء التراث العربي، ج22، ص397، ابن الأثير، أسد الغابة (ت 630)، دار الكتاب العربي، بيروت لبنان، ج5، ص520، المزي (ت 742)، تهذيب الكمال، تحقيق وتعليق: بشار عوّاد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت لبنان، ط. الأولى 1992م، باب الفاء، ج35، ص247، ابن حجر (ت 852م) تهذيب التهذيب، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت لبنان، ط. الأولى 1984، حرف الفاء، ج12، ص391.
(2) الزبيدي: تاج العروس، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، ط. 1994م، ج16، ص27 29.
(3) ابن حجر (ت: 852ه) فتح الباري، دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت لبنان، ط. الثانية، ج8، ص89.
(4) الصدوق (ت 381ه) الأمالي، مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة، ط. الأولى 1417ه، ص546.
(5) م.ن، ص 575.
(6) المجلسي (ت1111ه) بحار الأنوار، تحقيق محمد باقر البهبودي، منشورات مؤسسة الوفاء، بيروت لبنان، ط. الثانية 1983م، ج20، ص96.
(7) نقل ذلك: الكجوري محمد باقر: الخصائص الفاطمية، ترجمة علي جمال أشرف، انتشارات الشريف الرضيّ، قم إيران، ط. أولى 1380ه.ش، ج1، ص127.
(8) المجلسي(ت1111ه) بحار الأنوار، تحقيق محمد باقر البهبودي، منشورات مؤسسة الوفاء، بيروت لبنان، ط. الثانية 1983م، ج28، ص 76.
(9) راجع: الطوسي (ت 460ه) الأمالي، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، تحقيق مؤسسة البعثة، قم إيران، ط. الأولى 1414ه، ص43.
(10) وفي بعض الروايات بدل (أصلها) لقاحها.
(11) الذهبي (ت 748ه) ميزان الاعتدال، تحقيق علي محمّد البجاوي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت لبنان، ط. الأولى 1963م، ج1، ص505.
(12) سورة إبراهيم، الآية: 24.
(13) الصفار (ت 290ه) محمد بن الحسن: بصائر الدرجات، منشورات الأعلمي، ط 1404، ص80.
(14) ابن الأثير (ت 630ه)، أسد الغابة، دار الكتاب العربي، بيروت لبنان، انتشارات إسماعيليان طهران، ج5، ص520.