الشيخ عباس رشيد
هناك رجال يموتون بموتهم، وهناك رجال يزدادون حياة بموتهم. ومن الرجال الرجال ميثم التمّار الذي ازداد حياة بشهادته؛ فما أقلّ أمثال ميثم في الصفوة المنتقاة من هذا العالم المحسوس. إنّ الشاكر لقليل وقليل من عبادي الشكور، وإنّ العاقل لقليل فأكثر الناس لا يعقلون... ومن أقلّ القليل ميثم التمّار الذي يحسن بشبابنا أن يقتدوا به وبأمثاله في زمنٍ قلّت فيه القدوة وندرت.
• ميثم الحر
كان ميثم التمّار عبداً لامرأة من بني أسد، فاشتراه أمير المؤمنين عليه السلام منها وأعتقه، وقال له: "ما اسمك؟ قال: سالم. قال: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله أنّ اسمك الذي سمّاك به أبواك في العجم ميثم. قال: صدق الله ورسوله وصدقت يا أمير المؤمنين، والله إنه لاسمي. قال عليه السلام: فارجع إلى اسمك الذي سمّاك به رسول الله صلى الله عليه وآله ودع سالماً. فرجع إلى ميثم واكتنى بأبي سالم" (1). عاصر ميثم من الأئمة عليهم السلام عليّاً والحسن والحسين عليهما السلام. وكان من خواص أمير المؤمنين عليه السلام وحوارييه؛ ومستودع أسراره، ومغرس علومه. يقول ابن أبي الحديد: "كان ميثم قد أطلعه علي عليه السلام على علم كثير وأسرار خفيّة من أسرار الوصيّة" (2). وكيف لا يهتم الأمير عليه السلام بميثم وهو وصيّة رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقد دخل ميثم مرّة على أمّ سلمة زوجة الرسول صلى الله عليه وآله فقالت له: "والله لربّما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يوصي بك عليّاً في جوف الليل" (3).
• ميثم العالم
أخذ ميثم العلم عن أمير المؤمنين عليه السلام حتى صار من أعلم أصحابه، ثم أخذ العلم من بعده من ولديه الحسنين عليهما السلام. وممّا يشير إلى علم ميثم ما يرويه ابنه صالح، قال: "قلت لأبي جعفر عليه السلام: حدِّثني، فقال عليه السلام: أما سمعت الحديث من أبيك؟ قلت: لا كنت صغيراً" (4). فكأنّ الإمام الباقر عليه السلام يرمز إلى أنّ ميثماً قد حمل من علم أمير المؤمنين عليه السلام ما يغني ابنه لو روى عنه من ذلك العلم.
ويروى عن حمزة بن ميثم أنّ أباه قال لابن عبّاس: "سلني ما شئت من تفسير القرآن، فإنّني قرأت تنزيله على أمير المؤمنين عليه السلام وعلّمني تأويله، فقال: يا جارية هاتي الدواة والقرطاس، فأقبل يكتب. فقلت: يا ابن عبّاس، كيف بك إذا رأيتني مصلوباً تاسع تسعة، أقصرهم خشبة، وأقربهم بالمطهرة؟ فقال لي: وتكهّن أيضاً؟ وخرق الكتاب، فقلت: مه، احفظ بما سمعت، فإن يكن ما أقول لك حقّاً أمسكته وإن يك باطلاً خرقته. قال: هو ذلك (5). وهذه الرواية تشير إلى علم ميثم بالإخبارات الغيبيّة فضلاً عن تفسير القرآن الكريم وتأويله. وممّا يروى في علمه المغيّبات عن صالح بن ميثم، قال: "أخبرني أبو خالد التمّار، قال: كنت مع ميثم التمّار بالفرات يوم الجمعة، فهبّت ريح وهو في سفينة... قال: فخرج فنظر إلى الريح، فقال: شدّوا برأس سفينتكم إنّ هذه ريح عاصف، مات معاوية الساعة. قال: فلمّا كانت الجمعة المقبلة قدم بريد من الشام، فلقيته فاستخبرته، فقلت له: يا عبد الله ما الخبر؟ قال: الناس على أحسن حال، توفي أمير المؤمنين وبايع الناس يزيد، قال: قلت: أيّ يوم توفي؟ قال: يوم الجمعة" (6).
وكان ميثم ينعى الإمام الحسين عليه السلام، فعن جبلة المكيّة: "سمعت ميثماً التمّار يقول: والله لتقتل هذه الأمّة ابن نبيّها في المحرّم لعشر يمضين منه، وليتخذن أعداء الله ذلك اليوم يوم بركة، وإنّ ذلك لكائن قد سبق في علم الله تعالى ذكره، أعلم ذلك لعهد عهده إلي مولاي أمير المؤمنين عليه السلام، ولقد أخبرني أنّه يبكي عليه كل شيء حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحر، والطير في السماء، ويبكي عليه الشمس والقمر والنجوم، والسماء والأرض، ومؤمنو الإنس والجن، وجميع ملائكة السموات والأرضين...."(7).
• يقين ميثم وثباته
كان ميثم من أصحاب الثبات واليقين في كلّ حال، فقد أخبر أمير المؤمنين عليه السلام ميثماً بأنّه يؤخذ من بعده ويصلب على جذع نخلة، وجاء به إلى النخلة فأراه إيّاها. وكان يخرج إلى الكناسة وميثم معه فيمر بالنخلة، فيقول له: "يا ميثم إنّ لك ولها لشأناً من الشأن. فكان ميثم يأتي إليها ويصلّي عندها، ويقول: بوركت من نخلة لك خُلقتُ ولي غُذيت" (8). ومن هنا تعرف مكانة ميثم من الإيمان ومنزلته من الثبات، فإنّه حين أخبره أمير المؤمنين عليه السلام بما يجري عليه من فظائع، قال: أصبر إنّه في الله قليل. وقال له أمير المؤمنين عليه السلام يوماً: إنك تموت مصلوباً. فقال ميثم: يا مولاي وأنا على فطرة الإسلام؟ قال: نعم (9). فميثم لم يحفل بالصلب وإنّما حفل بالعقبى، ونعم عقبى الدار.
• ميثم وأهل البيت عليهم السلام
عرف ميثم إمامه فأطاعه ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ (النساء: 59). وقد قدّر أهل البيت عليهم السلام له هذه الإطاعة، فبالنسبة إلى الحسين عليه السلام تقول أم سلمة لميثم: "كثيراً ما رأيت الحسين بن علي ابن فاطمة يذكرك،... فقال ميثم: أنا والله أكثر ذكره..."(10). وهذا الباقر عليه السلام يقول: "إنّي لأحبّه حبّاً شديداً" (11). وهذا الإمام الصادق عليه السلام يترحّم عليه ويذكره مكبراً لمقامه (12). وفي المقابل كان ميثم يبادل أهل البيت عليهم السلام الحبّ والتقدير والطاعة والولاء حتى وطّن نفسه على القتل والصلب من أجل ولائه لهم ورفضه للبراءة من أمير المؤمنين عليه السلام.
• الكرامة
وما زال ميثم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحدّث بفضائل أهل البيت عليهم السلام وأمير المؤمنين عليه السلام ومثالب الفراعنة أمثال ابن زياد، حتى أمر الأخير بإحضاره، فلما دخل ميثم على ابن زياد، قال الناس لابن زياد: هذا كان من آثر الناس عند علي. قال: ويحكم هذا الأعجمي؟ قيل له: نعم، قال له عبيد الله بن زياد: أين ربّك؟ قال: بالمرصاد لكل ظالم وأنت أحد الظلمة... إنّك على عجمتك لتبلغ الذي تريد. قال: أخبرني ما أخبرك صاحبك أني فاعل بك؟ قال: أخبرني أنّك تصلبني عاشر عشرة أنا أقصرهم خشبة وأقربهم إلى المطهرة، قال: لنخالفنّه، قال: كيف تخالفه؟ فوالله ما أخبر إلا عن النبي صلى الله عليه وآله عن جبرئيل عليه السلام عن الله تعالى، فكيف تخالف هؤلاء؟ ولقد عرفتُ الموضع الذي أُصلب فيه وأين هو من الكوفة، وأنا أول خلق الله أُلجم في الإسلام. فأمر ابن زياد بميثم أن يُصلب، فأخرج، فقال له رجل لقيه: ما كان أغناك عن هذا؟ فتبسّم وقال وهو يومئ إلى النخلة: لها خُلقتُ ولي غُذِّيت. فلمّا رُفع على الخشبة اجتمع الناس حوله... فجعل ميثم يُحدث بفضائل بني هاشم، فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد، فقال: ألجموه. وكان أول خلق الله ألجم (وضعت حديدة حادة في فمه حتى لا يتمكن من الكلام) في الإسلام. وكان قتل ميثم رضي الله عنه قبل قدوم الحسين بن علي عليه السلام العراق بعشرة أيام، فلمّا كان اليوم الثالث من صلبه طُعن بالحربة فكبّر، ثم انبعث في آخر النهار فمه وأنفه دماً(13).
• دفنه وقبره
اجتمع سبعة من التمّارين فتواعدوا على دفنه ليلاً فجاؤوا إليه والحرس حوله يحرسونه وقد أوقدوا النار، فحالت بينهم وبين الحرس فاحتملوه بخشبة... فدفنوه (14). أما مكان قبره فيقول الشيخ المظفّر: "إنّ الدلائل الجمّة وافرة على أن قبر ميثم هو هذا القبر المنسوب إليه اليوم... والقبر قريب من مسجد الكوفة والناس تشاهد منه الكرامات التي تكون للأولياء والصلحاء" (15). لئن مات ميثم وقُطع لسانه فلقد بقي لسان التاريخ يتحدّث عن إيمانه ويقينه وتقواه وشجاعته وثباته وعلمه وحرّيّته وموته الكريم موت الشهادة.
(1) بحار الأنوار، المجلسي، ج 42، ص 124.
(2) كتاب "الغارات"، إبراهيم الثقفي، ج 2، ص 797.
(3) بحار الأنوار، م. س، ج 42، ص 124.
(4) ميثم التمّار، الشيخ محمد الحسين المظفر، المكتبة الحيدرية، النجف، ط 2، 1965م 1385هـ، ص 27.
(5) بحار الأنوار، م. س، ج 42، ص 129.
(6) م. ن، ج 42، ص 128.
(7) م. ن، ج 45، ص 203.
(8) م. ن، ج 42، ص 124.
(9) ميثم التمّار، م. س، ص 40.
(10) بحار الأنوار، م. س، م. س، ج 42، ص 129.
(11) ميثم التمّار، م. س، ص 23.
(12) م. ن.
(13) بحار الأنوار، م. س، ج 42، ص 124 125.
(14) م. ن، ج 42، ص 130.
(15) ميثم التمّار، م. س، ص 78ـ 80.