إنّ العدالة كانت همّ البشر عبر التاريخ وعلى الدوام. ولا يزال هناك شعور بالحاجة إلى العدالة التي هي مطلب جميع الناس على مرّ التاريخ إلى يومنا هذا، كما بحث مفكّرو البشرية والفلاسفة والحكماء في هذه المقولة وأضحت مورد اهتمامهم. لهذا وقع البحث في موضوع العدالة والعدالة الاجتماعية من الأزمنة القديمة وإلى يومنا هذا، وقُدّمت النظريات في هذا المجال. لكنّ دور الأديان كان دوراً استثنائياً، أي إنّ ما ذكرته الأديان حول العدالة وأرادته واهتمّت به كان منقطع النظير واستثنائياً. ومثل هذا الاهتمام الذي أولته الأديان لا نشاهده في آراء الحكماء والعلماء.
* ليقوم الناس بالقسط
فأولاً، بشهادة القرآن، إنّ هدف الأديان هو العدالة، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25). ولا شكَّ في أنّ هذه الآية تخبر عن أنّ هدف إرسال الرسل وإنزال الكتب وإحضار البيّنات أي الحجج المتقنة التي لا تقبل الشك مما عرضه الأنبياء هو القيام بالقسط، (ليقوم الناس بالقسط). وبالطبع، لا شكّ بأنّ القيام بالقسط وكلّ ما تقوم به الحياة الدنيوية والاجتماعية والفردية للنّاس، هو مقدّمة لذاك الهدف المتعلّق بالخلق: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون﴾ (الذاريات: 56) أي إنّ العبودية هي في الأساس هدف الخلقة وصيرورة الإنسان عبداً لله، حيث إنّها تُعدّ أعلى الكمالات. ولكن على طريق الوصول إلى ذاك الهدف، يكون هدف النبوّات وإرسال الرّسل، الذي من جملته ذاك الشيء الذي تصرّح به هذه الآية. وهناك موارد أخرى أيضاً في آيات القرآن الكريم تشير إلى سائر الأهداف من إرسال الرسل، حيث يمكن جمعها معاً. فإذاً، أضحى الهدف هو العدالة، وهدف بناء النظام والحضارات وحركات البشر في المحيط الاجتماعي هو العدالة.
* الأنبياء عليهم السلام دائماً في الميدان
الخاصيّة الأخرى للأديان هي أنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا على مرّ التاريخ إلى جانب المظلومين؛ فقد جاهدوا عملياً من أجل العدالة. لاحظوا؛ لقد صرّح القرآن الكريم أنّ الأنبياء عليهم السلام يواجهون الطواغيت والمترفين، حيث إنّ هؤلاء جميعاً من الطبقات الظالمة، فالمترفون يقفون مقابل الأنبياء، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ﴾ (سبأ: 34). فما نجد من نبيّ إلا وكان في مقابله مترفون وكان النبيّ يحاربهم. وهكذا كان حال الملأ الذين يمسكون بالقدرة والسلطة. والطاغوت له معنى يشمل جميع هؤلاء. لهذا فإنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا دائماً إلى جانب المظلوم في الصراع بين الظالم والمظلوم؛ فكانوا ينزلون إلى الميدان من أجل العدالة ويحاربون؛ وهذا ما لا نظير له.
لقد تحدّث الحكماء حول العدالة، ولكنّهم في كثيرٍ من الأوقات، ومن بينهم مفكّرون كانوا يكتفون بالكلام ولكنّهم لا ينزلون إلى الميدان. لم يكن الأنبياء عليهم السلام هكذا، بل كانوا يعرّضون أنفسهم للخطر، حتى أن المترفين كانوا يسألونهم لماذا يقفون إلى جانب الطبقات المظلومة، ويطلبون منهم الانفصال عن هذه الطبقات ويواجهونهم. فالآية الشريفة، ﴿وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (هود: 31) وهذه الآية تتحدّث عن جواب النبي نوح عليه السلام لمعارضيه هي في هذا المجال. لهذا أولئك الذين كانوا محرومين من العدالة كانوا أول من يؤمن بالأنبياء أيضاً.
* النهاية بتحقق العدالة
إنّ جميع الأديان تتفق على أنّ نهاية هذه الحركة التاريخية العظيمة هي نهاية مليئة بالأمل بالعدل، أي إنّها تقول بشكل قاطع إنّه سيأتي عصرٌ يكون عصر العدل وهو عصر استقرار الدين الكامل. وقد جاء في الدعاء الذي يُقرأ بعد زيارة آل ياسين، "يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً" أو "عدلاً وقسطاً"، حيث تختلف في مواضع عديدة "كما ملئت ظلماً وجورا"، وفي مواضع أخرى "بعدما مُلئت ظلماً وجورا". فجميع الأنبياء وكلّ الأديان وجميع النبوّات أشاروا إلى هذه النهاية وأكّدت عليها وأصرّت وقالت إنّها في طور التحرّك نحو ذلك. لهذا فإنّه في المبدأ وفي المسير وفي النهاية، كان اعتماد النبوّات على العدل، وهذا ما لا نظير له. هناك نقطة مهمة لا بد من الإشارة إليها وهي أن العدالة كانت في موقعية ممتازة في الثورة الإسلامية التي كانت حركةً دينية وهذا أمرٌ طبيعي. قد أُنجز الكثير من الأعمال منذ بداية الثورة، لكن ما نحتاج إليه ونسعى نحوه هو العدالة بحدّها الأقصى لا مجرّد الحد المقبول؛ نريد أن لا يكون هناك أي ظلم في المجتمع.
* العدالة والاعتقاد بالمعاد
أمران مختصران نتعرّض لهما لأهميتها. أحدهما أنّ الاعتقاد بالمبدأ والمعاد في قضية العدالة له دورٌ أساس لا ينبغي أن نغفل عنه. فأينما انعدم هذا الاعتقاد تصبح العدالة كشيء مفروض وإجباري لا أكثر. وهذا هو السبب في أنّ بعض الأطروحات الغربية الجميلة في باب العدالة لم تتحقّق مطلقاً لأنّه لم يكن لديها ركائز اعتقادية. فالاعتقاد بالمعاد، والاعتقاد بتجسّم الأعمال، والاعتقاد بتجسّم الملكات في القيامة له تأثير كبير. أن نكون عادلين، ومطالبين بالعدالة، ونمدح العدل، ونسعى لأجله كلّ هذه ستتجسّم يوم القيامة. هذه هي النقطة المقابلة (للغرب). هذا الاعتقاد يمنح الإنسان النشاط والطاقة. فليعلم الإنسان أيّ بلاءٍ جلبه على نفسه جرّاء سلوكه الظالم بل حتى فكره الظالم على صعيد تجسّم الأعمال في القيامة، فمثل هذا يقرّبه إلى العدالة طبعاً.
* ظلم النفس
الأمر الثاني هو حول العدالة بين الإنسان ونفسه والتي لا ربط لها بالعدالة الاجتماعية. في القرآن تكرّر ذكر ظلم النفس في آيات عديدة. حسناً، الظلم هو النقطة المقابلة للعدل. في دعاء كميل نقرأ "ظلمت نفسي"(1)، في المناجاة الشعبانية الشريفة نقول: "قد جرتُ على نفسي بالنظر لها، فلها الويل إن لم تغفر لها" (2). الذنوب والزلات والسعي وراء الشهوات واتباع الأهواء والابتعاد عن الذكر والخشوع لربّ العالمين هو ظلمٌ للنفس. وهذا يُعد ميداناً مهماً. عندما نقوم بالبحث في باب العدالة العدالة في العلاقات الاجتماعية وفي تشكيل النظام الاجتماعي لا يمكننا أن نغفل العدالة مع النفس. فلا ينبغي أن نظلم أنفسنا، بل يجب أن نعاملها بالعدالة. والنقطة المقابلة لـ "قد جرتُ على نفسي" هي هذا العدل، فلا نجور، بل نعدل. لو أنّ الله تعالى يوفّقنا لتجنب هذا الظلم فإنّ العبد يصبح لديه أملٌ كبير أن يُوفّق إن شاء الله لإقامة العدل في المجتمع.
(1) مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي، ص 845.
(2) إقبال الأعمال، السيد ابن طاووس، ج 3، ص 296.