مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مناسبة: تبوك حربٌ فقدت الشجاع

الشيخ تامر محمد حمزة

 



بعد الانتصار الكبير الذي حققه النبي صلى الله عليه وآله على المشركين والمنافقين بفتح مكة، بدأت الدولة الإسلامية تتجذَّر في أرض الجزيرة العربية، فعمد النبي صلى الله عليه وآله إلى تحصينها؛ وذلك من خلال القضاء على جميع بؤر الخطر وإزالة التهديدات المتمثلة بالأعداء، سواء الخارجيين منهم المنتشرين على طول حدودها، خصوصاً الحدود الشمالية حيث الروم هناك، الذين كانوا يشكلون أكبر تهديد وأعظم خطر عليها, أم الداخليين من مشركين ومنافقين يتربصون الدوائر وينتظرون اللحظة للانقضاض عليها لزعزعة الأمن والاستقرار. وعملياً، قام النبي صلى الله عليه وآله في السنتين الأخيرتين من عمره الشريف بإجراءات على مرحلتين:

الأولى: توجيه الألوية العسكرية إلى الأعداء الخارجيين ليتحسّسوا رؤوسهم وليمنعهم من مجرد التفكير في الاعتداء على الدولة الإسلامية.
الثانية: من خلال القضاء على بؤر الشرك والنفاق، حيث وضعهم أمام خيارين إما الإسلام أو طردهم خارج الحدود.

وفي هذا السياق وخدمة الهدف المذكور كانت غزوة تبوك.
* الأسباب والدوافع

لقد ألمحت في البداية إلى المرحلة التي أخذت تتكون فيها هيكلية ونظام الدولة الإسلامية، وتناهى إلى أسماع العالم منعة هذه الدولة وقوتها. وهنا بدأ المعسكر البيزنطي وحلفاؤه يشعرون بالخطر. ثم تُرجم شعورهم أفعالاً من خلال التحركات العسكرية وإرسال بعض الطلائع إلى البلقاء شمال البحر الميت وشرق البحر المتوسط حتى قيل بورود أخبار تؤكد استعدادهم لغزو الجزيرة وإسقاط الدولة والقضاء على الرسالة.

* إعلان التعبئة العامة
لم يقف النبي صلى الله عليه وآله مكتوف اليدين أمام التهديدات، بل عمد إلى تجهيز جيشٍ قوامه ثلاثة آلاف مقاتل في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة وأرسلهم إلى مؤتة. وبعد مضي أربعة عشر شهراً، أعلن التعبئة العامة في صفوف المسلمين في رجب من السنة التاسعة، فجهز جيشاً كبيراً قوامه ثلاثون ألف مقاتل تصحبه عشرة آلاف فرس، وهو أكبر جيش في تاريخ الدعوة الإسلامية. والجدير ذكره أنَّ النبي صلى الله عليه وآله حين تجهيزه للجيوش لم يكن يبين أهدافه العسكرية؛ زيادة في الكتمان والسرية، أما في هذه الحملة فقد بيّن النبي صلى الله عليه وآله هدفه وهو تبوك؛ ليتأهب الناس وليستعدوا لبعد المسافة وقوة العدو.

* عين على الخارج وأخرى على الداخل
رجب من السنة التاسعة للهجرة صادف وقوعه في حرّ الصيف. وتلك السنة كانت سنة الجدب وقلة الثمار. وأما العدو فهو قوي ومتمرس وكبير من حيث العدة والعدد. فهذه وغيرها عوامل تذرع بها ذوو النفوس الضعيفة والسرائر الخبيثة، فتقاعسوا عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله، ولم يكتفوا بذلك، بل برز النفاق علانية وأخذوا يثبطون العزائم لخذلان النبي صلى الله عليه وآله في معركته. وقد علم باجتماعهم في بيت أحد اليهود، فتعامل معهم بحزمٍ وشدة، وأرسل إليهم من يحرق عليهم دارهم ليكونوا عبرةً لغيرهم. وقد روى القرآن عنهم ذلك: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لاَ تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (التوبة: 81) وكان على رأسهم عبد الله بن أبي سلول. أمام هذين العاملين من التهديدات، قرّر النبي صلى الله عليه وآله مواجهتهما والردّ عليهما بتسيير جيش قوي بقيادته إلى تبوك وباستخلافه لعلي عليه السلام في المدينة لما يعلم منه من حسن تدبيرٍ وقوة يقينٍ قائلاً له صلى الله عليه وآله: "يا علي إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك" (1).

ولم يهنأ المنافقون والمتخلفون عن الزحف بسبب بقاء علي عليه السلام في المدينة، وقد ردوا على ذلك بنشر الأباطيل والأكاذيب عن أن الرسول صلى الله عليه وآله تركه فيها استثقالاً له وتخففاً منه سعياً منهم لخلو المدينة منه، فأسرع للالتحاق بالرسول صلى الله عليه وآله فلحق به على مقربة من المدينة وأخبره بكلام المنافقين، فقال له صلى الله عليه وآله: "كذبوا ولكنني خلفتك لما تركت ورائي فاخلفني في أهلي وأهلك. أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ألا أنه لا نبي بعدي؟" (2).  أقول: كيف يتأتى للمسلمين إحراز النصر في معركة ليس فيها علي بن أبي طالب عليه السلام؟ خاصة في مثل هذه المعركة التي تعتبر الفيصل في تاريخ الدعوة. وقيل لابن الجوزي: هل جرى في تبوك قتال؟ فقال: فقدت الحرب الشجاع فمن يقاتل؟ (3)

* جيش العُسرة
سار رسول الله صلى الله عليه وآله والناس معه في طريق طويل وشاق. وقد مر على أطلال قوم صالح عليه السلام وقال لأصحابه وهو يعظهم: "لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا أن تدخلوها وأنتم باكون مخافة أن يصيبكم مثل ما أصابهم" (4). كما ونهاهم عن استخدام الماء في هذه المنطقة وحذرهم من خطورة الظروف الجوية فيها.  وقد أحاطت بهم صعوبات من حيث الغذاء والماء. وقد مات بعضهم من شدة التعب وطول الطريق. ولذا سُمّيَ هذا الجيش بجيش العسرة, وبسبب ما أصابهم قالوا: يا رسول الله ادع لنا ربك يسقينا رياً من الماء فنزل جبرائيل عليه السلام وأمره أن يضع قدميه وإصبعيه المسبحتين (وهي السبابة أي الأصبع بين الإبهام والوسطى) فانفجر منها اثنتا عشرة عيناً كما انفجرت لموسى عليه السلام وفاض الماء حتى ملأ الوادي والبقعة وشرب الناس وسقوا دوابهم وحملوا من الماء ما كفاهم (5). ويقال لا زالت حتى يومنا هذا. كما ونفد الزاد فشكوا إليه أيضاً فدعا بفضلة زاد لهم, فلم يجد إلا بضع عشرة تمرة فطرحت بين يديه, فمسها بيده المباركة, ودعا ربه ثم صاح في الناس وقال لهم "كلوا بسم الله" فأكل القوم فصاروا أشبع ما كانوا, وملأوا مزاودهم وأوعيتهم, والتمرات كلها كهيئتها, يرونها عياناً (6).

* النبي صلى الله عليه وآله في تبوك
لما وصل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله إلى تبوك لم يجد جيش الروم إذ قد تفرق جمعهم. وهنا استشار صلى الله عليه وآله أصحابه في ملاحقة العدو أو العودة إلى المدينة فقالوا: إن كنت أُمرت بالسير فسر, فقال صلى الله عليه وآله: "لو أُمرت به ما استشرتكم فيه" (7). وقد أقام صلى الله عليه وآله في تبوك عشرين يوماً، يراقب تحرك القوم من جهة ومن جهة أخرى بدأ بالتواصل مع زعماء القبائل النصرانية المنتشرة في المنطقة المتاخمة. وقد عقد مجموعة من المعاهدات معهم. وبذلك قطع ولاءهم للدولة البيزنطية وحولهم إلى حلفاء للدولة الإسلامية. وقد ذكر الذهبي أن يحنة بن روبة صاحب أيلة أتى فصالح رسول الله صلى الله عليه وآله وأعطاه الجزية وأتاه أهل جرباء وأذرح فأعطوه الجزية (8).

* النبي صلى الله عليه وآله في معرض الخطر
بعد تنفيذ المهمة الشاقة وإبلاغ رسالة الدولة الإسلامية إلى أهل الشرق والغرب رجع النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة وقد تحرك الشيطان في نفوس جمع ممن لم يؤمنوا بالله ورسوله فعزموا على اغتيال الرسول صلى الله عليه وآله وذلك بتنفير ناقته ليطرحوه في وادي سحيق. وحين وصول الجيش إلى العقبة قال صلى الله عليه وآله: من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنه أوسع لكم, فأخذ الناس بطن الوادي وسلك هو طريق العقبة وكان يقود ناقته عمار بن ياسر ويسوقها حذيفة بن اليمان. فرأى النبي صلى الله عليه وآله في ضوء القمر فرساناً قد تلثموا ولحقوا به من ورائه في حركة مريبة فغضب وصاح بهم وأمر حذيفة أن يضرب وجوه رواحلهم, فتملكهم الرعب وعرفوا بأن النبي صلى الله عليه وآله قد علم بما أضمرته نفوسهم ومؤامراتهم فأسرعوا تاركين العقبة ليخالطوا الناس ولا تنكشف هويتهم. وطلب حذيفة من الرسول صلى الله عليه وآله أن يبعث إليهم من يقتلهم بعد ما عرفهم من رواحلهم ولكن رسول الرحمة صلى الله عليه وآله عفا عنهم وأوكل أمرهم إلى الله تعالى (9).

* تبوك مواقف وملامح
1ـ أثبتت تبوك أن المسلمين قوة كبيرة تمتلك عقيدة قوية.
2ـ القدرة على التعبئة العامة من حيث العدد والعدة.
3ـ ميّزت بين المخلصين والمنافقين.
4ـ الهيبة التي سيطرت على القبائل التي تقيم في الحجاز.
5ـ سخاء الأغنياء بأموالهم لتجهيز الجيش.
6ـ تمرس الجيش على قطع المسافات الطويلة وكسب المهارات البدنية والتكتيكية.
7ـ اتساع رقعة التواصل مع القبائل خارج حدود الدولة.
8ـ تحصين الحدود الشمالية وتوفير الأمن من خلال المعاهدات.

* خاتمة
عن أنس بن مالك قال: "رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله قافلين من تبوك وقد خطب فيهم في بعض الطريق قائلاً لهم: معاشر الناس ما لي إذا ذُكر آل إبراهيم تهللت وجوهكم وإذا ذُكر آل محمد صلى الله عليه وآله كأنما يفقأ في وجوهكم حبّ الرمان فوالذي بعثني بالحق نبياً لو جاء أحدكم يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبال ولم يجىء بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام أكبه الله عزّ وجلّ في النار" (10).


 (1) الإرشاد، الشيخ المفيد، ج 1، ص 155.
(2) السيرة النبوية، ابن هشام، ج 4، ص 947.
(3) تذكرة الخواص، ابن الجوزي، ص 46.
(4) التمهيد، ابن عبد البر، ج13، ص 145.
(5) الهداية الكبرى، الخصيبي، ص 63ـ 64.
(6) الثاقب في المناقب، ابن حمزة الطوسي، ص 52.
(7) تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج 2، ص 37.
(8) تاريخ الإسلام، الذهبي، ج2، ص 643.
(9) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 21، ص 247.
(10) الأمالي، الشيخ الطوسي، ص 308.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع