نهى عبد الله
وقفت على جثمانه، تحاول اتخاذ قرارها، في التعرف عليه، انتظرته سنوات بعد انقضاء
الحرب، لا ملامح، بضع علامات كفيلة بتحديد هويته، أهو كرّار ابنها؟ أهذه يداه؟
قدماه؟ مدّت السيدة الأخرى يدها لتجذبها: "ارحميني، إن لم يكن ابنك، فهو ابني بلا
شك"، وانهارت السيدة بالبكاء، هي الأخرى لم تعد تحتمل عبء سنوات انتظار ثقيلة،
فابنها كل عائلتها، وإن لم يكن هو ستمضي حياتها وحيدة، دون ضريح لابنها الشهيد.
حزمت أمرها: "ليس كرّاراً، ليس ابني، وهبته لله".
بعد 5 سنوات، كبر إخوة كرّار وهم يراقبون والدتهم التي لم تعد تنتظر جثمانه، لكن ما
أقلقلهم جدياً إدمانها الغياب، ففي كل شهر تقريباً تسافر الوالدة لتغيب أسبوعاً،
وكانت خشيتهم إصابتها باليأس من عودة جثمان كرّار، فقرر أحدهم تعقبها لاكتشاف السرّ.
ومن حافلة إلى أخرى، قطعت الأم مسافات بعيدة، حتى وصلت قرية نائية، توجّهت إلى روضة
الشهداء، مرّت على قبورهم، توقفت قليلاً لتدعو لهم ثمّ تابعت مسيرها، ثمّ توقفت خلف
شجرة، نظرت إلى قبر شهيد، تجثو بجانبه سيدة تمسك مصحفاً صغيراً، ما إن أنهت تلاوتها
ورحلت، حتى توجهت أم كرّار وجلست مكانها، مدّت يدها لتمسح القبر، وأخرجت خمس شمعات،
أشعلتها.. وعود بخور، وانشغلت بالتلاوة.
تسلل ابنها الحائر خلفها وقرأ اسم الشهيد، ليس من العائلة! ظنّ عندها أنها تواسي
نفسها بقبر شهيد آخر، قاطعت أفكاره دون أن تلتفت إليه: "هذا قبر أخيك كرّار"، حيرته
أطبقت فمه، أتمت الوالدة كلامها: "أوصاني كرّار قبل شهادته أن أهبه لله، كلّما اشتد
شوقي إليه وتعلّقي به. وهبته مرة فارتفع شهيداً، فعلمت أن الله تقبلّ عمله، وعاد
جثمانه إليّ مع قلب أمّ أخرى يكاد ينفطر، فصارعني شوقي إليه مرة أخرى واستئثاري به،
تذكرت وصيّته، فوهبته لله ثانية".
(*) حادثة واقعية بعد الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية في إيران.
الضاحية
والد شهيد
2018-12-08 00:55:09
توصيف رائع وراق.. شعور لا يعرفه الا اهل شهيد.. بت ليلتي الماضية وقلبي يعيش هذه الصورة ولم تغب عني منذ قراتها في المجلة حين وصلتني. اشكر الكاتبة مع كامل التقدير لهذا القلم، واشكر المجلة الراقية.