نسرين إدريس قازان
شهيد الدفاع عن المقدّسات علي حسن سيف الدين (أبو تراب)
اسم الأمّ: فاطمة سيف الدين.
محلّ الولادة وتاريخها: زبّود 20/4/1984م.
رقم القيد: 8.
الوضع الاجتماعي: متأهّل.
مكان وتاريخ الاستشهاد: سوريا 9/4/2014م.
"نحنُ خطُّنا خطّ الإمام الحسـين عليه السلام". بهذه
الكلمـات اختصـر "عليّ" طريقه في الحياة، فلم يبحث عن مالٍ أو جاهٍ، ولا راحة بال
أو استقرار، بل جلّ ما سعى إليه رضى الله والوصول إليه.
في حديثه كان يترك رسائل يحفظها القلب؛ فلا يُذكر موضوع إلّا و"عليّ" حاضرٌ بنصيحة
ورأي، على الرغم من مرور ما يزيد على أربع سنوات على رحيله.. وأيُّ رحيلٍ هذا الذي
ينضحُ بقاءً في كلّ حين..
* "عليّ" أيقونة إيثار
"عليّ"؛ وتغصُّ الحياة وتدمعُ عينها.. فهو كان مثالاً لمن أراد الدنيا معراجاً
للآخرة.. بتلك العينين الهادئتين اللتين رسمتا السكينة حوله كان يعبر الأيام تاركاً
في كلّ زاوية ذكرى، ومع كلّ ذكرى غصّة، فذلك الحبّ الذي حمله لمن حوله، وسعيه
الحثيث لمساعدتهم، جعل منه أيقونة إيثار، فلا مكان عنده لـ"أنا" حتى آخر لحظات
حياته.
صديق أمّه المقرّب، كان يوصيها دوماً أن لا تهتم بإرضاء الناس، بل أن يكون رضى الله
هو الأساس في حياتها، وكلّما تحدّث معها، وشى قلبها بشيء حزين، شيء ينبئها بأنّه في
يوم من الأيّام لن يكون هذا السند معها.
* الله الله في الصلاة
كان والده يغيب طوال الأسبوع في عمله في بيروت، ليعود إلى عائلته في العطلة فيقضي
ساعات الراحة بين أولاده.. لقد حفظ "عليّ" جيّداً تعب والده، وكان في غيابه يقوم
بدور الموجّه والمربّي لإخوته، فيرشدهم ويعظهم ويلفت نظرهم إلى الحدود الشرعية، وما
أوصى بشيء مثل وصيّته بالصلاة، فرأى أبوه فيه انعكاساً له، ما أزاح عن كاهله عبئاً
ثقيلاً من غيابٍ كاد يؤثر سلباً على تربية أولاده، لولا وجود "عليّ" الذي تحيّن
أيضاً الفرصة لمساعدته بشتّى الطرق، لا سيّما العمل، ولكنّ قراره المبكر بالالتحاق
بصفوف المقاومة، دفعه إلى ترك كلّ شيء والاقتصار على أوقات الفراغ للعمل.
* تحقيق الحلم
كان ذلك بعد إنهائه لخدمة العلم بفترة قصيرة، حيث التحق بصفوف المجاهدين الذين حلم
أن يكون واحداً منهم منذ نعومة أظفاره، وعمل على ذلك بتربية نفسه تربية دينية،
وكانت تلك العلاقة الروحية مع الله تنعكسُ صفاءً في وجهه، واحتراماً في سلوكه،
وجمالاً في ما يقوم به، وكأنّ كلّ فعله وعاء يسكب فيه من روحه وحبّه، أمّا عن ضيق
حاله فكان يقول: "الله بيبعت"، فلا شكوى ولا طلب، بل نظرة إلى الله وأمل عظيم به.
خضع "عليّ" للعديد من الدورات العسكرية والثقافية، وعقد قرانه لسنوات، كان خلالها
يهيّئ بيته الزوجيّ الصغير والمتواضع. ومع بداية حرب الدفاع عن المقدّسات، كان من
أوائل الملتحقين بالجبهة، فاكتنف الغياب حضوره، وفي بعض الأحيان كان ينقطع الاتّصال
به، لتظلّ الروح معلّقة بسماع رنين آتٍ من بعيد، وصدى صوته يعيد دوماً في قلب أمه
وخطيبته: "هذه الحرب هي كربلاء الثانية.. نحن دائماً نقول: (يا ليتنا كنّا معكم)".
* "عليّ" في الجبهات
حضر "عليّ" في أولى المعارك (ريف القصير)، ومن ثم القصير، المعركة التي عرج فيها
الكثير من رفاقه شهداء، ولكنّه الانتصار الأوّل الذي مهّد لكلّ الانتصارات. ومن ثمّ
التحق بجبهة الشام، وسرعان ما انتقل إلى الغوطة الشرقية التي حوصر فيها مع مجموعة
من رفاقه لأكثر من أربعة أيّام، يومها كان الرصاص كزخّات المطر فوق رؤوسهم. استشهد
بعضهم، وحوصر من بقي ومعهم "عليّ"، وضاقت الأرض بهم، ولاذوا ببيت مكثوا فيه
ليتبيّنوا أمورهم، وإذا بشخص يدخل عليهم طالباً إليهم الخروج سريعاً معه، فتبعوه
وانتقلوا إلى بيت آخر، ثمّ خرج بهم إلى أرضٍ لا يوجد فيها أحد، وقال لهم: انطلقوا،
أنتم الآن بأمان الله. فعلوا ذلك، ولم يصدّق أحد أنّهم استطاعوا الخروج من قبضة
الكمّاشة التي كانت تشدّ بخناقها عليهم، وكان خروجهم أشبه بالمعجزة.
* يأكل أخيراً
خفيفُ الظلّ لا يطلب من أحد أيّ طلب، بل يخدم نفسه والآخرين، ولا يضع أيّ شيء في
فمه، من ماء أو طعام أو حبّة حلوى، إلّا بعد أن يذيق رفاقه حتّى لو لم يبقَ له شيء،
فهو حقاً لم يكن يريد أيّ شيء.
* في طريق العروج
وجاء اليوم الذي انتظره أهله وأحبابه كثيراً، وكان له عرسٌ جميل، عرسٌ امتزجت فيه
الفرحة بالأسى، وكيف لا يكون كذلك، وكلّ سكنة من سكنات "عليّ" تنبئ برحيله، فـ"عليّ"
كان يتغيّر يوماً بعد يوم، يزدادُ سكوتاً وشروداً، يجلس بين الناس وكأنّه في سفر
داخليّ، لا أحد يعرف أين يرمي بمرساته.
* العروج ولقاء "حوراء"
عندما علم "عليّ" أنّ زوجته حامل، لم تحمل الأرض سعادته، وما أن عرف أنّها فتاة
حتّى سمّاها حوراء. وبانتظار قدومها، كان فارس زينب ينتقل من مكان إلى مكان، فمن
الشام إلى يبرود إلى رنكوس التي كان ترابها بانتظار دمه. وكان "عليّ" قد رأى في
منامه قبل فترة قصيرة أنّ صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف قد جاء وأخذ بيده،
فاستبشر وأدرك أنّ الموعد قد حان.
كانت المواجهة في رنكوس وجهاً لوجه مع التكفيريّين، و"عليّ" يقاتل ببأسه المعهود،
وبين أزيز الرصاص سمع صوت رفيقه، فنظر إليه وإذ به جريح، فاندفع لإنقاذه تحت وابل
من الرصاص والحجارة والغبار، غير أنّ الرصاصة وضعت نقطة الختام لذلك العمر المفعم
بالمحبّة والإيثار.
أيتم "عليّ" الجنين الذي سارع للخروج إلى الحياة في الشهر السابع، فولدت ابنته
حوراء يوم أربعينه، ورحلت إليه في اليوم التالي لتغفو في حضن والدها ملاكاً في
الجنّة.
وكما كان مبتسماً في حياته، ظلّت تلك الابتسامة الرقيقة المفعمة بالمعاني مرسومةً
على وجهه في كفنه. ابتسامة تهدئ روع القلب؛ لأنّه التقى بمن يحبّ من آل بيت محمد
عليهم السلام ومن رفاقه الشهداء.