تحقيق: فاطمة خشاب درويش
المرأة بين الأسرة والعمل...قراءة موضوعيَّة في النتائج
وخطوات تضمن النجاح لم يعد عمل المرأة في مجتمعنا مجرّد ظاهرة تتطلَّب تسليط الضوء
عليها بل أصبح جزءاً أساسيّاً من نمط الحياة، فما كان في الأمس القريب مرفوضاً
اجتماعيَّاً ومحظوراً على المرأة بات اليوم مقبولاً بل مطلوباً من قِبَل المجتمع
والزوج والأقارب وذلك لأسباب عديدة في مقدَّمها الضيق الاقتصادي الذي نعيشه. تسجِّل
الأبحاث الاجتماعيَّة المتعلِّقة بقضايا العمل والمرأة نسبة مرتفعة لدى الإناث حيال
بعض الاختصاصات التي تُعتبَر مناسبة لهنَّ وهي تضمن الاستمرار فيها بعد الزواج
والإنجاب كالتعليم والإعلام وإدارة الأعمال والمحاسبة. في هذا التحقيق
أعزَّائي القراء نطلّ على واقع المرأة العاملة، على واقعها النفسيِّ والأسَريِّ
والعمليِّ، ونعرض بأمانة الإيجابيَّات والسلبيَّات المترتِّبة على عمل المرأة،
ونخلص إلى بعض التوصيات النفسيَّة والتربويَّة التي تساعدها على النجاح في مهمَّتها
داخل المنزل وخارجه.
* المرأة شريك أساسيّ في الاقتصاد الأسريّ:
ينطلق الباحث في القضايا الاجتماعية والنفسية د. محمد أيوب شحيمي أستاذ علم النفس
وعلم النفس الاجتماعيّ في حديثه عن ظاهرة عمل المرأة في مجتمعنا من أهميَّة المرأة
ودورها، سواء في الأسرة أو المجتمع، فهي الأمّ والنصف المكمّل للرجل في الحياة، وهي
أصبحت بفعل الحاجة الاقتصاديَّة شريكاً أساسيَّاً في بناء الأسرة الاقتصادي، فهي
تعمل وتنتج وتساهم في تحمّل الكثير من الأعباء الماديَّة الملقاة على عاتق الزوج.
ويعتبر د. شحيمي أنّ الأزمات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة التي نعيشها اليوم هي من
النتاج السلبيّ للعولمة التي حوّلت الكماليَّات في حياتنا إلى ضروريَّات ودفعت
المرأة للعمل من أجل المساهمة في تلبيتها، فالأسرة في طريقها نحو الانحلال والتفكّك
حيث ينعدم دورها ويوكل قسراً للإعلام غير المنضبط الذي يتعاظم دوره وتأثيره أثناء
غياب الأمّ عن المنزل.
المرأة وتماسك الأسرة:
ترى المشرفة على الإرشاد والتوجيه في مدارس المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم
والباحثة في الشؤون التربويَّة والأسريَّة أميرة برغل أنّ قرار عمل المرأة خارج
المنزل يجب أن يُدرس بعناية فائقة، فإذا كان عمل المرأة لا يسبِّب إزعاجاً للزوج
بالشكل الذي يجعله يشعر بعدم الأنس في بيته ولا يؤدِّي إلى نقص في حاجات الأولاد
الأساسيّة وأخذ فرصتهم الكاملة في النموّ، يكون عمل المرأة بالتالي ايجابيَّاته
أكثر من سلبيَّاته. وتقرّ السيِّدة برغل بأنَّ تحقيق هذا الشيء صعب ويتوقَّف على
عدَّة أمور في مقدّمها قدرة المرأة على تنظيم وقتها وقدرتها على الفصل ما بين عملها
في المنزل وخارجه، فلا تأتي بهموم العمل إلى البيت، وقدرتها من الناحية الصحيَّة
على القيام بواجباتها المنزليَّة والعائليَّة إلى جانب عملها، كما ويتوقّف ذلك أيضاً
على أن تكون نوعية العمل لا تتطلَّب دواماً طويلاً مماثلاً لدوام الزوج. أمَّا إذا
لم تكن قادرة على ذلك وكان عملها خارج المنزل سيؤدّي إلى نقص في أحد مستلزمات تماسك
الأسرة أو تنشئة الأولاد بالشكل الذي يؤمِّن لهم جميع فرص النموّ للمستقبل فإنّ هذا
العمل سلبيَّاته أكثر من إيجابيَّاته، وقد تكون نتائجه خسراناً في الدنيا والآخرة.
* تجارب سيدات عاملات:
وقبل التفصيل في إطار إيجابيَّات وسلبيَّات عمل المرأة، هذه تجارب لسيِّدات عاملات
تحكي لسان حال الكثيرات ممَّن يعملن اليوم، وهي تجارب تتفاوت وتختلف في الشكل
والمضمون.
- لا خيار إلا العمل والتكيّف مع الصعوبات:
تتحدّث الإعلاميَّة سوزان شعيتو فاعور بواقعية عن عمل المرأة، ففي رأيها لا خيار
أمام المرأة في ظلّ الظروف الاقتصاديَّة الصعبة سوى الخروج إلى ميدان العمل، ولا
سبيل أمامها سوى التغاضي عن الكثير من الصعوبة والتكيّف مع وضعها حتَّى تنجح في
عملها وتُحافظ على استقرار حياتها العائلية، وإن كان ذلك يتحقَّق غالباً على حساب
راحتها الشخصيَّة. وتتابع موضحةً أنّ صعوبة أو سهولة عمل المرأة ترتبط بشكل وثيق
بمدى توافر الظروف المساعدة والمساندة لذلك، فإذا كان هناك من يرعى الأطفال ويتولّى
القيام بالأعمال المنزليَّة تسهل المهمَّة، وإلا فهناك الكثير من المشقَّة والتعب.
وتشير السيدة فاعور إلى أنّ هناك وجهين لعمل المرأة الأوَّل إيجابيّ فهو يُعطي
المرأة الكثير فيجعلها ذات شخصيَّة قويَّة منفتحة على المجتمع، كما هو حالها في
المجال الإعلاميّ، وفي المقلب الآخر تتحدَّث بواقعية عن أهمية جلوس المرأة إلى جانب
أولادها في المنزل، وهي أم لابنتين مليكا وكندة، فهي ترى أنّ عمل المرأة لا يُتيح
للأم متابعة التفاصيل مع أبنائها بل يضطرّها إلى استغلال الوقت خلسة للعناية بهم
وتأمين مستلزماتهم سواء النفسيَّة أو الجسديَّة والحدّ قدر الإمكان من التأثيرات
السلبيَّة لغيابها عنهم. فاقتناع المرأة بعملها ودورها، كما ترى، يعطيها القدرة على
الاستمرار إلى جانب دعم الزوج الذي يُعتَبر أساساً في نجاح المرأة أو فشلها.
- العمل يحقق لي طموحي فأنسى التعب:
تعتبر السيِّدة سارة جابر خليل، وهي تعمل في المجال الإعلامي، أنّ عملها يساعدها
على تحقيق طموحها إلى جانب تحقيق الذَّات، فالمرأة في رأيها تضيع هويّتها في الأسرة،
ويصبح العطاء سِمَة ملازمة لها. وتتابع سارة موضحة أنَّ نجاح المرأة في عملها
يزوّدها بالثقة ويقوّيها ويساعدها على فهم لعبة الحياة "فكلّ التعب الذي أشعر به
وأنا أعمل أنساه في لحظة النجاح". وحول تجربتها الشخصيَّة تشير إلى أنَّها تعمل على
نوعيَّة الوقت الذي تقدّمه لزوجها وابنتها فكلّ الوقت خارج العمل مخصّص لهما.
فالعلاقات الاجتماعيّة معدومة ودائرة الحياة مقتصرة على العمل والمنزل. وتشدِّد
السيدة خليل على تفهّم الزوج كونه أساسياً في استمراريَّة عمل زوجته، فإذا كان غير
مساعد لا يمكن للمرأة أن تفعل شيئاً وليس أمامها سوى الاختيار ما بين حياتها
الشخصيَّة وعملها. وفي رأيها تخطئ مَن تفضِّل العمل على العائلة؛ لأنَّه من الممكن
أن تجدي عملاً آخر بسهولة ولكن العائلة من الصعب تعويضها.
* لمن تميل الدفة بين إيجابيات وسلبيات عمل المرأة؟
يشرح الباحث في القضايا الاجتماعية والنفسية د. محمد شحيمي إيجابيات خروج المرأة
إلى ميدان العمل والتي يمكن حصرها بالنقاط التالية:
- عمل المرأة يحسّن الدخل المادي للأسرة.
- يقوي شخصية المرأة ويجعلها أقوى على مواجهة الصعاب.
- يعزِّز العمل الاكتساب الثقافي واستثمار التخصّص الجامعي.
- يساهم في اكتساب العلم وخدمة المجتمع.
- فمن خلال العمل تتوسَّع الحلقة الاجتماعيَّة ودائرة تبادل الخبرات واكتساب
المعارف في الحياة.
وبالانتقال إلى استعراض التأثيرات السلبيَّة لعمل المرأة
يحذِّر د. شحيمي السيِّدة العاملة مهما علا شأنها من الشعور بأنَّها أصبحت كالرجل
تماماً بل عليها أن تبقى أنثى تتمتّع بأسمى الصفات الإنسانيَّة من عطف ورقَّة وحنان؛
لأنّ هذا الشعور بالتعالي قد يؤثِّر سلبياً في العلاقة الزوجيَّة خاصَّة إذا كانت
المرأة تعمل في موقع أفضل من عمل زوجها. ويوضح د. شحيمي جملة من التأثيرات
السلبيَّة الناجمة عن عمل المرأة خارج المنزل ونلخّصها بما يلي:
- يُسند العمل المنزلي وحتَّى قسم من العمل التربوي للخادمة.
- يحصل نوع من الجفاف الانفعاليّ والعاطفيّ ما بين الأمّ والأطفال.
- عمل المرأة يضطرّ الأمّ إلى عدم الإرضاع لفترة طويلة والاستعاضة بالحليب
الاصطناعيّ ممَّا يؤثِّر في غذاء الطفل النفسيّ والعاطفيّ.
- حالة الهلع التي تعيشها الأمّ صباحاً تؤثِّر في نفسيَّة الطفل وعطائه في المدرسة.
- وضع الأطفال في الحضانة في عمر مبْكِر جداً بعد انتهاء فترة الأمومة.
* خلاصة تجربة 35 عاماً من العمل
وحول تجربتها الشخصيَّة في ميدان العمل التي يبلغ عمرها 35 سنة تُشير الباحثة في
المجال الأسريّ والتربويّ أميرة برغل إلى أنّ أهمّ ما ساعدها في التوفيق بين أسرتها
وعملها هو التعاون فيما بينها وبين زوجها وكذلك تعاون أهلها وأهل زوجها معها إلى
جانب اهتمامها بما يحتاجه الطفل على الصعيد النفسيّ والتربويّ والتخطيط لكيفيّة ملء
أوقات الأولاد في غيابها. وتتابع برغل قائلة "التجربة مرَّت بسلام وكان من الممكن
أن تكون أفضل لو كان لديّ معرفة أكثر بالحاجات النفسيَّة للأولاد". وفي إطار
تقييمها لتجربة العمل ترى الحاجة أميرة أنّ إيجابيَّات عمل المرأة أنَّها تنظّم
الحياة الأسرية وتجعل الأولاد يتعوّدون العيش بمسؤوليَّة أكثر. وحول نظريَّة أنّ
المرأة العاملة تنجح في التوفيق بين العمل وأسرتها ولكن على حساب راحتها الشخصيَّة
تعتبر أنَّ لكل شيء ضريبة ومن المؤكَّد أنّ عمل المرأة خارج المنزل يترتّب عليه
تحمّلها لمهامَّ إضافية وقد يكون ذلك مضنياً وعلى حساب راحتها بالكامل إلاَّ إذا
كان هناك تعاون حقيقيّ من قِبَل الزوج أو آخرين.
* القناعة والتكيّف يحققان النجاح
إذا كانت الحاجة الاقتصاديَّة تدفع أغلبيَّة السيِّدات إلى العمل فالسؤال الأساس
كيف تستطيع المرأة العاملة الحدّ من التأثيرات السلبيَّة؟ وهل هناك إمكانيَّة
للتوفيق والنجاح عمليّاً؟ وما هي العوامل المساعدة في هذا المجال؟ يجيب د. شحيمي عن
هذه الأسئلة بالتأكيد على أهميَّة تكيّف المرأة العاملة مع وضعها على قاعدة "إذا لم
يكن ما تريد أرد ما يكون". المرأة المضطرَّة للعمل عليها أن تتكيَّف مع وضعها كي لا
يصبح عندها نوع من الصراع والخلل في التوازن في شخصيَّتها. فمن ترضَ بواقعها
وتتكيَّف معه تحقِّق نوعاً من الاستقرار النفسيِّ وتنجح في حياتها. ختاماً نقول إذا
كان قدر أغلبيَّة النساء اليوم العمل في المنزل وخارجه نتيجة للأوضاع الاقتصادية
الصعبة فلا بدّ لأعضاء الأسرة من التكاتف سويَّة من أجل تحمّل المسؤوليَّات والحدّ
من التأثيرات السلبيَّة لعمل المرأة, فعلى الرغم من أنَّ المرأة تعتبر الأساس في
الموضوع إلا أنَّها تعمل من أجل أسرتها واستقرارها، فعلى الزوج والأولاد الوقوف إلى
جانبها لتأمين مقوّمات النجاح. ونختم بما جاء في الآية الكريمة
﴿ هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا
الْإِحْسَانُ﴾
(الرحمن:60).