عفاف الحكيم
يشكل الوقت عنصراً أساساً في تحقيق ما نتطلع إليه ونتمناه من أمور وأشياء.. لذا حين لخص الباحثون سرّ النجاح أشاروا أولاً إلى اغتنام الوقت وعدم تضييعه والتفريط به..
وأن أي تأمل في أسباب مشكلة الإنسان في يومنا. ومحنته الاجتماعية والتعبدية والاقتصادية، سيجد أن هدر الأوقات سبب أساس في كل ما يعترضنا أو نعاني منه من مشاكل وهموم سواء على الصعيد الخاص كأفراد أو الصعيد العام كمجتمع واحد..
وسيدرك إلى هذا إبعاد تشديد التربية الإسلامية على سدّ منافذ العبث واللهو.. والتركيز على بث روح اليقظة والجد والمسؤولية.
* المرأة تخصيصاً
لما كان المجتمع النسائي يعاني أكثر من غيره من حالات التبذير والإتلاف (القسري..) على صعيد الوقت وإهدار الطاقة، كان التوجه في هذه الكتابة للمرأة. وإلا فالمسألة بالعموم تطال كل فرد بشكل نسبي، شاباً كان أم فتاة. رجلاً كان أم امرأة. مسنّاً أم طفلاً صغيراً..
* مساوئ الفراغ
كما السم الذي يسري ببطء ليصل إلى هدفه في النهاية. هكذا أوقات الفراغ تفتك بكثيرين فتجتاح المواهب والطموحات لتخلق من ورائها الخمول والإحباط..
فهي من جهة قد تتحول إلى مشكلة وأزمة حياتية تعقد حياة الأسرة ككل..
ومن جهة ثانية قد تتحول إلى أزمة نفسية تنعكس آثارها السيئة على الفرد نفسه فتحرمه سعادة الدارين.. وقد أشار الإمام الباقر عليه السلام إلى هذا بقوله: "إياك والكسل والضجر فإنهما يمنعانك من حظك في الدنيا والآخرة..".
ومن جهة ثالثة قد تتسبب أوقات الفراغ بأحداث مشاكل اجتماعية وأخلاقية.. فالإنسان أو بشكل عام المرأة.. التي لا تملك مرتبة اجتماعية ولم تتبلور شخصيتها ثقافياً.. حين تملك طاقة ولا توجد لها مسرباً طبيعياً لتصريفها. أو مجالاً نافعاً لتوظيفها ووضعها في الموضع الطبيعي البناء.. تتحول إلى عنصر هدام من حيث تدري أو لا تدري..
عكس تلك التي تملك حساً اجتماعياً. وإدراكاً سليماً. ومعرفة صحيحة فإنها تحرص على كل لحظة ودقيقة وساعة من ساعات عمرها. وتعمل جاهدة على توظيفها والاستفادة منها لئلا تضيع هدراً باعتبار أن وقت الفراغ عند من تملك الإدراك السليم ليس معناه الوقت الزائد الذي لا قيمة له. والذي يمكن أن تستغني عنه وتبدده وترمي به في الهواء كيف تشاء.. وإنما هو جزء من فرصة العمر التي نضن بها. ومساحة لا تثمن ولا يستهان بها من هذا العمر وإن قلّت. فكيف أن كثرت وأهدرت في اللاشيء..
وقت الفراغ عند من تملك المعرفة الصحيحة، هو الوقت الذي بقي لها لتملكه وتملك نفسها فيه بعد أن قضت وقت العمل مملوكة لما تزاوله من شواغل وتكاليف.
وقت الفراغ عند من تتوق إلى معالجة الأمور قد يتحول سبيلاً ومعراجاً إلى أعلى عليين. أما عند تلك التي تدعه مرتعاً لسفاسف الأمور فإنه قد يصبح منزلقاً يهبط بها إلى أسفل السافلين..
ولذا قيل أن أفرغ الناس هو الذي لا يستطيع أن يملأ ساعات فراغه. وأن الذي يعرف قيمة وقته يعرف قيمة حياته ويستحق أن يحيا لأن مالك وقته يملك كل شيء ويصبح في حياته سيد الأحرار.
من هنا، وفي زحمة الحياة وطموحها ليس لنا أن ننسى فرص الخير التي بين أيدينا.. والتي تطلق أوقات الفراغ..
إذ كم تنسى الكثيرات منا أهمية الوقت وقيمة العمر. مع العلم أن كل لحظة تمر من العمر تنقصه ولا يمكن تعويضها وإعادتها.. وقد يغيب عن بالها أن هذا العمر كمسافة الطريق بالنسبة إلى المسافر. كل خطوة نخطوها تنقص الطريق وتقرب من النهاية..
لذا لا بد لنا في أول الطريق من إسقاط المبررات.. لأنه إن كانت أوقات العمل الأسروي والمنزلي تملكنا.. فإننا نحن من يملك أوقات الفراغ. وبيدنا أن نتصرف بها كما نريد، وهي لهذا بمثابة ميزان القدرة على التصرف، وميزان معرفتنا بقيمة الوقت كله.. وليس الوقت سوى عمر، وليس العمر سوى فرصة، إذ في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الفرصة تمر مرّ السحاب فانتهزوا فرص الخير".
* من أسباب الفراغ:
1- الغفلة: فكما أن انحراف الصحة البدنية، يعطل برامجنا وحركة نشاطنا اليومي، فإن الغفلة عبر انحراف ميزان التنبه وعدم ضبط الإرادة لدينا تؤدي إلى ضياع الوقت وتضييعه وعدم الانتفاع به، فيقضي على طموحنا في إيجاد أو انجاز أي شيء.. وبالتالي يعطل طاقاتنا وإمكانياتنا وقدراتنا ويفوّت علينا جليل الفرص، والحديث الشريف ينبّه: "كفى بالمرء غفلة أن يضيع عمره فيما لا ينجيه".
"اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك وغناك قبل فقرك".
2- عدم نظم الوقت: وهذا قد يوجد إرباكاً لا تقوى معه كثيرات على الإمساك بزمام الأمر.. لذا نلاحظ العديدات ممن يشكين الفراغ ويعشن مرارته مع أنهن يملكن روح المسؤولية وصدق التوجه.. إلا أن عملية تنظيم الوقت تخذلهن..
وقد نرى البعض بسبب عدم التوازن في تقسيم الوقت وضبطه يقع فريسة كثرة النوم وهذا ما يورث الكسل والخمول البدني والنفسي.. لذا نجد الحديث الشريف يشدد في التأنيب: "إن الله ليبغض العبد النوام، إن الله ليبغض العبد الفارغ".
"كثرة النوم مذهبة للدين والدنيا". "بورك لأمتي في بكورها".
كثيرة هي الأحاديث التي تركز على أخذ مقدار الحاجة الأساسي من النوم وتحث على النهوض المبكر... وأنه بالالتفات إلى مفاهيمنا ونظامنا الحياتي نجد أن الله تبارك وتعالى قد نظم لنا حياتنا، بحيث جعل الصلاة عند طلوع الفجر لنبدأ يومنا بالعبادة وذكر الله والتفكير في عظيم آياته فنستجلي وجه الصباح ونستغل يومنا من بدايته بالجد والحيوية والنشاط..
وهنا يحضر في قول زوجة الإمام الخميني قدس سره لدى استقبالها لضيفات أحد المؤتمرات العالمية مع مطلع الثورة، في منزلهم المتواضع، أن الإمام منذ عرفته ينام في العاشرة ويستيقظ في الساعة الثانية ليلاً، ويأخذ نصف ساعة للقيلولة قبل صلاة الظهر مباشرة، ولا حاجة هنا للتفصيل في عظيم ما أنجزه الإمام وأعطاه.. وما بلغه من سمو في شخصه الشريف..
3- اللامبالاة واللامسؤولية: وهذا منشأة التربية الخاطئة أساساً.. فالإسلام كنهج لم يحرص فقط على توظيف الطاقة واستثمارها وحسب، بل جعل الإنسان- رجلاً كان أم امرأة- مسؤولاً ومحاسباً عنها يوم القيامة، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحديثه الشريف يلفتنا لأمر جلل: " لا تزولا قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن عمله كيف عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه".
الحديث الشريف هنا يضع الفرد المسلم أمام المسؤولية الكبرى يوم القيامة، ويبين أنه غير مسموح له بإتلاف وتضييع الوقت والعمر في الثرثرة والفراغ والنوم والكسل والمجالس الفارغة.. كما يشدد في التأكيد: "اعلم أن الدنيا دار بلية لم يفرغ صاحبها منها ساعة إلا كانت رغبته عليه حسرة يوم القيامة". "إن يكن الشغل مجهدة فاتصال الفراغ مفسدة".
4- عدم توفر المناخ السوي في البيئة العائلية.. أو المحيط الاجتماعي: المناخ الذي يقدّر دور المرأة ومواهبها ونشاطاتها الثقافية والفنية والاجتماعية ويحترم برامجها وأوقاتها..
المناخ الذي يستقي من ينابيع الإسلام الصافية التي حرصت على إرساء أجواء التكامل حفاظاً على دور الإنسان الرجل والإنسان المرأة وصوناً للطاقات كل الطاقات في الأمر..
فلو التفتنا إلى المجتمع النسائي سنجد أن ملايين الساعات تتلف وتضيع، طاقات وإمكانيات وقدرات طائلة تهدر يومياً. أما في جلسات هامشية أو بين أرجوحة التثاؤب والاسترخاء أمام الشاشة الصغيرة بعيداً عن أي هدف حي أو غاية بنّاءة..
وهذا ما يحتاج إلى سعي جاد من القيمين.. وصولاً إلى تحقق احترام حقيقي للوقت وأحداث حالة تحول في أوقات الفراغ.. لتحويلها إلى ما أسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفرص الخير.. فالطاقة النسائية إن فسح لها المجال لمعايشة النهج الأصيل الذي خطت معالمه سيدة نساء العالمين عليها السلام انتعشت وأنعشت.. وأنه في إطار الواقع القائم، وفي إطار الإرادات الفردية للعديد من المتطلعات من صاحبات المواهب والكفاءات ممن يملكن حرارة النهوض ويتقن إلى معالي الأمور، لا بد من وقفة يسيرة مع ما يمكن أن تملأ به أوقات الفراغ:
1- ممارسة العبادات: التي تهذب النفوس وتصقل الأرواح وذلك عبر تحديد ما بالوسع الالتزام به بصورة مستمرة، من مثل:
- المحافظة على النوافل اليومية.
- زيارة عاشوراء.
- الزيارة الجامعة الكبيرة.
- قراءة خمسين آية من القرآن الكريم يومياً.
- الالتزام بدعاء كميل، والعهد، والسمات، والندبة في أوقاتها.
2- متابعة التحصيل العلمي: إذ من المهم إذا توفرت الظروف، الانتساب لإحدى الجامعات أو لإحدى الحوزات العلمية، أو معاهد تعليم اللغات وغيرها.. وذلك وفق برنامج لا يتعارض مع أولويات الأمهات، وإلا كحد أدنى لا بد من الالتزام ببرنامج دراسي عبر شرائط الكاسيت، سواء للدراسة الحوزوية، أو اللغات، أو مجالس العزاء.. وأنه بالاتكال على الله تعالى ستجد أن من جدّ وجد.
3- المطالعة الهادئة الجادة: وهي من أهم الأساليب لملء الفراغ عند المرأة إذ بإمكانها أن تجني من خلالها فائدة عظمى، خصوصاً إن هي ركزت مع صديقة أخرى على وضع برنامج سنوي محدد. وعيّنت أوقاتاً محددة للمباحثة فيما تمّت قراءته..
ولا شك في أن عدم توفير وقت محدد للمطالعة ثغرة عظيمة في حياتنا.. فالكتاب المفيد يمثل أوفى الأصحاب، لأنه يقينا من الانصياع للتفاهات.. ويرتفع بنا إلى مصاف الذين يعلمون..
4- الكتابة: إذ الفن الثقافي لا بد من استثماره، عبر كتابة القصة، أو المقالة، أو الأبحاث، ويبقى الأهم التركيز على ما يمكن الابداع فيه سواء كان للأطفال، أم للناشئة أم على صعيد المرأة أو الساحة عامة، فساحتنا بحاجة ماسة لأي جهد في هذا السبيل.. وأنه في مجال التحصيل العلمي والكتابة، علينا أن نجعل نصب أعيننا الأنموذج الفذ في عصرنا السيدة الفاضلة- آمنة الصدر- بنت الهدى.. والتي لم تدخل مدرسة قط في حياتها وإنما نهلت العلم وأبدعت في التدريس والكتابة من خلال البيت وحسب.. وعبر أخويها الجليلين السيد إسماعيل الصدر ومن ثم السيّد محمد باقر الصدر.. كما حدثتني من لقائي معها قبل استشهادها بعام..
5- المواهب الذاتية: فلقد منّ الله سبحانه على كل منا بموهبة، ومسؤوليتنا أن نكشف عنها ونعمل على تنميتها وتوجيهها الوجهة الصالحة، من قبل كتابة الشعر أو الرسم، أو الخط، أو أي لون آخر من ألوان المهارات الفنية المختلفة والتي إن أبدعنا فيها يمكن أن تكون سبيلاً منتجاً وناجحاً ومفيداً في أكثر من مجال..
6- مساعدة الأبناء في متابعة واجباتهم الدراسية اليومية: وحيث تعيش الأم أمومتها كاملة.. لجهة الوقوف على شخصية أبنائها، واكتشاف الثغرات والمواقف والقدرات، والعمل على معالجتها وتنميتها مباشرة، وهذا ما لا يمكن أن يوفره- الدرس الخاص- والذي بات متعارفاً عليه بشكل أساس في أيامنا..
وبالإضافة إلى هذا، بالإمكان توفير برامج مسلية وجلسة أسبوعية كمراجعة ومحاسبة نفس مع الأبناء.. تكون متنفساً ومنبراً أليفاً لتبادل الآراء والتوجيهات والإرشادات.. وهذا إضافة إلى صلة الأرحام التي شدد عليها القرآن الكريم.. ودعم المقاومين المجاهدين أعزهم الله وأرضاهم ورفع مقامهم.. وذلك عبر كل ما يمكن.. وخصوصاً عبر تلاوة دعاء أهل الثغور مع أطفالنا الصغار أنصار الإمام الحجة أرواحنا لمقدمه الفداء..
وأخيراً بيدنا وليس بيد غيرنا أن نحوّل أوقات الفراغ إلى فرص خير.. ونسعى جاهدين لاستثمار الوقت والعمر.. لتكون الدنيا كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مزرعة الآخرة حقاً..
ولكن دعاؤنا لله تعالى دائماً ما جاء عن الإمام زين العابدين عليه السلام:
"واشغل قلوبنا بذكرك عن كل ذكر وألسنتنا بشكرك عن كل شكر وجوارحنا بطاعتك عن كل طاعة، فإن قدّرت لنا فراغاً من شغل فاجعله فراغ سلامة، لا تدركنا فيه تبعة ولا تلحقنا فيه مسأمة، حتى ينصرف عنا كُتاب السيئات بصحيفة خالية من ذكر سيئاتنا، ويتولى كُتاب الحسنات عنا مسرورين".