"العلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم
في القلوب موجودة". أمير المؤمنين عليه السلام
وهم المرابطون في الثغور المواجهة لأبالسة الدنيا، وهم حماة الدين وقلاعه، وهم حصون
الإسلام كما في الروايات، وإن من أدنى الحقوق التي لهم علينا هو أن نتعرّف إلى
سيرهم ونخوض في غمار البحث للوقوف عند تلك الآيات البينات والأعلام، فإلى قرَّاء
مجلة- بقية الله- نقدم (حصون الإسلام) على حلقات، وما بين يديك- قارئي العزيز- سيرة
واحد من تلك الحصون.
العالم المحقق الورع الثقة الفقيه المحدث الكبير الحافظ الشاعر الأديب الشيخ محمد
بن الحسن بن علي بن محمد بن الحسين الحر العاملي المشغري.
* أسرته الكريمة:
من الأسر العلمية الموزعة في جبل عامل وإيران وغيرها من البلاد المشهورة بـ"آل الحر"
وهي من الأسر العلمية العريقة ذات السوابق العلمية الكثيرة.
وينتهي نسب هذه الأسرة العظيمة إلى شهيد الطف ونصير سيد الشهداء أبي عبد الله
الحسين بن علي عليه السلام (الحر بن يزيد الرياحي) رضوان الله عليه.
يقول السيد الأمين: "وآل الحر بيت علم قديم نبغ فيه جماعات ولا يزال العلم في
هذا البيت إلى اليوم، ويمتازون بالكرم والسخاء وبشاشة الوجه وحسن الأخلاق".
* أساتذته وشيوخه:
تتلمذ الشيخ الحر العاملي عند أساطين العلم وكبار المدرّسين في عصره وروى عن شيوخ
الرواية والحديث في وقته، وهي أسماء لامعة وصلت إلينا عن طريق كتب التراجم وما كتبه
هو بنفسه وهناك كثيرون قد أهملت أسماؤهم ولم تدرج من ضمن أسماء الأساتذة والشيوخ
فلم نقف عليها.
وإليك أسماء بعض ما وقفنا على اسمه من شيخ الحر وأساتذته:
1- والد الحر الشيخ حسن بن علي بن محمد الحر العاملي، قرأ عليه جملة من كتب العربية
والفقه، ويروى عنه عن الشيخ بهاء الدين العاملي والشيخ علي بن محمد الحر العاملي
المشغري جده.
2- عمه الشيخ محمد بن علي بن محمد بن الحسين الحر العاملي المشغري الجبعي، قرأ عليه
جملة من كتب العربية والفقه وغيرهما من قرية جبع..
3- الشيخ زين الدين بن محمد بن الحسن بن زين الدين الشهيد الثاني قرأ عليه جملة من
كتب العربية والحديث والفقه وغيرها.
4- الشيخ حسين بن الحسن بن يونس الظهيري العاملي العيناتي، قرأ عنده جملة من كتب
العربية والفقه وغيرهما من الفنون ومما قرأ عنده أكثر كتاب المختلف.
وإلى جانب هذا يبدو مما كتبه المترجمون له وما كتبه هو بنفسه أنه كان يدير حلقة
كبيرة للتدريس يحضرها جماعات كثيرون من سائر الأقطار وللأخذ عنه والحضور عنده.
يقول المؤلف من ضمن ترجمة السيد حسين بن محمد بن أبي الحسن الموسوي العاملي الجبعي:
"وكان مدرساً في الحضرة الشريفة من القبة الكبيرة والشرقية وأعطيت في مكانه".
* ما قيل فيه:
قال السيد علي صدر الدين المدني: "عَلَمُ عِلْمٍ لا تباريه الأعلام وهضبة فضل لا
يفصح عن وصفها الكلام، أرحبت أنفاس فوائده أرجاءً وأحيت كل أرضٍ نزل بها فكأنها
بقاع الأرض أمطار، تصانيفه في جبهات الأيام غرر، وكلماته في عقود السطور درر، وهو
الآن قاطن بأرض العجم ينشد لسان حاله:
أنا ابن الذي لم يخز في حياته |
ولم أخزه لما تغيب بالرجم |
يحيي بفضله مآثر أسلافه، وينشىء مصطحباً ومغتبقاً برحيق الأدب وسلافه، وله شعر
مستعذب الجنا بديع المجتلى والمجتنى.
وقال المحدث الكبير الشيخ عباس القمي:
"محمد بن الحسن بن علي المشغري شيخ المحدثين وأفضل المتبحرين العالم الفقيه
النبيه المحدث المتبحر الورع الثقة الجليل أبو المكارم والفضائل صاحب المصنفات
المفيدة، منها الوسائل الذي منّ على المسلمين بتأليف هذا الجامع الذي هو كالبحر لا
يساحل، ومنها كتاب أمل الآمل الذي نقلنا منه كثيراً من هذا الكتاب، جزاه الله تعالى
خير الجزاء لخدمته بالشريعة الغراء".
وقال العلاَّمة الشيخ عبد الحسين الأمين:
"هو مجدد شرف بيته الغابر من أعلام المذهب وزعماء الشيعة، تقلد شيخوخة الإسلام
على العهد الصفوي، اختصه المولى بتوفيق باهر قل من ضاهاه فيه فنشر أحاديث أئمة
الدين صلوات الله عليهم".
وقال العلامة السيد شهاب الدين المرعشي:
"وممن حظي في ذلك بالسهم الوافر، واصطف في زمرة المكثرين المجيدين، العلاَّمة
الجسر المتبحر، حريث علمي الفقه والحديث نابغة الرواية مركز الإجازة وقطب رحاها،
علم الفضل وعليمه، النجم المضيىء من القطر العاملي، أبو بجدة الآثار يتيمة عقد
النقل، جوهرة التقوى والعدالة، مولانا أبو جعفر الشيخ محمد بن الحسن (آل الحر
العاملي المشغري الجبعي).
* ثقافته العالية:
كان الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي في الطليعة من علمائنا الذين حازوا المرتبة
الأولى من العلم والفضل والثقافات الإسلامية التي كانت منتشرة في أيامهم كما كان
لشيخنا المترجم حظ وافر من مؤلفاته القيمة الكثيرة حيث أصبحت مرجعاً هاماً من
المراجع التي يستند إليها في أخذ الأحكام الفقهية وغيرها.
وإلى جانب إكثاره من التأليف والتصنيف كان أيضاً جيداً في الترتيب والتنسيق وترصيف
الأبواب والفصول واختيار المواضيع الهامة المحتاج إليها.
هذا كتابه "وسائل الشيعة" بينما نراه كتاباً حديثياً ضخماً تجده أيضاً كتاباً فقهياً
فيه ألوان من الفقه الاستدلالي حينما يريد الجمع بين الروايات المختلفة واستخراج
الحكم الفقهي منها، وهو إلى جانب هذا وذاك كتاب يجمع أقوال كبار فقهاء الإمامية
الذين يستند إلى أقوالهم، وعلى الأخص فتاوى وأقوال شيخ الطائفة الشيخ الطوسي- قدس
الله روحه.
وهذا كتاب "إثبات الهداة" رائعة من الروائع الحديثية الجامعة لتواريخ المعصومين
والروايات الواردة في شأنهم من طرق الشيعة والسنة بالإضافة إلى مقطوعات شعرية راقية
من عيون الشعر العربي في المديح والرثاء.
وهذا "أمل الآمل" كما تراه
آية في فن التراجم جامعة لأكثر النقاط الهامة في ترجمة كل من ترجم له في الكتاب وهو
في نفس الوقت بعيد عن المبالغات والسفسطات أو المس بكرامة المترجمين.
وهذا "ديوان الحر" جامع بين صحائفه لكل الفنون الشعرية من المديح والرثاء والغزل
والوصف والرجز وغيرها.
وأخيراً هذه آثار الحر العاملي شاهدة على تضلعه في العلوم الإسلامية واطلاعه على
العلوم السائدة في عصره وتبحره فيها وشدة اعتنائه بها وكثرة معالجته لها. ومن
الطبيعي أن يقع من الموسوعات الكبيرة بعض الهنات والأخطاء لضخامة العمل وتشتت
جوانبه وكثرة أبوابه وفصوله، وهذا لا يقلل من قيمة تلك الموسوعات ولم يحط من قدره
العلمي إذ لم تكن تلك الأخطاء والهنات كثيرة تسبب التشويه والتشويش ولذلك نرى أنه
بالرغم من وجود بعض الاشتباهات الطفيفة في كتاب الوسائل مثلاً لم يبتعد عن المجتمع
العلمي بل كان مرجعاً كبيراً يرجع إليه الفقهاء بأجمعهم من يوم تأليفه حتى يوم
الناس هذا وهذا دليل واضح على قوة تأليفه وشدة رعاية مؤلفه للقواعد الموضوعة لجميع
الكتب الحديثية.
* اتجاهه الفقهي
الشيخ الحر العاملي كان إخبارياً صرفاً في اتجاهه الفقهي ولكن لم يكن متطرفاً يشنع
على الأصوليين كالمولى الأمين الاسترابادي ولهذا نراه يذكر فيكتبه وخاصة في الوسائل
وأمل الآمل- أعلام الفريقين بكل تجلة واحترام ولا يحط من مرتبة أي واحد لسبب اتجاهه
الخاص في الفقه إذا صح هذا التعبير.
* مؤلفاته القيمة:
1- تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، المشهور ب-"وسائل الشيعة"
و"الوسائل" وهو كتاب جليل يشتمل على قسم وافر من الأحاديث الصحيحة المعمول بها عند
العلماء الإمامية الاثني عشرية.
2- (من لا يحضره الإمام) فهو فهرس تفصيلي لكتاب وسائل الشيعة يشتمل على
عناوين الأبواب وعدد أحاديث كل باب ومضمون الأحاديث وهو مطبوع مع الوسائل.
3- (تحرير وسائل الشيعة وتحبير مسائل الشريعة) يشتمل على بيان ما يستفاد من
الأحاديث والفوائد المتفرقة في كتب الاستدلال من ضبط الأقوال ونقد الأدلة وغير ذلك
من المطالب المهمة وقد خرج منه شرح المقدمة وكتاب العبادات وكتاب الطهارة إلى مبحث
الماء المضاف.
4- (إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات) وهو كتاب يجمع بين دفتيه الأحاديث
الواردة في شأن النبي والزهراء والأئمة المعصومين (عليهم السلام) والتي نقلها علماء
الفريقين في مؤلفاتهم وبلغت مصادر هذا الكتاب إلى ما يقرب من خمسمائة مصدر من أمهات
المصادر الإسلامية الشيعية والسنية، هذا بالإضافة إلى أكثر من عشرين مؤلفاً ومصنفاً.
* نماذج من شعره:
عالج الحر العاملي أكثر الفنون والأغراض الشعرية من المدح والهجاء والرثاء والغزل
والوصف والوعظ والتخميس والمحبوكة الطرفين والمحبوكة الأطراف والتاريخ والمعين
وغيرها.. وأكثر شعره يختص بمدح النبي صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين ورثائهم،
ثم الوعظ وبقية الأغراض الشعرية المختلفة.
أما ومحيّاً ذي سناً وسناء |
سما فتخيلناه بدر سماء |
إلى مثله يعزى الهوى ونظيره |
وإن كان في أمنٍ من النظراء |
أرى لضلال الحب عذبا عذابه |
كأن شقائي من هواه شفائي |
فيلتزم الحر في نثره طريقة السجع والمحسنات اللفظية التي كان القدماء يلتزمون بها،
ولا يخلو نثره من طلاوة في اللفظ وطراوة في المعنى ووقع حسن في النفس يلتذ من سماعه
الإنسان ويود الاستمرار في القراءة إلى آخر الشوط..
* مكانته الاجتماعية والعلمية:
يبدو مما كتبه أرباب معاجم التراجم أن الشيخ الحر كان يتمتع بشهرة مميزة في الأوساط
العلمية والاجتماعية وكان له مكانة مرموقة أينما حل ونزل وكان موضع احترام الطبقات
في البيئات المختلفة وكان الناس ينظرون إليه بعين الإكبار والتجليل وهو ذو شخصية
لامعة عند المؤالف والمخالف، ولم يذكره أحد من المترجمين له إلا ويستصحب ذكره
عبارات رقيقة تدل على عظمته وسمو مكانته في نفس الكاتب. فقد أعطى منصب التدريس في
الحضرة الشريفة في القبة الكبيرة الشرقية مكان السيد حسين بن محمد بن أبي الحسن
الموسوي العاملي هو مكان كان يختص بأكبر المدرسين في مشهد الإمام الرضا عليه
السلام)والمقدم على علماء خراسان- كما سبق ذلك.
* أسفاره:
كان مولد المؤلف ومسقط رأسه قرية مشغرة من قرى جبل عامل وهي المتعارفة حالياً ب-(البقاع
الغربي) وبها نشأ نشأته الأولى، وفيها قضى أيام صباه وشبابه يحضر على والده المقدس
وسائر أقاربه للإرتواء من مناهلهم الروية ثم أخذ يتجول في أرض الله للاستزادة من
العلوم والأخذ من سائر الشيوخ وزيارة المشاهد المشرفة والمراقد المقدسة.
* مولده ووفاته:
كان مولده- رحمة الله تعالى- في قرية مشغرة ليلة الجمعة ثامن شهر رجب ثلاث وثلاثين
وألف.
توفي في اليوم الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1104هـ وصلى عليه أخوه
العلاَّمة الشيخ أحمد صاحب الدر المسلوك تحت القبة جنب المنبر واقتدى به الألوف من
الناس ودفن في أيوان حجرة من حجرات الصحن الشريف ملاسقة بمدرسة المرحوم الميرزا
جعفر وهو اليوم مشهور يزار وعليه ضريح صغير من الصغر يقصده المؤمنون بقراءة القرآن
والفاتحة والتبرُّك به.