الشيخ د. أكرم بركات
إحياء ذكرى يعني إحياءً لكمالات صاحبها؛ كي تنبضَ بها حياة المعتبرين، فإنْ كان
الراحل هو الإنسانَ الكاملَ الذي تجسَّدت فيه كمالاتُ عالم الإمكان، وإن كان الراحل
غير راحل، بل انتقل إلى عالم أقوى ذي اتصال، فإنّ الإحياء لا يعود لذكرى ماضية، بل
يكون القبسَ من جذوة هذه الحياة الخالدة، وإنّ الكمال لا ينحصر في ضيق، بل يتّسع في
المساحة الأرحب للوجود.
من جذوة الكمال تلك، نحوم حول قبسٍ منها، لا لنحيي ذكرى النبي محمد صلى
الله عليه وآله وسلم، بل لنحيا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، والقبس هو
"البصيرة".
* أدعو إلى سبيل الله على بصيرة
قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ
عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ﴾ (يوسف:108). والبصيرة هي المصطلح القرآني الذي عبّرت
عنه الآية بأنّها أساس دعوته والتابعين له في مسيرته.
وتعني البصيرة رؤية العقل للواقع والحقيقة، مقابل البصر الذي هو رؤية العين للمادة.
كما تعني البصيرة رؤية المشهد كلّه، وقراءة خلفيّاته التي أثّرت في وجوده؛ لنحدِّد
في ضوء ذلك، المسارَ الموصل إلى الهدف المنشود. فإنّ المشهد الذي تشرف عليه بصيرة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هو أفق الوجود كلِّه، من عالم الوجود المنبسط
إلى خلود الدارين.
وبينهما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حدَّد القضيّة الأمّ في مشروعه
الإسلامي، الذي انطلق من مبدأ تكامل البشريّة الصعودي لتتهيّأ لتحمُّل الكمالات
الأعلى. وهذا ما كان أبطاله الأُوَل في تاريخ الإنسانيّة هم أولي العزم الخمسة. فمع
نوح عليه السلام آمنت بشريّة السفينة بالتواصل مع الله عبر الرسول الإنسان، ومع
إبراهيم عليه السلام سارت البشريّة في درب التوحيد لله عزَّ وجلَّ، ومع موسى عليه
السلام عاشت البشريّة قضيّة التشريع، ومع عيسى عليه السلام كانت الخطّة أن تنتقل
البشريّة لطور جديد وقف اليهود عقبة أمامه ليرفعه الله تعالى إليه، ولعلّ ذلك لأنّ
دوره سيكتمل لاحقاً مع عزيزه القادم.
* محمد صلى الله عليه وآله وسلم إقامة الدين بيد الرحمة
ومع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان إعلان القرآن لساحة رسالته صلى الله
عليه وآله وسلم، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا
رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107)، وقال تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ
الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾
(التوبة: 33).
إنّ الآية الأولى تؤكِّد أنّ ساحة رسالته صلى الله عليه وآله وسلم هي كلُّ الناس،
بغاية قيَمِيَةٍ؛ هي الرحمة لهم. والآية الثانية توضِّح الهدف الأخير لرسالته صلى
الله عليه وآله وسلم وهو إقامة دين الحقّ على الدّين كله.
ولأنّ ساحة الرسالة هي الناس كلُّهم، خاطبهم الله تعالى بقوله:
﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾
(التوبة: 128). والنداء هنا للناس غير المؤمنين، بقرينة التعقيب بـ
﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾؛ ولأجل
ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجابه من يرشقونه بالحجارة بدعائه لهم:
"اللهم اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون"، وكان يبكي على جنازة يهوديّ؛ لأنّها نفسٌ
فرّت منه إلى جهنّم.
ولأنّ الرسالة عالميّة، ومشروعها تغيير العالم، فتَح الإسلام بابه على الآخرين
بسهولة، فاعتبر التصريح اللفظي بالإسلام كافيًا لقبول إسلام صاحبه، قال تعالى:
﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا
وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾
(الحجرات:14). وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل إسلام
الإنسان بمجرَّد نطقه بالشهادتين.
* الرحمة وتثبيت الدّين
كانت مسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي تثبيت هذا الدين في المجتمع، وكانت
حروبه توجّه إلى من يُشكّل اعتداءً على هذا الدين، وإلّا فما معنى أن يوقّع وثيقة
التفاهم في المدينة مع مشركيها، وفي الوقت نفسه يحارب مشركي مكة؟ أليس لأنَّ
المواجهة لم تكن مع المشركين بحدّ أنفسهم، بل كانت لكون مُشركي مكة يشكّلون تهديداً
للكيان الإسلاميّ؟
كذلك، ما معنى أن يوقِّع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صلح الحديبية مع مشركي
مكة؟! أليس يعني أنّ الصلح بات مبدداً لهذا التهديد؟ كان الصلح يُؤمِّن -فيما بعده-
تحقيق جاذبيّة للإسلام بشكل أقوى.
لقد كانت القضية الأمّ في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي التنزيل؛ بنشر
رسالة الإسلام؛ لتكون القضية بعدها هي التأويلَ الذي ثبّته الحسين عليه السلام في
انتهاء الجيل الأول للرسالة عام 61 هـ بدمه الطاهر، ولتكون القضية بعد ذلك هي
التمهيد لتحقيق حكومة الله الكبرى حكومة العدل والإيمان الذي يجتمع فيها المسيح
عيسى بن مريم عليه السلام مع المهدي من آل محمد عجل الله تعالى فرجه الشريف.
* قضيتنا على ضوء بصيرته صلى الله عليه وآله وسلم
ينطلق دورنا التمهيدي من تلك البصيرة المحمدية، بتهيئة مجتمع إسلاميّ يعيش
الإنسانيّة في حياته، والوحدة بين سائر المسلمين، ويميِّز الصديق من العدوّ،
ويحدِّد القضيّة الأمّ لتكون لها الأولويّة في مساره، وعلى أساسها ينسج صداقاته
وعداواته، فالعدوّ هو عدوّ القضيّة المحارِب لها، وليس ما يخالف في الرأي. من هنا
نؤكِّد:
أولاً: على ضرورة العمل الدائم، على إظهار الصورة الحقيقية لرسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ورسالته، أمام ما ينالها من التشويه.
ثانياً: على وحدة المسلمين.
ثالثاً: على الدفاع عن المظلومين أينما وُجدوا.
رابعاً: على حقّ المقاومة، ضد العدو الصهيوني، ووجهه الآخر (التكفيريّين).
في ذكرى ولادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحيّي إمام الوحدة الراحل الخميني
العظيم قدس سره، والولي المفدَّى الذي نسلك ونذلّل العقبات في ضوء بصيرته، كما
نحيّي أبطال المقاومة الذين بجهادهم يشعُّون القبس الآتي من جذوة الرسالة.