عن معاوية بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام
يقول: "كان في وصيّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام أن قال:
يا عليّ أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها عني، ثم قال: اللهمّ أَعنه، أمّا الأولى:
فالصدق، ولا يَخرجنّ من فيكَ كذبة أبداً.."(1).
من وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ملازمة الصدق، والابتعاد عن الكذب.
ويُستفاد من تقديم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الوصيّة على الوصايا
الأخرى، أنّها أهمّ من كافّة الوصايا المذكورة. في البيان، سنقدّم مفاسد الكذب على
مصالح الصدق.
•سقوط دنيويّ
اعلم أنّ هذه الرذيلة من الأمور التي اتفق العقل والنقل على قبحها وفسادها، وأنّها
نفسها من الفواحش والمعاصي الكبيرة، كما تدل على ذلك الأخبار. وقد تترتّب عليها
مفاسد أخرى، لا تقل عن هذه الموبقة، بل قد يسقط الإنسان من أعين الناس في الوسط
الاجتماعي إثر كذبة واحدة عندما تُكتشف، ولا يستطيع إلى نهاية عمره أن يجبرها. فإذا
اشتهر إنسان لا قدّر الله بالكذب، فلعلّه لا يوجد شيء آخر يسيء إلى شخصيّته أكثر
منه. ومضافاً إلى ذلك، فإنّ مفاسده الدينية وعقوباته الأخروية كثيرة أيضاً.
•شرّ الشرور
روي في "الوسائل" عن محمد بن يعقوب بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال: "إنّ
الله عزّ وجلّ جعل للشرّ أقفالاً وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شرّ من
الشراب"(2).
والآن تدبّر في هذا الحديث الشريف المروي عن عالم آل محمد عليهما السلام، والمذكور
في كتاب يُعدّ مرجعاً لجميع علماء الأمة، ويُتلقى بالقبول لدى كافّة العلماء (رضوان
الله عليهم)، وانظر هل يبقى سبيل للاعتذار؟ أليس هذا التهاون في الكذب إلا جرّاء
ضعف إيمان تجاه أخبار أهل بيت العصمة عليهما السلام؟
نحن لا نعرف الصور الغيبية لأعمالنا، ولا ندرك الارتباطات الغيبية بين المُلك
والملكوت، ولهذا نبتعد عن مثل هذه الأخبار، ونحمل أمثالها على المبالغة، ولكن هذا
المنهج باطل وناتج عن الجهل والضعف في الإيمان. هل نستطيع أن نقول عن كل شيء إنه
أسوأ من الخمر، أم لا بدّ من أن يكون الشيء ذا شرّ عظيم حتى نتمكن من المبالغة
ونقول إنّه أعظم من الخمر؟!
•المؤمن لا يكذب
وعن الإمام أبي جعفر عليه السلام قال: "الكذب هو خراب الإيمان"(3).
في الحقيقة، إنّ مثل هذه الأخبار، تهزّ أعماق الإنسان، وتقصم ظهره؛ فإنّنا نتصوّر
أنّ الكذب من الأعمال الفاسدة، التي فُقد الإحساس بقبحها نهائياً جرّاء شيوعها بين
الناس، ولكن سيأتي وقت ننتبه فيه ونشعر بأن الإيمان الذي هو رأس مال حياة عالم
الآخرة، قد زال من أيدينا جرّاء الاستهانة بالكذب، ولم نشعر بذلك أبداً.
وعن الإمام أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: "سُئل رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: يكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم، قيل: ويكون بخيلاً؟ قال: نعم، قيل: ويكون
كذّاباً؟ قال: لا"(4).
•حرامٌ جدّه وهزله
من الأمور التي لا بدّ للإنسان من أن يلتفت إليها، أنّ الأخبار قد استنكرت الكذب
حتّى هزله ومزحه، وشدّدت في ذلك...
عن الكافي الشريف عن الإمام أبي جعفر عليه السلام قال: "كان علي بن الحسين
عليهما السلام يقول لولده: اتقوا الكذب، الصغير منه والكبير في كلّ جدّ وهزل، فإنّ
الرجل إذا كذب في الصغير، اجترى [اجترأ] على الكبير. أما علمتم أنّ رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم قال: ما يزال العبد يصدُق حتى يكتبـه الله صِدّيقـاً، وما يزال
العبد يكذب حتى يكتبه الله كذّاباً؟"(5).
وفي الكافي عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "لا يجد عبدٌ
طعم الإيمان حتى يترك الكذب، هزله وجدّه"(6).
•ويلٌ لمن يكذب ليُضحِك
وفي وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر: "يا أبا ذر، ويلٌ للذي
يُحدّث فيكذب ليُضحك به القوم، ويلٌ له، ويلٌ له"(7).
وبعد عرض هذه الأخبار الشديدة والمنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
والأئمة المعصومين عليهما السلام، يتبيّن أنّ من الجرأة الكبيرة والشقاء المضاعف،
أن يقدم الإنسان على هذا الأمر الخطير، والمعصية الكبيرة.
أخيراً، كما إنّ الكذب قد عُدّ من المفاسد الخطيرة جداً، عُدَّ صدق اللهجة مهماً
جداً، وأُثنيَ عليه في أخبار أهل البيت عليهما السلام ثناءً بليغاً. فقد روى الصدوق
رحمه الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ أقربكم منّي غداً
وأوجبكم عليّ شفاعة، أصدقكم لساناً، وأدّاكم للأمانة، وأحسنكم خُلقاً، وأقربكم من
الناس"(8).
(*) الأربعون حديثاً، الإمام الخميني قدس سره، الحديث ٢٩، فصل في مفاسد الكذب.
1.روضة الكافي، الكليني، ص79.
2.شرح أصول الكافي، المازندراني، ج9، ص399.
3.(م.ن).
4.وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج12، ص246.
5.شرح أصول الكافي، (م.س)، ج9، ص398.
6.(م.ن)، ص401.
7.وسائل الشيعة، (م.س)، ج12، ص251.
8.الأمالي، الصدوق، ص598.