السيّد عبّاس عليّ الموسويّ (رضوان الله عليه)
قد يقول بعض الناس إنّ الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف يأتي بعد الغياب الطويل وقد ذُلّلت له الرقاب وخضعت له الأعناق، ليجلس في موقعه كحاكم يدير العالم وينظّم أمور الناس. وقد يذهب بعضهم الآخر إلى القول إنّه يأتي بالمعجزات القاهرة التي تُلجئ الناس إلى الإيمان وتضطرّهم إلى السير في دعوته وركاب مسيرته. هذان الاعتقادان خاطئان، إذ إنّ جهاد الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف ونضاله وكفاحه ستكون من المهام الصعبة والمريرة والشاقّة جدّاً.
* حركة شاقّة
إنّ حركة الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف ستكون في وقت تفتّحت فيه العقول ونضجت الأفكار وانتشرت المذاهب وتعدّدت النظريّات، فيأتي عجل الله تعالى فرجه الشريف حاملاً رسالة الإسلام الأصيل ليصدم به كلّ العقول والأفكار ويردّ الناس إلى هذا الدين. ولصعوبة الظروف الفكريّة والثقافيّة والعلميّة، يكشف الإمام الصادق عليه السلام عن ذلك فيقول: «إنّ قائمنا إذا قام استقبل من جهل الناس أشدّ ممّا استقبله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جهال الجاهليّة. قلت: (الراوي) وكيف ذاك؟ قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى الناس وهم يعبدون الحجارة والصخور والعيدان -أي الأصنام المنحوتة منها- وإنّ قائمنا إذا قام أتى الناس وكلّهم يتأوّل عليه كتاب الله يحتجّ عليه به»(1).
وعن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر (الباقر) عليه السلام يقول: "إنّ صاحب هذا الأمر لو قد ظهر لقي من الناس ما لقي رسول الله وأكثر"(2).
فعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان معظم الناس يعيشون السذاجة في التفكير والبساطة في الإدراك. ومع أنّهم كانوا يعبدون الأصنام، كانوا في بعض الأحيان يحتقرونها ويعمدون إلى أكل المصنوع منها من التمر إذا جاعوا. أمّا الآن، فقد تغيّرت الأفكار وتعدّدت وارتقت. وأخذت كلّ فرقة وطائفة ومذهب من المسلمين تحتجّ بكتاب الله وآياته، وتدّعي أنّها على الصواب والحقّ، بينما غيرها على الباطل. لذا، إذا قام القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف، يواجهه هؤلاء بتأويل كتاب الله وتفسيره على مزاجهم بما يخدم رؤيتهم وما يذهبون إليه.
أمّا الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، فيواجه الكفر والانحراف بعدم الترحيب به، بل برفضه ورفض دعوته.
* علم الواقع عند الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف
من خصائص الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف أنّه لا يحتاج إلى بيّنة من شهود وإيمان لإثبات حقّ أو نفيه، وإنّما أعطاه الله علم الواقع الذي يحكم بمقتضاه. إنّه يعرف القضايا والأحكام كما هي، وقد أطلعه الله عليها، ونفذت بصيرته وعلمه إلى عمقها، فأدرك السليم من السقيم والصحيح من الخطأ.
هذا الأمر لم يعهد لأحد إلّا للعبد الصالح الخضر عليه السلام صاحب موسى ومعلّمه، الذي ينطلق مع النبيّ موسى عليه السلام ويشترط عليه أن لا يسأله عن شيء يفعله، حتّى يكون هو الذي يبادره من نفسه إلى إعلانه: ﴿فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا﴾ (الكهف: 71)، ﴿فَأَنطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ﴾ (الكهف: 74)، ﴿فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾ (الكهف: 77). فالعبد الصالح تصرّف في هذه القضايا بمقتضى ماعنده من علم ممّا لم يكن عند موسى عليه السلام الذي أدرك صحّة عمله ومطابقته للحقّ والعدل.
الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف يتمتّع بهذه الخاصيّة أيضاً. وعندما يظهر، تكون الأمور مكشوفة أمامه في واقعها، فيحكم فيها بحكم الله ويقضي بقضائه.
ورد في كمال الدين عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام: «سيأتي في مسجدكم - يعني مسجد مكّة- (ثلاثمئة) وثلاثة عشر رجلاً يعلم أهل مكّة أنّه لم يلدهم آباؤهم ولا أجدادهم، عليهم سيوف مكتوب على كلّ سيف كلمة تفتح ألف كلمة، فيبعث الله تبارك وتعالى ريحاً فتنادي بكلّ واد: هذا المهديّ يقضي بقضاء داوود وسليمان عليهما السلام، ولا يريد عليه بيّنة»(3).
في الحديث عن أبي عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام قال: «إذا قام قائم آل محمّد، حكم بين الناس بحكم آل داوود، لا يحتاج إلى بيّنة، يلهمه الله تعالى فيحكم بعلمه ويخبر كلّ قوم بما استبطنوه، ويعرف وليّه من عدوّه بالتوسّم، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتِ لِلْمُتَوَسِّمِينَ* وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ﴾ (الحجر: 75 - 76).
تكشف هاتان الروايتان وغيرهما عن أسرار علم الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وما أعطاه الله من الفضل، فلا يستعصي عليه قضاء، ولا يُغلق عليه حكم، ولا يخطئ في ما يقضي به أو يقوله، بل يعرف أسرار الناس وخفاياهم وما تنطوي عليه قلوبهم من ولاء أو عداء، ففي الحديث عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام قال: «إذا قام القائم، لم يقم بين يديه أحد من خلق الرحمن إلّا عرفه صالح هو أم طالح»، وذكر آية المتوسّمين المتقدّمة(4).
إنّ حكم الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف يحقّق أعلى درجات العدل الموعود في الدنيا كلّها وعلى امتداد مساحاتها الجغرافيّة والزمانيّة. إنّه يردّ الحقوق إلى أهلها، ويمنع استمرار الخطأ فضلاً عن الخطيئة، ويعطي كلّ ذي حقّ حقّه، ويقضي بالحقّ الذي لا يحتمل الخطأ، فإذا عرف الناس ذلك، اطمأنّوا إلى أحكامه وتقبّلوا ذلك براحة نفس وقناعة كاملة. وإذا عرفوا أنّ الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف محيط بأحوالهم، كفّوا عن ممارسة الانحراف والحرام، وحاولوا جهدهم أن يصحّحوا مسيرهم ويتوجّهوا بصدق إلى الأهداف والغايات التي يريدها الإسلام ويدعو إليها الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف.
*مقتبس من كتاب: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عدالة السماء، ص 295 - 299.
(1) الغيبة، النعماني، ص 208.
(2) المصدر نفسه.
(3) كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ج 2، ص 671.
(4) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 52، ص 360.